مولد كهربائي يعمل بحرارة الجسم وشحنة إنقاذ للهاتف الجوال وزجاجات يمكن التهامها

ابتكارات مبدعين من الشباب الأميركي

المبتكر تايلور ويلسون  -  مصاصات لمكافحة الفواق  -  قناني مياه مأكولة
المبتكر تايلور ويلسون - مصاصات لمكافحة الفواق - قناني مياه مأكولة
TT

مولد كهربائي يعمل بحرارة الجسم وشحنة إنقاذ للهاتف الجوال وزجاجات يمكن التهامها

المبتكر تايلور ويلسون  -  مصاصات لمكافحة الفواق  -  قناني مياه مأكولة
المبتكر تايلور ويلسون - مصاصات لمكافحة الفواق - قناني مياه مأكولة

هنالك حماس متجدد لتشجيع الطلاب على دخول المجالات العلمية والتقنية والهندسية والرياضيات. فالاقتصاد برمته يعتمد على الصناعات، وهو بحاجة ماسة إلى المواهب والكفاءات في هذه الحقول. لكن العقبة الكبرى هي أن الكثير من الشباب يرون في مثل هذه الدراسات ما يرهبهم. فهي إلى جانب صيتها الموروث على أنها مواضيع صعبة، هنالك افتراض على أنها تستغرق سنين من الدراسة والتدريب قبل أن تتبلور المواهب، وتحدث الوقع المطلوب.

* ابتكارات ذرية وكهربائية
* حتى تايلور ويلسون المخترع ومشجع العلوم الذي يبلغ عمره 14 عاما أصبح للحظة أصغر شخص يقوم بعمل في مجال الذرة، أبلغ مجلة «ناشونال جيوغرافيك» أنه اعتقد في السابق أن مثل هذه الإنجازات بعيدة المنال، لكونها تنفذ بصورة عامة من حقول المختبرات الكبرى، واختصاصات الباحثين الذين يملكون ميزانيات كبيرة، ودرجات علمية رفيعة.
وعلى الرغم من أن ويلسون قد قام بما بوسعه ليري أن ذلك ليس بالضرورة هو الواقع، كانت هناك مجموعة من المبتدئين الشباب الذين شرعوا يثبتون بسرعة أن كل ما يتطلبه الأمر أحيانا هو القفز إلى هذه الحقول، وفيما يلي أمثلة عن بعضهم:
* تاريخ تايلور ويلسون المهني كعالم نووي يعد مثالا عن العقول المذهلة التي تشكل مصدرا من مصادر الغنى الطبيعية لأي أمة. فهو على الرغم من أنه كان أصغر شخص يعمل في مفاعل نووي، فإنه كان يختبر أيضا نظاما متهاود الكلفة، بمقدوره تحري المواد المشعة، في الوقت الذي كان يعمل فيه على جهاز نقال ينتج النظائر المشعة لمعالجة داء السرطان واكتشافه. وهو خلال مسيرته هذه كان يشجع الشباب لكي يحذوا حذوه.
بدأت مسيرة ويلسون كممارس لهواية السمكرة مستخدما المال الذي كان يجمعه من هدايا الأعياد لجمع الأجزاء الضرورية لبناء مفاعل لعمليات الاندماج النووي من محلات البيع مثل «إ باي»، وليقوم حتى برحلات إلى صحراء نيومكسيكو لجمع خام اليورانيوم. وعن طريق نشرات مفتوحة المصدر منشورة على الإنترنت، تمكن من تجميع هذه الأجزاء في مرأب منزل والديه. وقد نجحت خطته لحسن الحظ.
وقد تخرج من المدرسة الآن في سن العشرين، ليعمل مستقلا، رافضا عرضا مغريا من «رايثيون» خامس أكبر شركة للصناعات الدفاعية في أميركا، وتمويلا من وزارة الأمن القومي، ووزارة الطاقة. ويبدو أن جميع هذه الإدارات المهمة كانت تراقبه عن كثب.
* آن ماكوسنسكي، قامت بتطوير مولد كهربائي بسيط بتجميع أجزاء وقطع بسيطة، وهو الأمر الذي ترك أثرا بالغا على مليارات من البشر الذين لا يتمتعون بوجود التيار الكهربائي. فقط يمكن استغلال طاقة الجسم البشري التي تشع من الداخل، لإنارة ما يكفي البعض وحاجاته!
لقد لمعت الفكرة لهذه الفتاة الكندية التي لم تتعد 16 عاما، وهي تفكر بطريقة لمساعدة صديقة لها في الفلبين، التي كانت تعاني من مشكلة الدراسة في الظلام. فبدلا من الاعتماد على البطاريات، تمكن ابتكار ماكوسنسكي من إنارة نظام «إل إي دي» منخفض الجهد الكهربائي، باستخدام قطع بلاط «بلتيار» مشيدة داخل علبة جهاز مجوف. ولقطع البلاط هذه القدرة على تحويل الطاقة الكهرو - حرارية إلى تيار كهرباء يمكن استخدامه في أحوال اختلاف درجات الحرارة بمقدار خمس درجات مئوية. وبذلك يمكن للكشاف الضوئي أن يشع بوهج أعلى كلما برد هواء الجو الخارجي. أما في البيئات الأكثر دفئا، يظل هذا الكشاف المجوف ينتج أشعة أقوى تدوم أكثر من 20 دقيقة. واختراع ماكوسنسكي هذا الذي ما يزال ينتظر براءة الاختراع، والذي عرض في معرض «غوغل» العلمي للعام الماضي، فاز بالجائزة الكبرى عن تلك الفئة من الأعمار، التي بلغت قيمتها 25 ألف دولار على شكل منحة دراسية.

