فيروسات فتاكة مضادة للبكتيريا المقاومة

«العاثيات» تستهدف أنواعاً محددة وتلتهمها

شكل مجسم للعاثيات التي تصيب البكتريا للقضاء عليها
شكل مجسم للعاثيات التي تصيب البكتريا للقضاء عليها
TT

فيروسات فتاكة مضادة للبكتيريا المقاومة

شكل مجسم للعاثيات التي تصيب البكتريا للقضاء عليها
شكل مجسم للعاثيات التي تصيب البكتريا للقضاء عليها

يطور العلماء فيروسات فتاكة موجهة ضد البكتيريا الفائقة التي لا تتمكن المضادات الحيوية الحالية من القضاء عليها، وتقوم تلك الفيروسات بالتهام البكتيريا وإزالتها من الجسم البشري، ويطلق على تلك الفيروسات مصطلح «العاثيات».
ولا تزال الفيروسات تلعب دوراً رئيسياً في جميع جوانب البحوث الطبية الحية نظراً لتأثيرها العالمي على صحة الإنسان والحيوان والنبات وفائدتها كنظم نموذجية يمكن تتبعها، بدءاً من البيولوجيا الجزيئية والبيولوجية الخلوية، والبيولوجيا الهيكلية، والمناعة، وعلم الأوبئة والمعلوماتية الحيوية.
«ملتهمات البكتيريا»
جاءت تسمية العاثيات أو البكتيريوفاج Bacteriophage من اليونانية وتعني «ملتهمات البكتيريا» وهي فيروسات لها القدرة على قتل البكتيريا عندما تتضاعف بداخلها مؤدية في كثير من الأحيان إلى انحلالها. والعاثيات من أكثر الكائنات الحية شيوعاً على سطح الأرض، وهي التي تسيطر على أعداد البكتيريا وتحافظ على التوازن البيئي في الطبيعة. وتوجد الملايين منها في أمعاء الإنسان، إذ تساعده في مكافحة البكتيريا الضارة التي تهاجمه، وتوفر أمعاء الإنسان وسطاً معيشياً مناسباً لها، فتساعد على استمرار حياتها والقيام بمهمتها في حماية الإنسان من البكتيريا الضارة إن أصابت أمعاءه.
وكان الأطباء يعتمدون عليها في الأدوية التي يُقدمونها للمرضى، ففي عام 1920 تعامل الأطباء مع العاثيات لمواجهة بعض العدوى، لكن لم يكن الكثير قد اكتشف عن العاثيات بعد، مما جعل طرق العلاج خاطئة بشكل كبير بل وتؤثر بشكل سلبي على المرضى وقد تسبب ذلك في جعل العلاج بالعاثيات غير موثوق به.
- العاثيات والمضادات الحيوية
> نظرة تاريخية على العاثيات. بدأ إنتاج المُضادات الحيوية المُصنعة يزداد وينتشر بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية بسبب فاعليتها الأكبر. والمضاد الحيوي عبارة عن مركب كيميائي يقتل أو يضعف من نمو الجراثيم، وأصبح هذا النوع من العلاج أكثر موثوقية من التعامل مع العاثيات للعلاج، إلى الحد الذي دفع التعامل مع العاثيات في الولايات المتحدة الأميركية إلى طي النسيان، لكنها لم تكن كذلك في الاتحاد السوفياتي السابق، الذي أثرت تبعات الحرب على وصول المضادات الحيوية له مما دفع السوفيات للتعامل مع العاثيات وتطوير التعامل معها، بحيث أصبحت أكثر فاعلية من ذي قبل، وفي العصر الحديث يُقدم العلاج بالعاثيات بعدة طرق مثل الأقراص والسوائل والحقن والكريمات، كما أنها تعد أحد أشكال العلاج الرئيسي في بولندا وجورجيا وروسيا.
