تفاقم المخاوف من «الدواعش» العائدين

اتهامات تلاحقهم بتزويد «الإرهابيين» معلومات وأموال

«دواعش» يحلمون بالعودة مرة أخرى إلى سوريا والعراق (الشرق الأوسط)
«دواعش» يحلمون بالعودة مرة أخرى إلى سوريا والعراق (الشرق الأوسط)
TT

تفاقم المخاوف من «الدواعش» العائدين

«دواعش» يحلمون بالعودة مرة أخرى إلى سوريا والعراق (الشرق الأوسط)
«دواعش» يحلمون بالعودة مرة أخرى إلى سوريا والعراق (الشرق الأوسط)

«العائدون من «داعش»» إشكالية كبيرة ما زالت تتفاقم وتُثير الرعب والفزع في أوروبا، وبعض دول أفريقيا، خاصة مع فرار معظم عناصر التنظيم من أراضي سوريا والعراق. وكشفت دراسة مصرية حديثة عن «وجود اتهامات للعائدين بأنهم يمدون (الإرهابيين) بالمعلومات والأموال». اتسق ذلك مع آراء خبراء وباحثين أكدوا أن «هناك مخاوف من تنفيذ هؤلاء أنفسهم عمليات إرهابية، ذات نهج فردي على طريقة (الذئاب المنفردة)، لذا ترفض بعض الحكومات عودة مواطنيها الذين انضموا إلى (داعش)، وتتخذ إجراءات مشددة في ذلك مثل: إلغاء الجنسية، وسحب جوازات السفر».
ويقول الخبراء والباحثون في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك احتمالات تتعلق بإمكانية التحاق العائدين من (داعش) بفصائل متطرفة أخرى عند عودتهم للدول، ليستمر مسلسل ميلاد جماعات إرهابية جديدة». مطالبين «بوجوب وضع هذا الأمر على أجندة الأولويات الأمنية لجميع الدول». «العائدون» قسمتهم الدراسة المصرية على قسمين، الأول هم الذين اقتنعوا بدعاية التنظيم الضالة والمضللة، وسافروا إلى أماكن تمركزه السابقة في سوريا والعراق منذ عام 2014، ثم انجلت لهم حقيقة التنظيم، فاكتشفوا فساد فكره، وانشقوا عنه عقب هزائمه، وعادوا إلى بلادهم مرة أخرى، وهؤلاء يمكن أن نطلق عليهم «المنشقين»... والثاني هم من عادوا إلى بلادهم «متسللين» أو مقبوضا عليهم أثناء محاولة عبور الحدود وصولاً لدولهم، أو عبور الحدود لدولة أخرى.

إجراءات مشددة
الدراسة المصرية، التي أعدها مرصد الأزهر لمكافحة التطرف بالقاهرة، تلفت إلى أن هؤلاء (أي العائدين) يمثلون قلقاً بالغاً للحكومات التي تخشى من منهج العنف والتطرف الذي يتبناه هؤلاء مخافة نشره، ومخافة تكوين «خلايا» تقوم بعمليات إرهابية من وقت لآخر، أو تقدم دعماً معلوماتياً ومادياً لـ«متطرفين» يريدون تنفيذ عمليات إرهابية، فضلاً عن مخافة تنفيذ هؤلاء أنفسهم عمليات إرهابية ذات نهج فردي على طريقة «الذئاب المنفردة»، ومن ثم ترفض بعض الحكومات عودة مواطنيها الذين انضموا إلى «داعش»، وتتخذ إجراءات مشددة في ذلك مثل، إلغاء الجنسية، وسحب جوازات السفر.
وأكد العقيد حاتم صابر، خبير مكافحة الإرهاب الدولي في مصر، أن «عودة الدواعش للدول تمثل خطراً كبيراً، لكونهم كانوا مقتنعين تماماً بأهداف التنظيم المتطرفة، وتلقوا تدريبات على استخدام الأسلحة، وعاشوا في أجواء العنف، واكتسبوا خبرات قتالية، جعلت منهم خطراً دائماً في أي مكان يوجدون فيه»، مضيفاً أن «الدول خاصة الأوروبية تتعامل مع هذا الملف باهتمام شديد، وتتخذ إجراءات مختلفة حيال ذلك».
وقال باحثون في مرصد الأزهر، إنه «لا تزال المخاوف قائمة من عودة هؤلاء لبلدانهم أو التحاقهم بفصائل إرهابية أخرى؛ ليستمر مسلسل ميلاد جماعات جديدة، كما كان الحال مع (داعش) التي نشأت من رحم (القاعدة)». وأكد الباحثون أن سؤال مصير العائدين من (داعش) هو السؤال الأهم للحكومات، وكيف يمكن التعامل معهم، ولا شك أن الإجابة ستختلف من دولة لأخرى، حسب سياسة كل دولة وقدراتها الأمنية؛ لكن الشيء الذي لا خلاف عليه، هو وجوب وضع هذا الأمر على أجندة الأولويات الأمنية لجميع الدول.
ويرى مراقبون أن «الخطر الذي تُشكله عودة هؤلاء (المقاتلين) إلى بلدانهم الأصلية، يُضعف فرصة نجاة هؤلاء بحياتهم، لا سيما أن كثيرا من تلك الدول ترفض استعادة رعاياها... وشهادات كثير من (المقاتلين الأجانب) تُظهر تمسكهم بالآيديولوجية الداعشية، وأملهم في عودة دولتهم يوماً ما».