* شحنة إنقاذ للهاتف
* عندما يتوقف الهاتف الجوال عن العمل في الأوقات الحرجة بسبب نفاد بطاريته، فهذا يعني مشكلة. وعندما حصل هذا الأمر لعائشة كاير الطالبة في المدرسة الثانوية كانت بعيدة عن منزلها، وبحاجة ماسة للتحدث إلى والديها. وكان عليها القيام بإجراء ما، فكان ابتكارها عبارة عن مكثف كهربائي متفوق صمم لتأمين دفعة فورية كلما تضاءلت شحنة البطارية، والذي قد يصبح في يوم ما داخل البضائع الاستهلاكية وجزءا منها، كالهواتف والسيارات الكهربائية. واليوم فإن تقنية المكثفات المتفوقة التي تتيح شحنا وتفريغا سريعا مع دورات شحن متعددة، ليست بالأمر الجديد. والمشكلة كانت أن هذه النظم تملك كثافة من الطاقة أقل بكثير من بطاريات الليثيوم بمقدار 10 مرات.
وعلى الرغم من أن كاير تقر أن نموذجها الأخير هذا لا يملك حتى الآن كثافة طاقة كافية للاستخدامات اليومية القاسية، فإن من تطبيقاته العملية استخدامه كمصدر دعم في حالات الطوارئ. وقد جاء هذا المشروع في المرتبة الثانية في معرض «إنتل» العالمي للعلوم والهندسة، والذي حصلت بموجبه على جائزة قدرها 50 ألف دولار.