> ظهور البكتيريا المقاومة. أدى الإفراط في استخدامِ المضادات الحيوية إلى ظهور سلالاتٍ بكتيرية مُقاومِة مما شكَل تهديدا وخطورة أكبر على حياة الملايين من البشر عبر العالم. وإذا كان عدد تلك الأنواع المقاوِمة للمضادات الحيوية قد وصل إلى مئات الآلاف من البكتيريا والفيروسات، فإنه وبحلول سنة 2050 يُقدر العلماء وصول هذا الرقم إلى عشرة ملايين بكتيريا وفيروسٍ مقاومٍ تقريباً. مما سيهدد حياة الملايين عبر العالم؛ خاصة الأطفال وكبارَ السّن وضعيفي المناعة.
تكمن خطورة المضادات الحيوية في كونها لا تميز ولا تفرّق بين البكتيريا النافعة والبكتيريا الضارة للإنسان، وبالتالي فهي تقتل جميع أنواع البكتيريا التي تصادفها داخل جسم الإنسان، ومن جهة أخرى يؤدي سوء استعمال هذه المضادات إلى تمكين البكتيريا من تقوية مناعتها ضد هذه المضادات الحيوية؛ فيصبح الميكروب أقوى وأشد مقاومة لها. وقد شارك 225 من الأخصائيين في الفيروسات من 33 دوله حول العالم في مؤتمر بعنوان «اختراقات في تضاعف الفيروس» في برشلونة، إسبانيا في فبراير (شباط) عام 2018 وناقشوا آخر التطورات في حقل تضاعف الفيروسات برئاسة أريك فريد رئيس تحرير مجلة الفيروسات وألبرت بوش من جامعة برشلونة. وسوف يلتقي ذوو الاختصاص مرة أخرى في العام القادم 2020 في الفتره 5 - 7 فبراير (شباط) أيضا في برشلونة بإسبانيا في مؤتمر بعنوان «مفاهيم جديده في علم الفيروسات».
- العلاج بالعاثيات
> ما هو مفهوم العلاج بالعاثية؟ يشير مفهوم العلاج بالعاثية إلى استخدام الفيروسات الملتهمة للبكتيريا في علاج الإصابات البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية. وغالبا ما تكون العاثيات محددة لنوع واحد من البكتيريا وبذلك تكون أقل ضررا على بكتيريا الفلورا (النبيت الجرثومي في الجسم) الطبيعية للجسم مقارنة بالمضادات الحيوية الشائعة الاستخدام التي غالبا ما تؤدي إلى قتل الفلورا المعوية الطبيعية. وقد يسبب ذلك عدوى ثانوية انتهازية من قبل كائنات أخرى.
ومن المثير للاهتمام أن العاثيات تتوقف عن التضاعف بمجرد القضاء على البكتيريا المستهدفة كما لا تسبب العاثيات مقاومة ثانوية مثل المضادات الحيوية. ومع تزايد حالات البكتيريا المقاومة والعجز في تطوير فئات جديدة من المضادات تولدت الحاجة لاستخدام العاثيات في مجموعة كبيرة من الالتهابات.
وتعتبر تركيبة العاثيات في غاية البساطة، فبعض الأنواع تتكون من رأس مكعب وذيل منقبض، وهذا الأخير مزود بألياف وظيفتها تحسس الطريق بحثا عن البكتيريا، وعندما تصل إليه، ترتبط به عن طريق مستقبلات خاصة، ويبدأ الذيل في الانقباض ليحقن الحامض النووي الموجود في الرأس إلى داخل خلية البكتيريا. وعندما يصبح الحامض النووي داخل البكتيريا يسيطر عليها تماما ويعمل على استنساخ ملايين النسخ منه، وبعد إتمام عملية الاستنساخ التي تصل إلى ملايين النسخ، تنفجر البكتيريا وتخرج العاثيات الجديدة لتكرار إصابة بكتيريا أخرى.
أفضلية العاثيات في الدراسة التي قام بها مركز العلاج بالعاثيات في تبليسي، جورجيا والذي نشر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 في مجلة Infectious Disease News وجد أن العلاج بالعاثيات كان أفضل من العلاج بالمضادات في بعض الإصابات البشرية والحيوانات المصابة مختبريا، ففي تلك الدراسة استخدمت عاثيات لعلاج المرضى الذين يعانون من مرض قيحي بسبب المكورات العنقودية الذهبية.
