الملف اللبناني على طاولة البيت الأبيض

واشنطن تتدخل بعد انكفاء لحماية الاستقرار ومنع التدهور الاقتصادي والسياسي

الملف اللبناني على طاولة البيت الأبيض
TT

الملف اللبناني على طاولة البيت الأبيض

الملف اللبناني على طاولة البيت الأبيض

عادت الولايات المتحدة الأميركية عن انكفائها عن الوضع الداخلي اللبناني منذ 2005، وتدخلت بشكل مباشر تنبيهاً وتحذيراً من انفلات الأمور وتدهور الاستقرار في بيان نادر وغير مسبوق. هذا البيان عجّل الاتصالات التي أفضت إلى تسوية الأمور، وإعادة تفعيل مجلس الوزراء المعطل لمدة 5 أسابيع عن الاجتماع، إثر الانقسام السياسي الحاد بين المكونات اللبنانية على خلفية الإشكال المسلح في منطقة قبرشمون في جبل لبنان، وهو الإشكال الذي أسفر عن مقتل اثنين من مرافقي وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب.
البيان المفاجئ الصادر عن السفارة الأميركية في بيروت، يوم الأربعاء الماضي، الداعي إلى تجنب «تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية»، يكشف إعادة واشنطن الملف اللبناني الداخلي إلى دائرة اهتماماتها - بعد تنحيته، على الأقل إعلامياً - منذ 2005، وضمته أخيراً إلى الملفات اللبنانية ذات التقاطعات الدولية أو الإقليمية التي تعتبر نفسها معنية بها. وهذا أمر يرى فيه مسؤولون ومراقبون «تدخلاً حاسماً للحفاظ على الاستقرار والستاتيكو القائم»، نجح في إعادة الأمور إلى نصابها بفعل الضغط الذي تستطيع واشنطن ممارسته في حال رفض الاستجابة لهذا المطلب.
يكشف البيان الذي أصدرته السفارة الأميركية في بيروت، يوم الأربعاء الماضي، انخراطاً غير مسبوق في الوضع الداخلي اللبناني تستأنف عبره واشنطن نشاطها على الساحة اللبنانية لتعزيز الاستقرار، ومنع التدهور الأمني والاقتصادي، وتفعيل عمل المؤسسات. وهذه ثوابت لطالما أعلنت الولايات المتحدة تمسكها بها، لحماية المكتسبات السياسية اللبنانية التي رعتها بنفسها، خلال ثماني سنوات من التوترات في المنطقة. وعليه، يدخل لبنان في حقبة جديدة تعلن فيها واشنطن عن رعايتها الاستقرار السياسي، وتتدخل لإحاطته بدرع حماية عندما تدعو الحاجة، أسوة بتدخلات سابقة كانت مباشرة وتنوعت بأدواتها، حدثت أعوام 1958 و1983 و2005.
الوسط السياسي اللبناني فوجئ بالبيان حول الأزمة السياسية المتصاعدة في الداخل اللبناني إثر أزمة قبرشمون، التي خلقت اصطفافات جديدة على المشهد السياسي. وجاء البيان بعد انسداد السبل لحلحلة الأزمة، حين أعلن رئيس مجلس النواب نبيه برّي وقفه مبادراته، واستسلام المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي واظب على إجراء لقاءات مع المعنيين في «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«الحزب الديمقراطي اللبناني»، واعتبار «التقدمي الاشتراكي» أن الرئيس اللبناني ميشال عون دخل طرفاً في الصراع، عندما نُقل عنه قوله لزواره إن الكمين كان معدّاً لاغتيال وزير الخارجية جبران باسيل.
الأزمة، برأي مراقبين وسياسيين، تتخطى الجانب القضائي والأمني. هي ذات امتدادات سياسية، حذّرت مصادر سياسية من أنها تسعى للإخلال بالتوازنات السياسية القائمة منذ عام 2005، التي يسعى وزير الخارجية جبران باسيل (المدعوم من «حزب الله») إلى تغييرها عبر إقصاء النائب السابق وليد جنبلاط، أو تقليص حضوره السياسي وموقعه، إضافة إلى تهميش حزب «القوات اللبنانية». وهو ما تصدّى له رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة سعد الحريري. ثم دخلت الأزمة في منعطفات خطيرة، إثر اتهام «التقدمي الاشتراكي» مقرّبين من رئيس الجمهورية بـ«فبركة» ملف قضائي للاقتصاص من جنبلاط.