* قناني مياه مأكولة
* لودفيك ماريشاين، 22 سنة، تمكن من اكتشاف طريقة ذكية لقضاء أوقات طويلة من دون استحمام مع الحفاظ على نظافة جسده. فقبل انخراطه في جامعة كايب تاون في جنوب أفريقيا، عاش في منطقة ريفية فقيرة ينقصها الماء الساخن. وعن طريق الإنترنت تعرف على مواد معينة تعمل لدى مزجها كبديل للاستحمام. وهي خلافا إلى المطهرات الكحولية لا تحتاج إلى تشطيف لأنها هلامية التركيب، مضادة للبكتيريا وقابلة للتحلل.
* في أوائل العام الحالي عرض رودريغو غارسيا غونزاليس وفريقه من جامعة «إمبريال كوليدج» في لندن شريط فيديو يظهرهم يشربون من أوعية هلامية (جيلاتينية) متينة. فقد أرادوا عرض وجود زجاجات قابلة للأكل التي من شأنها تخفيض كمية 33 مليون طن النفايات البلاستيكية التي تملأ المكبات، والتي تلوث محيطات العالم سنويا.
وزجاجات ماء «أوهو» الناعمة التركيب طورت على طعم الكافيار الكاذب، وهي فكرة رائدة رغم وجود بعض التحديات التي ينبغي تذليلها، مثل إعادة ختم القناني لإبقائها بعد تفريغها من الماء في حالة نظيفة صالة للأكل مع الاحتفاظ بمذاقها.
* الضمادات الطبية تصمم عادة لتخفيف النزيف، مع قيامها بعملية تخثير الدم بشكل طبيعي. لكن هنالك علاج أكثر تطورا لحالات الطوارئ، مثل ضمادات الشاش «كويك كلوت» التي تسرع عملية الشفاء بمساعدة أملاح معدنية ترغم الصفائح الدموية على التخثر بسرعة. إلا أن ضمادات «فيتي - جيل» هذه من صنع جو لانولينا الطالب في جامعة نيويورك، وتوقف النزيف فورا من دون ممارسة أي ضغط على الجرح. وهي حتى تتيح للحروق الشديدة أن تتماثل إلى الشفاء بسرعة في اليوم التالي.
* للمشكلات الصحية البسيطة مثل الفواق (الحازوقة) يقدم بحث «غوغل» الكثير من أساليب العلاج. وقامت ميلوري كييفمان بتجربتها جميعها وعددها 11، إلا أنها ذهبت خطوة أبعد بعد التنقيب في المطبوعات الطبية، بحثا عن أسلوب فعال طبيا. وبعد سنتين خرجت بفكرة العمل على أعصاب الفم والحنجرة التي تثير الفواق، كما تشرح على صفحتها في الإنترنت. «فلدى تحفيز هذه الأعصاب جدا يجري إلغاء الرسالة الصادرة من الدماغ بالقيام بالفواق»، كما تقول. أما أفضل علاج من قبلها الذي فازت بموجبه على مكافأة، فهو مزيج من خل التفاح والحوامض والسكر الذي يباع كمصاصة من السكريات. وتتهيأ ميلوري هذه، ابنة الـ15 سنة، بمساعدة فريق من جامعة هارفارد بإنتاج المصاصة هذه المعالجة للفواق بكميات تجارية، وستنطلق الشحنة الأولى منها في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. ويمكن شراء ربطات منها مكونة من 6 قطع عن طريق الشبكة، بسعر 6.99 دولار.

* خدمة «واشنطن بوست»



خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟
TT

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

يعتمد العلماء منذ سنوات طويلة على خرائط الجينات البشرية لفهم كيفية عمل الجسم وتفسير أسباب الأمراض، بل أيضاً لتطوير علاجات دقيقة لها.

بيانات وراثية أوروبية

لكنّ دراسة علمية حديثة كشفت أن هذه الخرائط رغم أهميتها لا تُمثل البشرية جمعاء بعدالة؛ لأنها بُنيت في الأساس على بيانات وراثية لأشخاص من أصول أوروبية، ما أدّى إلى تجاهل جزء كبير من التنوع الجيني العالمي.

وتُشير الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Communications» في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025 إلى أن هذا الخلل العلمي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل قد يؤثر مباشرة في فهمنا للأمراض، وكيف تختلف بين الشعوب، ولماذا تظهر بعض الحالات الصحية بشكل أكثر شيوعاً أو بشدة أكبر لدى مجموعات سكانية دون غيرها.

ما هي خرائط الجينات؟

خرائط الجينات بمثابة دليل إرشادي يوضح مواقع الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» (DNA)، ويشرح كيف تُستخدم هذه الجينات داخل الخلايا لإنتاج البروتينات، وهي الجزيئات المسؤولة عن معظم وظائف الجسم. لكن الجين الواحد لا يعمل دائماً بالطريقة نفسها، إذ يمكنه إنتاج أكثر من نسخة من التعليمات الجينية تُعرف بجزيئات الحمض النووي الريبي «RNA»، من خلال عملية تُسمى «التضفير» (splicing). وقد تؤدي هذه النسخ المختلفة إلى بروتينات متباينة، ومن ثم إلى اختلافات في وظائف الخلايا والاستجابة للأمراض.