تم تقسيم المرضى إلى مجموعتين، المجموعة الأولى وتضم 223 مريضا استخدمت العاثيات في علاجهم والمجموعة الثانية وضمت 117 مريضا تم علاجهم بالمضادات الحيوية وتم تقييم النتائج اعتمادا على العديد من الاختبارات بما فيها عينات الدم والبلغم. وقد شفي 82 في المائة من المجموعة الأولى مقارنة بنسبة 64 في المائة من المجموعة الثانية وارتفعت نسبة الشفاء إلى 95 في المائة لمن كان علاجهم بالعاثيات التي حقنت بالوريد.
وفي فنلندا يقول ميكائيل سكونيك من جامعة هلسنكي، بأن الباحثين في الجامعة جمعوا منذ عام 2013 العاثيات التي تكافح البكتيريا المقاومة ويأملون في بدء تجارب علاج التهاب الجروح أو القضاء على بكتيريا الاشريشيا القولونية المقاومة للمضادات الحيوية في الأمعاء.
وقد أجريت حديثا أولى التجارب السريرية التي يتم التحكم فيها باستخدام علاج العاثيات في الولايات المتحدة وبريطانيا وبلجيكا وركزت التجارب بشكل أساسي على إثبات سلامة العلاج ولم تلاحظ أي آثار سلبية على من تلقى العلاج. وقام الاتحاد الأوروبي أيضا بتمويل مشروع يسمى «فاغوبرن» PhagoBurn لعلاج جروح الحروق باستخدام مزيج من العاثيات.
- العلاج بالعاثيات لمنع الإصابة بالبكتيريا المقاومة
> يقول أندرو غاملي من جامعة تافتس في الولايات المتحدة في البحث الذي نشر في17 مايو (أيار) 2019 في مجلة Conversation بأن مجموعة من العاثيات نجحت في علاج مريض مصاب بالتليف الكيسي الذي يعاني من عدوى قاتلة ناجمة عن أحد مسببات الأمراض المقاومة للعديد من المضادات الحيوية والتي تسمى «البكتيريا الفائقة «superbugs. والتوجه الحديث في العلاج بالعاثية يركز على المرضى المعرضين لمخاطر العدوى، وأن الوقاية من العدوى توقف المرض قبل أن يبدأ ومنع انتشار البكتيريا قبل وصولها للآخرين.
أدى اختراع المضادات الحيوية في البلدان الغربية إلى إنهاء اهتمام العلماء بالمعالجة بالعاثيات لعدة عقود ومع ذلك لم يكن هذا هو الحال في أوروبا الشرقية وخاصة في الاتحاد السوفياتي السابق إذ لا يزال معهد آليافا Eliava Institute في تبليسي، جورجيا هو أحد أكثر مراكز العلاج بالعاثيات شهرة في العالم في الألفية الجديدة. وقد أدركت الدول الغربية التهديد المتزايد لمقاومة المضادات الحيوية وظهر الاهتمام الجديد باستخدام العلاج بالعاثية.
والآن وفي مواجهة النمو المزعج لمجموعة متنوعة من الالتهابات البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية، يقدم الباحثون الغربيون والحكومات أيضا نظرة جادة حول العاثيات لأنها تعتبر في أيامنا هذه بمثابة علاج ممكن ضد سلالات البكتيريا المقاومة للعديد من العقاقير. وقد تولت شركة مايكروجين Microgen في المملكة المتحدة وهي إحدى الشركات الكبرى لتطوير وتصنيع المنتجات التشخيصية الآن جميع منتجات العاثية التجارية وتتوفر مجموعة كبيرة من مستحضرات العاثيات في الصيدليات هذه الأيام.