بيان نادر وغير مسبوق
في ظل هذه التطورات التي أفضت إلى تعقيدات سياسية في غياب أي أفق للحل، أصدرت السفارة الأميركية في بيروت بياناً غير مسبوق لناحية تأكيده على ملف لبناني محلي صرف. وجاء البيان مرتبطاً بصلب الأزمة السياسية الراهنة في لبنان التي اندلعت إثر الإشكال في قبرشمون، وأجّج الانقسام السياسي على خلفية إصرار «الحزب الديمقراطي اللبناني» و«التيار الوطني الحر» (التيار العوني) لإحالته إلى المجلس العدلي، مقابل رفض رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة سعد الحريري. وإثر هذا الانقسام، رفض رئيس الحكومة الدعوة لعقد جلسات لمجلس الوزراء منعاً لتفجر الحكومة ونقل الخلافات إلى داخلها، لا سيما أن الخلاف المتصاعد هو تحديداً بين وزراء كتل ممثلة في الحكومة، اثنان منهم من حصة جنبلاط، والآخر هو صالح الغريب، فضلاً عن وزير الخارجية جبران باسيل الذي يتهمه «التقدمي الاشتراكي» بالمسؤولية المعنوية والسياسية والقانونية عن الحادثة.
بيان السفارة، الذي وُصِف بأنه غير مسبوق ونادر تضمن تنبيهاً من استمرار التأزم والانغلاق على الحلول لأزمة قبرشمون، ولقد أكدت السفارة عبره «دعم الولايات المتحدة المراجعة القضائية العادلة والشفافة دون أي تدخل سياسي». وشدّدت على أن «أي محاولة لاستغلال الحادث المأسوي الذي وقع في قبرشمون في 30 يونيو (حزيران) الماضي بهدف تعزيز أهداف سياسية، يجب أن يتم رفضها».
وقالت السفارة إن الولايات المتحدة «عبَّرت بعبارات واضحة للسلطات اللبنانية عن توقّعها أن تتعامل مع هذا الأمر بطريقة تحقق العدالة دون تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية».

ضمان استمرار المؤسسات
يكسر البيان السلبية الأميركية واستراتيجية واشنطن السابقة القاضية بتجنّب الدخول في الملفات الداخلية، فهي نادراً ما تصدر بياناً مرتبطاً بأزمة داخلية أو ملف محلي وله علاقة بصلب الأزمة السياسية المتصاعدة في لبنان، بل تكتفي بالإشادة في الملفات اللبنانية الداخلية بإجراء استحقاقات كالانتخابات النيابية، أو تشكيل الحكومة. وعادة ما كانت السفارة تصدر بيانات متعلقة بملفات لبنانية ذات إبعاد إقليمية ودولية وأمنية، مثل دعم الجيش اللبناني والقوى المسلحة الشرعية في محاربة الإرهاب وحفظ الاستقرار، وأخرى متعلقة بالحفاظ على الاستقرار الحدودي جنوباً والالتزام بالقرار الدولي «1701». وتشدّد على دعمها على الاستقرار في البلاد، وعلى تفعيل عمل المؤسسات.
وفي ضوء هذا التطور، أوضح مصدر مراقب للمواقف الأميركية في لبنان لـ«الشرق الأوسط» أن البيان «يتضمن تنبيهاً من استمرار الأزمة وإقفال المؤسسات وتجميد عملها». ولفت إلى أن السفارة في العادة «تمارس الحذر لجهة إبداء راي أو موقف في ملفات لبنانية محلية، لكن هذا البيان يبدو أنه ينطلق من مخاوف جدية من تعطيل لعمل المؤسسات، علماً بأن الأزمة متعلقة بصلب عمل المؤسسات الرسمية»، وبالأخص، تعطيل اجتماعات الحكومة لخمسة أسابيع حتى الآن بغياب أي موعد محدد لاستئنافها، إضافة إلى «المخاوف من أن تذهب الأمور إلى موقع خارج السيطرة ما يطيح بمكتسبات مؤتمر (سيدر)». وشدّد المصدر على أن الموقف هو للتحفيز على تفعيل المؤسسات والتحذير من استمرار التأزم السياسي.