ما التضفير الجيني؟

عند قراءة الخلية للتعليمات الوراثية لا تستخدم النص الخام كما هو، فبعد نسخ الجين إلى الحمض النووي الريبي «RNA» تقوم الخلية بعملية تُسمى التضفير؛ حيث تُزال الأجزاء غير الضرورية، وتُربط الأجزاء المفيدة فقط لتكوين رسالة جينية جاهزة لصنع البروتين.

الأهم من ذلك أن الخلية قد تُغيّر طريقة الربط أحياناً في عملية تُعرف بـالتضفير البديل، ما يسمح للجين الواحد بإنتاج عدة بروتينات مختلفة، وهذه الآلية تفسر التنوع الكبير في وظائف الخلايا، كما تُساعد العلماء على فهم سبب اختلاف الأمراض واستجابتها للعلاج بين الأفراد والشعوب.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الأساسية، حسب الدراسة، أن معظم خرائط الجينات الحالية اعتمدت على عينات وراثية من أشخاص ذوي أصول أوروبية. ورغم أن البشر يتشابهون جينياً بنسبة تقارب 99.9 في المائة فإن النسبة المتبقية تعكس تاريخاً طويلاً من التطور والاختلافات التي نشأت بسبب العزلة الجغرافية والبيئية.

ويضيف المؤلف المشارك الرئيسي الدكتور روديريك غويغو من مركز «تنظيم الجينوم» بمعهد «برشلونة للعلوم والتكنولوجيا» بإسبانيا، أنه وبسبب هذا التركيز الأوروبي لم تُسجَّل الكثير من النسخ الجينية الموجودة لدى سكان أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونتيجة ذلك ظلّت أجزاء مهمة من النشاط الجيني البشري غير مرئية للعلماء.

ماذا اكتشف الباحثون؟

واستخدم فريق البحث تقنية متطورة تُعرف باسم «تسلسل الحمض النووي الريبي طويل القراءة»، وهي تقنية تسمح بقراءة جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» كاملة، وليس على شكل أجزاء صغيرة كما في الطرق الأقدم.

وقام الباحثون بتحليل خلايا دم من 43 شخصاً ينتمون إلى مجموعات سكانية متنوعة حول العالم. وكانت النتيجة مفاجئة؛ حيث جرى اكتشاف نحو 41 ألف نسخة من جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» لم تكن مدرجة في خرائط الجينات الرسمية. والأهم من ذلك أن نسبة كبيرة من هذه النسخ يمكن أن تنتج أشكالاً جديدة أو مختلفة من البروتينات لم يكن العلماء على علم بوجودها من قبل.

وتبيّن أن هذه النسخ الجديدة تظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص من أصول غير أوروبية، في حين كانت معظم النسخ لدى الأوروبيين معروفة مسبقاً، ما يؤكد وجود تحيّز علمي غير مقصود في قواعد البيانات الجينية.

لماذا يهمنا هذا الاكتشاف؟

وتكمن أهمية هذه النتائج في ارتباط بعض النسخ الجينية المكتشفة حديثاً بجينات معروفة لها علاقة بأمراض مثل الربو والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي واضطرابات الكولسترول. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه النسخ تسبب الأمراض، لكنه يعني أن العلماء قد يكونون قد أغفلوا إشارات جينية مهمة تُساعد على فهم اختلاف المرض بين الشعوب.

فإذا كانت الخرائط الجينية لا تتضمن كل النسخ الموجودة فعلياً فإن الأبحاث الطبية التي تعتمد عليها قد تكون ناقصة، وقد لا تُفسر بدقة لماذا يستجيب بعض المرضى للعلاج في حين لا يستجيب آخرون.

نحو طب أكثر عدالة

تُشير الدراسة إلى أن الاعتماد على «جينوم مرجعي واحد» لجميع البشر لم يعد كافياً، فعندما استخدم الباحثون خرائط جينية شخصية لكل فرد ظهرت نسخ إضافية لم تكن مرئية من قبل، خصوصاً لدى ذوي الأصول الأفريقية.