مقالات ذات صلة

من الساعات الذكية إلى دروس الخياطة... صيحات 2025 لحياةٍ أطوَل

يوميات الشرق العنوان العريض لسلوكيات 2025 الصحية هو محاولة إطالة سنوات العمر (رويترز)

من الساعات الذكية إلى دروس الخياطة... صيحات 2025 لحياةٍ أطوَل

مع بداية كل عام، يتطلّع البشر إلى أسلوب عيشٍ يمنحهم صحة أفضل وعمراً أطوَل. فما هي أبرز صيحات 2025 لتحقيق هذَين الهدفَين؟

كريستين حبيب (بيروت)
آسيا رجل يرتدي كمامة ويركب دراجة في مقاطعة هوبي بوسط الصين (أ.ف.ب)

الصين ترفض ادعاءات «الصحة العالمية» بعدم التعاون لتوضيح أصل «كورونا»

رفضت الصين ادعاءات منظمة الصحة العالمية التي اتهمتها بعدم التعاون الكامل لتوضيح أصل فيروس «كورونا» بعد 5 سنوات من تفشي الوباء.

«الشرق الأوسط» (بكين)
صحتك مرضى الفشل الكلوي المزمن يعتمدون على الغسل الكلوي للبقاء على قيد الحياة (جامعة ستانفورد)

علاج نفسي يخفف آلام مرضى الغسل الكلوي

أفادت دراسة أميركية بأن تدريب مهارات التكيف مع الألم، وهو نوع من العلاج النفسي، ساعد مرضى الفشل الكلوي الذين يعتمدون على الغسل الكلوي في تقليل تأثير الألم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
علوم «القمامة العقلية» أكثر ضرراً من تناول «شطيرة برغر بالجبن والبطاطا المقلية»

«القمامة العقلية» أكثر ضرراً من تناول «شطيرة برغر بالجبن والبطاطا المقلية»

شاشاتنا الحديثة تضر بشكل لا يصدق بالسعادة والأداء لأنها تتوجه للإشباع الحسّي على حساب الذكاء الاجتماعي

صحتك خبراء يحذرون بأن الناس غالباً ما يختارون جودة الطعام على الكمية وهو ما قد لا يكون كافياً من الناحية التغذوية (رويترز)

دراسة: «الهوس بالأطعمة الصحية» قد يسبب اضطرابات الأكل والأمراض العقلية

حذر خبراء بأن «الهوس بالأكل الصحي» قد يؤدي إلى الإدمان واضطرابات الأكل.

«الشرق الأوسط» (بودابست)

«القمامة العقلية» أكثر ضرراً من تناول «شطيرة برغر بالجبن والبطاطا المقلية»

«القمامة العقلية» أكثر ضرراً من تناول «شطيرة برغر بالجبن والبطاطا المقلية»
TT

«القمامة العقلية» أكثر ضرراً من تناول «شطيرة برغر بالجبن والبطاطا المقلية»

«القمامة العقلية» أكثر ضرراً من تناول «شطيرة برغر بالجبن والبطاطا المقلية»

يفسر ريتشارد سيتويك، أحد علماء الأعصاب (وضع العصر الحالي) بقوله إن «القمامة العقلية التي نتعامل معها أكثر ضرراً من تناول شطيرة برغر بالجبن والبطاطا المقلية، من حين لآخر».

وريتشارد سيتويك، هو عالم أعصاب وعالم نفس عصبي ومؤلف كتب مدرسية، متخصص في الإدراك فوق المعرفي. وهو أستاذ في علم الأعصاب بجامعة جورج واشنطن. وكانت قصته التي نشرتها مجلة «نيويورك تايمز» عن السكرتير الصحافي الرئاسي جيمس برادي قد رشحت لجائزة بوليتسر عام 1982.

أدمغة البشر نتاج العصر الحجري

إن أدمغة البشر هي نتاج العصر الحجري، ولهذا فإن الحمل الحسّي الزائد لحياة العصر الرقمي، يهدد الأداء الطبيعي الأمثل لهذه البيولوجيا الأساسية. يشرح ريتشارد سيتويك، كيف ولماذا تكافح أدمغتنا لكي تزدهر وسط كتلة من التقنيات الجديدة المسببة للإدمان، وكيف أن عادات شاشاتنا الحديثة تضر بشكل لا يصدق بالسعادة والأداء. لحسن الحظ، يمتلك العلم إمكانية كسر اللعنة التي ألقتها الأجهزة الرقمية على حياتنا.

1 - حدود طاقة الدماغ

يعمل الدماغ ضمن حدود طاقة ثابتة. ويستخدم سيتويك مصطلح «العصر الحجري»؛ لأن أدمغة العصر الحديث لا تختلف عن أدمغة أسلافنا البعيدين. فهي لم تتطور، في حين نمت التكنولوجيا بشكل كبير. وهو يركز على عوامل التشتيت الرقمية والآثار الضارة للهواتف والشاشات على عقولنا... فقد «ذهبت فترات الانتباه إلى الجحيم».

يقول بعض من الناس: «أنا مدمن على هاتفي»، ثم يقضي ساعات في عبر الـ«تيك توك» و«إنستغرام» غير قادر عن التوقف بغض النظر عن مقدار ما يقول إنه يريد ذلك. ينظر الناس بشكل خاطئ إلى القضية باعتبارها مسألة قوى خارجية وليس من منظور الدماغ.

التحمل الحسّي الزائد

ويضيف سيتويك: «أنا أفكر أيضاً من منظور هندسي: ما هي تكلفة الطاقة لأداء عمل معين أو التفكير في شيء معين؟ لا يمكن لأي قدر من النظام الغذائي أو التمرين أو ألغاز السودوكو أن تزيد من الطاقة المتاحة. وبالمثل، فإن قوة الإرادة ووعاء من القهوة عديما الفائدة إذا لم نتمكن من التغلب على حدود الطاقة المتأصلة في الدماغ، فنحن بحاجة إلى العمل بما يتوفر لدينا».