ضرورة الاحتواء
من ناحية أخرى، جاء البيان وسط مخاوف محلية ودولية من أن يكون التأزم السياسي محاولة للعودة إلى الأزمة التي يبدو على أنها تنتشر وتتبعثر في كل الاتجاهات، حسب الناشط السياسي ومدير مركز «أمم للأبحاث والتوثيق» لقمان سليم.
سليم أشار في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «ليس بالأمر المعهود أن تصدر سفارة واشنطن في بيروت بيانات عند كل حادثة أو تطوّر سياسي أو أمني يقع في لبنان»، لكن هذا التطوّر الأمني الأخير في حادثة قبرشمون «أدى إلى تعطيل سياسي غير مسبوق ومفتوح على الوقت»، وعليه فإن «واشنطن في سياق الدعم المستمر للاستقرار في لبنان، تحاول إيجاد مخرج»، ثم أضاف: «في العقل الأميركي، يجب على القضاء أن يقوم بدوره، لكن ربما ينظر البعض من اللبنانيين إلى أن القضاء في لبنان قد يكون جزءاً من المشكلة، ومن هنا تأتي الدعوة للتعامل مع الحادث بطريقة تحقق العدالة دون خلفيات سياسية».
ورأى سليم أن ما ورد «يصحّ فيه التحذير من استمرار الوضع، وإبقاء الأزمة مفتوحة دون اجتراح طريقة لاحتوائها»، مشدداً على أن «ما يعني واشنطن هو الحفاظ على الاستقرار، وتحت هذا العنوان أقرّا البيان والدعوة للملمة الموضوع وعدم تركه يتفاعل ويتسرطن أكثر لأن الجسم اللبناني هشّ، وبقاء الأمور على نحو متأزم قد يعرّض الاستقرار للخطر لأسباب أنانية».
وعن إمكانية أن يعتبر البعض البيان في الداخل اللبناني اصطفافاً مع فريق دون آخر، قال سليم إن «هذا هو التفسير البلدي المحلي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار أن بلداً كاملاً يُنظر إليه على أنه معطّل وبحالة خطر، لكنه في الواقع ليس اصطفافاً، بل ربما يكون دعوة لحلفاء واشنطن للسير في طريق الاحتواء الذي ربما لن يكون مخرجاً كاملاً، لكنه في الوضع اللبناني قد يكون تأجيلاً لأزمة لم يوجد الحل الكامل لها».

غطاء أمني واقتصادي مستمر
للعلم، يتصدّر حرص واشنطن على استمرار عمل المؤسسات، الأولويات الأميركية، لكن لا يمكن تحييده عن الملفات المرتبطة بالاستقرار اللبناني الذي يضمنه عمل المؤسسات، وهي ملفات تُعتبر الولايات المتحدة معنية بها. وهنا علّق رياض طبارة، سفير لبنان الأسبق في واشنطن، قائلاً: «هناك غطاء أمني واقتصادي دولي للبنان، إذ لا مصلحة لأحد، سوار الولايات المتحدة أو أوروبا أو حتى إيران بالإخلال به. وعادة تعتبر الولايات المتحدة رأس الحربة في توفير هذا الغطاء، وهي لا تتدخل في كل شاردة وواردة في الشأن اللبناني، إلا إذا كانت الأمور ستخرج عن السيطرة، وهو ما دفعهم أخيراً للتدخل».
ولفت طبارة إلى أن السفيرة الأميركية في بيروت «جالت على المسؤولين اللبنانيين، وأبلغتهم أن فقدان السيطرة على الاستقرار غير مسموح به. لكن الأمور (مع ذلك) لم تتجه نحو التهدئة، وهو ما دفع واشنطن لإصدار بيان تحذيري يحذر من المواجهات الطائفية».
وأعرب طبارة عن اعتقاده أن الأميركيين «جاهزون لاستخدام إجراءات صارمة لحماية الاستقرار، وكان البيان توجيهياً في مضمونه نحو عقد مصالحة ومنع الأمور من التدهور باتجاه منحى طائفي أو مواجهة طائفية غير مسموح بها».

3 محطات سابقة
لا ينفي جميع المطلعين على أن التدخل في البيان كان نادراً، لكنه يتشابه بالظروف مع ثلاث محطات سابقة دفعت واشنطن للتدخل مباشرة في الشأن اللبناني عندما كانت الأمور تفلت عن السيطرة.
السفير طبارة ذكر أن «كل حقبة كانت لها ظروفها، بدءاً من عام 1958 حين نفذ الجيش الأميركي إنزالاً على الشواطئ اللبنانية. وفي عام 1983 عندما بدا أن هناك محاولة لسيطرة أجنبية على القرار اللبناني ما دفع بالأميركيين للتدخل عسكرياً إلى جانب قوات إيطالية وفرنسية، قبل استهداف قوات (المارينز) الأميركية والقوات الفرنسية في بيروت بتفجيرات. وفي المرة الثالثة، بعدما رفض السوريون الانسحاب من لبنان وإعادة الوضع لفترة ما قبل التدخل السوري، فكان القرار 1559 في عام 2004. ليليه الدعم السياسي لـ(انتفاضة 14 مارس)، التي أدت إلى الانسحاب السوري من لبنان وإعادة الأمور إلى نصابها. والآن في ظل الصدام السياسي الذي أنذر بانفلات الأوضاع». ووفق طبارة «مع أن كلّ تدخل له حيثياته، فإن القاسم المشترك في التدخلات المباشرة هو أنه من غير المسموح أن تخرج الأمور عن السيطرة في لبنان، خصوصاً بعد الحرب الأهلية».