ولهذا يدعو العلماء إلى العمل على إنشاء ما يُعرف بـ«البانترانسكريبتوم البشري» (pantranscriptome) وهو مشروع طموح يهدف إلى جمع كل نسخ الحمض النووي الريبي «RNA» المستخدمة في مختلف أنسجة الجسم وعبر مراحل العمر ولدى جميع الشعوب.

الخطوة التالية

ويعترف الباحثون بأن دراستهم ما زالت محدودة، إذ شملت نوعاً واحداً من الخلايا وعدداً صغيراً نسبياً من الأشخاص. ومع ذلك فإن حجم الاكتشافات يُشير إلى أن ما نعرفه اليوم قد لا يكون سوى «قمة جبل الجليد».

ويؤكد العلماء أن بناء خرائط جينية أكثر شمولاً لن يكون مجرد إنجاز علمي بل خطوة أساسية نحو طب جينومي أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية، ويضمن أن يستفيد الجميع من التقدم العلمي، لا فئة واحدة فقط.


بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
TT

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم.

تساؤلات أخلاقية

ومع هذا الدخول الصامت، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم.

حين يُصبح القرار مشتركاً... مَن المسؤول؟

في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ:

- خوارزمية تقترح.

- طبيب يراجع أو يثق.

- مريض لا يرى إلا النتيجة.

فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً... من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟

هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.

قرار واحد... ووجوه مختلفة: سؤال العدالة الخوارزمية

عدالة الخوارزمية... هل هي محايدة حقّاً؟

يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة... وخاطئاً لأخرى.

وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟

العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.

حق المريض في المعرفة... إلى أي حدّ؟

أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.

لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟

الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.

الطبيب بين الثقة والكسل المعرفي

مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية.

الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات. والخطر الحقيقي ليس أن تُخطئ الخوارزمية، بل أن يتوقف الطبيب عن مساءلتها.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تُطالب الأطباء برفض التقنية، بل تطالبهم بشيء أبسط وأعمق: أن يبقى الضمير يقظاً، والعقل ناقداً، وألا يُسلِّم القرار الطبي النهائي إلا بعد فهمه، لا بعد نسخه.

حين يتقدّم القرار الآلي... مَن يقود الضمير؟

الشفافية... حين لا نفهم كيف وصل القرار

واحدة من أعقد المعضلات الأخلاقية اليوم هي ما يُعرف بـ«الصندوق الأسود»، فكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تصل إلى قرارات دقيقة إحصائياً، لكنها تعجز عن شرح كيف ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة.

فكيف يُحاسَب قرار لا يمكن تفسيره؟ وكيف يُناقَش تشخيص لا نعرف مساره المنطقي؟ وهل يجوز أخلاقياً أن نُخضع مريضاً لعلاج، لأن «الخوارزمية قالت ذلك»، دون تفسير قابل للفهم البشري؟

الطب لا يعيش على الدقة وحدها، بل على الشرح والثقة. والمريض لا يطلب دائماً نسبة مئوية، بل يريد أن يفهم. ولهذا، فإن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب تدفع اليوم بقوة نحو ما يُسمّى «الذكاء القابل للتفسير»، لا لأنه أجمل علمياً، بل لأنه أكثر إنسانية.

المساءلة القانونية... فراغ يتّسع

إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة.

هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.

فمن دون مساءلة واضحة، قد يُغري الذكاء الاصطناعي بعض الأنظمة الصحية بتوسيع استخدامه بلا ضوابط، أو تحميل الطبيب وحده مسؤولية قرار لم يصنعه منفرداً، ولهذا، فإن النقاش الأخلاقي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة تشريعية: قوانين تُحدِّد المسؤولية، وتحمي المريض، وتُعيد رسم حدود الثقة بين الإنسان والتقنية.

الخلاصة: حين تسبق الخوارزمية... يجب أن يتقدّم الضمير

الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا.

فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.

وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني... بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً.


دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.