ويضيف أن الدماغ البيولوجي يستهلك قدراً هائلاً من الطاقة. فهو لا يشكل سوى 2 في المائة من وزن الجسم، ومع ذلك يستهلك 20 في المائة من السعرات الحرارية التي نحرقها يومياً. ويذهب معظمها إلى الحفاظ على الهياكل الجسدية من خلال ضخ أيونات الصوديوم والبوتاسيوم عبر الأغشية. ولا يتبقى سوى القليل جداً للعمل العقلي.

ولهذا السبب نحن سيئون للغاية في أداء المهام المتعددة والتعامل مع التحميل الحسّي الزائد... إذ لا يمكن لانتباهك أن يستوعب شيئين في وقت واحد.

2 - شهية التعامل مع القمامة العقلية

الناس مهووسون بما يضعونه في أجسادهم: مادة عضوية، أو نباتية، أو خالية من الغلوتين، أو من دون ألوان صناعية.

إذن، لماذا لا يكونون انتقائيين بشأن ما يتناولونه من خلال الحواس؟ إن القمامة العقلية التي نتناولها أكثر ضرراً من شطيرة برغر بالجبن والبطاطا المقلية. يصوم بعض الأفراد لأسباب صحية أو دينية.

الصيام الحسّي صحي

ولكن ماذا لو كان من الممكن أن نستسلم للصيام الحسي ليوم واحد - أو حتى ساعة - خالياً من الرسائل النصية والتغريدات ومقاطع الفيديو والرسائل الإلكترونية، وغير ذلك من الوجبات السريعة الرقمية؟

لم تتطور أدمغتنا لتتوق إلى التحفيز المستمر؛ بل تتوق إلى المشاركة الاجتماعية وجهاً لوجه. وبالنسبة للطفل، لا يوجد شيء أكثر جاذبية من وجه بشري. فهو يركز عليه ويتبعه ويبتسم بينما تتسع حدقات عينيه. وكل والد وجدّ يعرف هذا. فلماذا إذن نحجب وجوهنا الحقيقية عن بعضنا البعض بصور وسيطة على الهواتف والأجهزة اللوحية؟

إن آلاف الإعجابات والمتابعات والمعارف عبر الإنترنت هي لا شيء مقارنة بالاتصال الحميمي بالشخص الجالس بجانبنا. لقد رأينا جميعاً أشخاصاً يتجمعون حول بعضهم البعض، كل واحد منهم يحدق في هاتفه المحمول بمفرده، ويفشل في التفاعل مع الشخص الذي يبعد عنه قدماً واحدة. فهل من المستغرب أن يبرز وباء الوحدة؟

3 - الشاشات تسبب التوحد الافتراضي

التوحد الافتراضي هو تطور سلوكيات تشبه التوحد لدى الأطفال العاديين الذين يتعرضون لكميات كبيرة من الوسائط التي تعرضها الشاشات، وخاصة الألعاب. تم تقديم مصطلح «التوحد الافتراضي» في عام 2018 من قبل الطبيب النفسي ماريوس تيودور زامفير، الذي درس الأطفال المعرضين لوقت طويل أمام الشاشات.

رغم أن السلوكيات تحاكي سلوكيات اضطراب طيف التوحد - أي تجنب الاتصال البصري، والانسحاب الاجتماعي، وتأخر اللغة، وقلة اللعب الخيالي - فإن هؤلاء الأطفال يتعافون عادة بمجرد تقليل وقت الشاشة بشكل كبير أو القضاء عليه.

الإشباع الحسّي على حساب الذكاء الاجتماعي

إن أدمغة الشباب قابلة للتشكيل والتشكيل وفقاً لأي بيئة يتعرضون لها. وتعد «النوافذ الحرجة»، وخاصة خلال العامين الأولين من الحياة، ضرورية لتنمية الاتصالات في مناطق الدماغ المسؤولة عن الرؤية واللغة والإدراك الاجتماعي. وتتداخل الشاشات مع هذا التطور الطبيعي من خلال تعزيز المسارات التي تعطي الأولوية للإشباع الحسي - مثل التسلسلات السريعة من المشاهد والأصوات - على حساب تلك الخاصة بالذكاء الاجتماعي والعاطفي والتعاطف والخيال.

4 - الشاشات تؤثر مثل التدخين السلبي

كما تعلمنا كيف نحمي أنفسنا من أبخرة السجائر، يمكننا أن نحمي أنفسنا من التعرض غير المرغوب فيه للشاشات.