عناصر مهزومة
وعن مخاطر العائدين من «داعش». قال الباحثون في مرصد الأزهر لمكافحة التطرف «إذا نظرنا إلى المخاطر التي من الممكن أن تسببها عودة هؤلاء (المقاتلين) للدول، نجد أنه من ‏الناحية الفكرية والعقدية، سيكون تأثيرهم أقوى، وطريقة إقناعهم أسرع، فهم ‏من بويعوا من قبل، وينظر إليهم على أنهم الذين هاجروا لنصرة الدين وإقامة ‏(الدولة) - على حد زعمهم - إلا أن الحظ لم يكن حليفاً لهم، وسيكون ذلك باعثاً قوياً للذين بايعوهم من قبل ومثيراً ‏لحماستهم، لأن يسعوا لإكمال المشوار من بعدهم».
المراقبون قالوا إن بعض هؤلاء المقاتلين كانوا يتولون مهام رئيسية داخل «داعش» لقدراتهم القتالية والتنظيمية الكبيرة، خاصة في العمليات الانتحارية، أو الانغماسية، التي يكون الهدف منها هو الإيقاع بأكبر عدد من الخسائر البشرية.
اتفق مع الرأي السابق خالد الزعفراني، المتخصص في شؤون الحركات الأصولية بمصر، مؤكداً أنه «لا شك أن (العائدين) ليسوا مجرد عناصر مهزومة فقط، فمنهم من أصيب بخيبة أمل، وبعضهم يأمل في العودة من جديد مستقبلاً لسوريا والعراق؛ لكنهم لن يتخلوا عن أفكار التنظيم الإرهابية»، لافتاً إلى أن «هناك اتهامات تلاحقهم بقيامهم بدعم (المتطرفين) بالمعلومات والأموال».
في غضون ذلك، قالت الدراسة إنه «من خلال شهادات (العائدات الداعشيات) نستنبط أنهن حديثات عهد بالتدين، ويفتقرن إلى أي خلفية ثقافية دينية تؤهلهن إلى فهم تعاليم الدين فهماً صحيحاً، وفي الوقت ذاته هن متحمسات للبحث في الدين ومعرفة حقائقه، الأمر الذي جعلهن لقمة سائغة للوقوع في براثن التنظيم، فانخدعن بشعاراته الزائفة التي صورت لهن من قبل - كذباً وزوراً - العيش في المدينة الفاضلة».
وذكرت الدارسة أن «شهادات بعض العائدات من (داعش) أكدت أنه تم استقطابهن جميعاً من خلال مواقع وصفحات التواصل الاجتماعي، و(الذئاب المنفردة) خير دليل على مدى أهمية هذه المواقع للتنظيم ومؤيديه، الذين لم يستطيعوا الذهاب إلى أماكن تمركزه الرئيسية في السابق؛ لكنهم تشبعوا بأفكار التنظيم عبر مواقع الإنترنت، وقاموا بتنفيذ عمليات إرهابية في بلادهم، وهذا يدل على مدى أهمية الإعلام ومواقع التواصل، التي فطن لها التنظيم من قبل».

تطلعات «الداعشيات»
ويشار إلى أن الهزائم الكبيرة التي مُني بها «داعش» خلال الفترة الماضية، طرحت دلالات كثيرة، تتمثل أبرزها في وجود عدد ليس قليلاً من الأوروبيات اللاتي انخرطن في صفوفه، بشكل أثار مخاوف كثيرة لدى الدول الأوروبية من التداعيات التي يمكن أن تفرضها عودتهن المُحتملة إلى أراضيها، خاصة في ظل تمسكهن بالأفكار التي تبناها التنظيم.
وفي عام 2014 أسس التنظيم كتيبة نسائية تُسمى «الخنساء»، كان من إحدى مهامها الرئيسية استقطاب النساء عبر الإنترنت، وإقناعهن في ذلك الحين بالسفر إلى سوريا أو العراق، للزواج من مقاتلي التنظيم، وإنجاب الأطفال، وبعد ذلك شاركن في العمليات القتالية.
ووفقاً لتقارير دولية، فإن بعض «الداعشيات» الأوروبيات رفضن التخلي عن النقاب، ورفضن الاتهامات التي توجه لأزواجهن من عناصر التنظيم بأنهم «إرهابيون»، فضلاً عن إصرارهن على اعتبار الحياة في المناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم «نموذجاً مصغراً لمشروع إسلامي... كما لم يخفين تطلعهن إلى العودة من جديد لتلك المناطق، في حالة ما إذا أتيحت لهن الفرصة».
وقالت الدراسة المصرية إن «داعش» خدع الفتيات بتفسيراته المغلوطة لقضايا ومصطلحات بعينها، مثل «الهجرة»، و«الخلافة»، و«تطبيق الشريعة»، وهي قضايا مهمة، ودائماً ما يستغلها «المتطرفون» في استقطاب الشباب، وتكفير المجتمعات، موضحة أنه من خلال شهادات «العائدات» نستنتج الانحلال الأخلاقي لقادة تنظيم «داعش»، ففي حين كانوا يأمرون الشباب بالخروج للقتال، يجلسون هم في منازلهم يتناولون أجود أنواع الطعام... وبعض «المنشقين» عن التنظيم أكدوا أن الفساد كان بداخله ممنهجاً، وله مظاهر كثيرة، ويرتبط بقادة التنظيم، الذين كانوا يعقدون صفقات بترولية وتجارية مع من يدعون أن قتالهم من الأهداف الرئيسية للتنظيم، لذلك وصف أحد المنشقين قيادات التنظيم بأنهم عصابة من «المرتزقة».

المقاتلون الأجانب
في السياق نفسه، تحدثت الدراسة أيضاً عن مصطلح «المقاتلين الأجانب» في «داعش» الإرهابي. وقالت إنه «لم يقتصر الانضمام إلى التنظيم على الشباب والفتيات في دول المشرق العربي والإسلامي فحسب؛ بل انضم إلى التنظيم عدد كبير من الشباب الغربي». وأضافت: «يُمكننا القول إن (المقاتلين الأجانب) ليست ظاهرة جديدة أو خاصة بـ(داعش)؛ بل هي ظاهرة قديمة، إذ تدفقت موجات من (المقاتلين الأجانب) في أوقات متباينة نحو مناطق النزاع في الخارج، مثل (أفغانستان، والبوسنة، والعراق)؛ لكن أمر (المقاتلين الأجانب) الذين تدفقوا إلى سوريا جعل منها أكثر دولة في العالم جذباً لـ(المقاتلين الأجانب) خلال السـنوات العشــر أو العشريــن الماضيــة؛ بل إن أعداد (المقاتلين) الأوروبيين الذين ذهبوا إلى سوريا في السنوات الأخيرة، فاق بكثير عـدد الذين انضموا للقتال في جميع أماكن الصراع الأخرى علــى مــدى الســنوات الماضية».
ويقدر باحثون ومراقبون تدفقات «المقاتلين الأجانب» إلى سوريا والعراق خلال السنوات الماضية بـ60 ألف مقاتل، حضروا من أكثر من 110 دول... من بين هؤلاء ما يقرب من 6 آلاف من أوروبا، بنسب مختلفة من بلد لآخر؛ حيث إن نحو 70 في المائة منهم أتوا من أربع دول هي «فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وبلجيكا»، في حين تُعد إسبانيا من أقل الدول الأوروبية التي انضم منها مقاتلون إلى «داعش» في سوريا والعراق، وكذلك إيطاليا.
وخلصت الدراسة المصرية إلى أن الجهل بالدين وعدم معرفته معرفة صحيحة، كان سبباً للانحراف واعتناق الفكر المتطرف، بالإضافة إلى سهولة الاستقطاب من قبل بعض الجماعات الإرهابية، خصوصاً تنظيم «داعش» الذي كان لا يهتم بمستوى العضو الديني ومدى خلفيته الثقافية؛ بل فتح أبوابه من قبل أمام جميع من يريد الانضمام إليه حتى وإن لم يكن متديناً.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.