أولويات أميركية
ينظر كثيرون إلى أن التدخل الأميركي لحماية الاستقرار في هذه المرحلة، ينطلق من ملفات ترى الولايات المتحدة أن إنجازها أو الحفاظ عليها ضمن الوضع القائم (الستاتيكو) من أولوياتها. أبرز هذه الأولويات هي: الاستحقاق المقبل المرتبط باستخراج النفط والغاز في البحر المتوسط، وأمن الحدود الجنوبية، وتحييد لبنان عن لهيب الأزمة السورية، ووجود مليون لاجئ سوري في لبنان، والاستحقاقات المرتبطة بإيجاد حل للقضية الفلسطينية، واحتواء التمدد الإيراني الذي «يستفيد من الفوضى» في المنطقة، والدعم بالعتاد والتدريب للجيش اللبناني. غير أن طبارة ينظر إلى تلك الملفات على أنها تفاصيل، رغم أهميتها الكبيرة، خصوصاً أمن الحدود الجنوبية. إذ يشدد على أن «الأولوية المطلقة التي تعتبرها واشنطن بنداً أساسياً في لبنان يتمثل في السيطرة على الأوضاع، بحيث لا تندلع حرب أهلية يعجز الجميع عن احتوائها والسيطرة عليها، ومن شأن أي اهتزاز بالاستقرار أن يطيح بكل تلك الملفات التي يراها البعض أولويات».
في الوقت نفسه، يعتبر طبارة أنه «لا مصلحة لأحد في أن يتدهور الاستقرار في لبنان، لا الولايات المتحدة ولا إيران، رغم اختلاف الأسباب من وجهة نظر كل منهما»، مضيفاً: «بينما تتطلع واشنطن إلى أهمية الحفاظ على استقرار وضع الحدود الجنوبي وأمن إسرائيل، تأتي إيران ضمن الدول التي تفرض غطاء أمنياً أيضاً منعاً لتدهور الأمور، لأنه لا مصلحة لها بإضاعة ملايين الدولارات التي أنفقتها على الترسانة الصاروخية لـ(حزب الله)، وتكتنزها للاستخدام في أي مواجهة محتملة مع إسرائيل، والاستفادة منها في الصراع. وبالتالي، لا مصلحة لها بإضاعتها على حرب أهلية داخلية، وهو ما يدفعها للدخول في المنظومة التي تهدئ الأمور، وأن يبقى لبنان محيداً عن الصراع».

انقسام لبناني حول «بيان واشنطن»
> أدان «حزب الله» بشدة البيان الصادر عن السفارة الأميركية، واعتبره «تدخلاً سافراً وفظاً في الشؤون الداخلية اللبنانية، ويشكل إساءة بالغة للدولة ومؤسساتها الدستورية والقضائية»، ورأى أنه «تدخل مرفوض في نزاع سياسي محلي وقضية مطروحة أمام القضاء اللبناني القادر منفرداً على القيام بواجباته على أكمل وجه».
في حين جاءت آراء بعض السياسيين، حتى من القريبين من «حزب الله» أقل حدة، إذ قال نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي إن «بيان السفارة الأميركية فيه إيحاء بأن واشنطن تقف في صف حلفائها»، مشيراً في حديث تلفزيوني إلى أنه «وجد تراثاً لبنانياً قديماً باستقدام التدخل الخارجي في الخلاف الداخلي».
أما النائب السابق عمّار حوري، مستشار رئيس الحكومة سعد الحريري، فقد حذّر من أخذ الأمور بخفة، واعتبر أن «بيان السفارة الأميركية يُسلّط الضوء على المخاطر التي قد نواجهها»، مذكّراً «بأننا في مرحلة إعادة تصنيف دولي على الصعيد الاقتصادي، وأننا نسعى لاستثمار مقررات (سيدر)، من خلال دعم دولي، وكل هذا لا يتأتى إلا من خلال علاقات طيبة مع دول العالم».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».