تعرض الشاشات برامج الطبخ أثناء وجودك على جهاز المشي الكهربائي. وتدعوك الإعلانات في محطات المترو وملاجئ الحافلات. هل تتذكر عندما كانت تلك الأماكن هادئة حيث يمكنك أن تكون بمفردك مع أفكارك؟ قد تكون لديك ساعة لتمضيتها في المطار، لكن الشاشة في الصالة تبث أحدث الأخبار، وكأن التحديثات هي شيء لا يمكنك العيش دون معرفته الآن. إنها تستحوذ على انتباهك مثل الفراشة المتوجهة إلى اللهب وتحتفظ به. تطلب الشاشات أن يتم النظر إليها.

إنشاء مناطق خالية من الشاشات

يمكننا استعادة انتباهنا، لكن الأمر يتطلب جهداً. ستستمر الشاشات في الانتشار. ولكن بوسعنا أن نتعلم كيف نتعايش مع هذه التحديات، من خلال إنشاء مناطق خالية من الشاشات، والتواصل وجهاً لوجه مع الآخرين في كثير من الأحيان. وبوسعنا أن نضع حدوداً لوقت ومكان استخدام أجهزتنا ومن نسمح له بإرسال الرسائل النصية إلينا، والشركات التي نسمح لها بإرسال إشعارات فورية إلينا. ومن السهل أن نقول هذا من أن نفعله، ولكن لا بد أن نبدأ من مكان ما. وأقوى ما يمكنك فعله هو أن تبدأ وتستمر في ذلك.

5 - أجهزة الآيباد هي أسوأ جليسة أطفال

إن هذه الأجهزة هي شكل من أشكال إساءة معاملة الأطفال. لقد عشنا ذات يوم في عالم طبيعي بطيء الخطى من البيئات الخضراء. والموارد التي ناضل أسلافنا من أجلها ذات يوم أصبحت الآن تطغى علينا.

وقد صُممت تكنولوجيا اليوم، التي وعدت بإثراء حياتنا، لجذب انتباه المستخدمين لأطول فترة ممكنة. لا يوجد سوى 1440 دقيقة في اليوم، وتقاتل شركات التكنولوجيا بلا رحمة من أجل جذب انتباهنا، ما يجعل من الصعب الانفصال عنا.

إذا علقت طفلاً بجهاز الآيباد، فسيصبح زبوناً له مدى الحياة. قد يقول الآباء الغاضبون إنه الشيء الوحيد الذي يبقي الأطفال هادئين، لكن أجهزة آيباد هي أسوأ جليسة أطفال على الإطلاق. إن وضعه أمام الطفل أو تعليقه فوق سرير الأطفال هو شكل من أشكال إساءة معاملة الأطفال، في رأيي، لأن القيام بذلك يعيق تطور رؤيتهم المركزية.

الرؤية الطبيعية 20/20؛ وحدة البصر لدى المولود الجديد 20/400. تصبح رؤية الألوان وظيفية في نحو أربعة إلى ستة أشهر، كما هو الحال مع الشبكات الأخرى لفك تشفير التعقيد الإدراكي للحركة.

نوافذ الذكاء العاطفي للطفل

رغم ضعف بصرهم، فإن الأطفال حديثي الولادة مخلوقات اجتماعية ذكية؛ حيث إن التركيز على حدقة العين المتسعة لدى شخص بالغ هو علامة شائعة على الاهتمام والمتعة التي تجعلهم يبتسمون.

تتداخل أجهزة آيباد مع هذا التطور الطبيعي. لا تتحدث الشخصيات على الشاشة مع الطفل بل تتحدث إليه. لا توفر أياً من الإشارات العاطفية والاجتماعية واللغوية التي تتدفق عندما يتفاعل الطفل مع أحد الوالدين أو الأجداد الحقيقيين.

توجد «نوافذ حاسمة» خلال العامين الأولين لنمو مناطق الدماغ المسؤولة عن الرؤية واللغة والذكاء العاطفي، بما في ذلك نظرية العقل، التي تتضمن تعلم كيفية قراءة الآخرين، وهي مهارة تتطور قبل وقت طويل من تعلمنا التحدث. تتداخل الشاشات مع تسلسل النضج الطبيعي من خلال تعزيز المسارات التي تعطي الأولوية للإشباع الحسي الفوري على المسارات المخصصة لهذا النوع من الذكاء العاطفي.

* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا».