«من مزيارة إلى واشنطن» سيرة ذاتية هي حكاية وطن

سركيس نعوم يتحدث عما اضطرته الظروف إلى كتمانه

«من مزيارة إلى واشنطن» سيرة ذاتية هي حكاية وطن
TT

«من مزيارة إلى واشنطن» سيرة ذاتية هي حكاية وطن

«من مزيارة إلى واشنطن» سيرة ذاتية هي حكاية وطن

كتاب الصحافي والكاتب اللبناني سركيس نعوم «من مزيارة إلى واشنطن - حين تستفيق الذاكرة»، الصادر مؤخراً عن «مكتبة بيسان»، مادته منتقاة بعناية من مراحل زاخرة بالمواقف الدالة والأحداث المعبرة. ثمة حياة مهنية صاخبة عاشها الكاتب بشغف جلي، قيضت لها فرصة التفاعل مع الأحداث من مسافة قريبة ومن موقع مؤثر. تاريخٌ صامت قرر أن يحكي أخيراً.
يتحدث نعوم عن الكثير مما اضطرته الظروف إلى كتمانه. يتخلى عن حذر رافقه طيلة مسيرته المهنية الفعالة، ويبدو على امتداد صفحات كتابه التي يتعدى عددها الثلاثمائة صفحة، كما لو أنه يصفي حسابات قديمة مع منبتٍ جغرافي لم ينصفه، ومع كيانٍ انتمائي يعاني منذ ولادته القيصرية معضلة التحول إلى وطن.
في لحظة غير متوقعة يطلُّ الكاتب الصحافي المنحاز إلى الصمت على مشهد الكلام، وهو لا يبدو هذه المرة معنياً بتدوير الزوايا أو مسايرة الموقف. لم يعد في العمر أكثر (أو بقدر) مما مضى، وليس من مبرر بالتالي لممارسة التقية في الكشف. البوح هنا يصير ملح الحياة الملِّح، تماماً كما كان السكوت ذهبَها المنشود أو الوعدَ به.
يبدأ نعوم مسيرته من مسقط الرأس والأحلام في مزيارة، البلدة الشمالية المتاخمة لزغرتا، تلك الجغرافيا المنطوية على الكثير من الروعة والدماء معاً... يتحدث عن الإقطاع السياسي المتعالي، وعن تركيبة اجتماعية مفتوحة الشهية على السلطة والقتل، عن رجالٍ لا تنقصهم الطيبة لكنهم ينحون غالباً نحو الاحتكام للسلاح في مفارقة عصية على التفسير. رجال يصادقون بإخلاص، لكنهم يقتلون بحماسة أيضاً. في بيئة على هذا القدر من السوريالية، وُلد الكاتب لأمٍّ زغرتاوية وأبٍ مزياري يهوى الشعر فتقصيه عنه مطالب العيش.
يتناول نعوم تفاصيل حادثة مزيارة التي وقعت عام 1957 والتي كان للرئيس الراحل سليمان فرنجية دور مفصلي فيها. تنافس عائلي أذكته السياسة فأثمر مجزرة من 35 ضحية سالت دماؤها في الكنيسة أثناء جنازة أحد الوجهاء العائليين. السياسة نفسها أعادت استيعاب الموقف وضمدت الجرح على كثير من الزغل. بعد ثلاثة عشر عاماً جرى انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية بأغلبية صوت واحد سماه فخامته «صوت الله».
يبدأ الكتاب سيرة ذاتية لكاتبه، لكنَّه يتغير فجأة ليصير حكاية وطن منشود لطالما كانت خرائطه تتبدل تبعاً لاختلاف مناخه السياسي، فتتحول شوارعه إلى خطوط تماس، وتصير أحياؤه الراقية منفى للمهجرين، والأهم: تكتسب حاراته أبعاداً ومدلولات طائفية متمحورة بين الـ«نحن» والـ«هم».
من المفارقات الطريفة التي يوردها الكاتب أن خليل الجمل، أول شهيد لبناني في فلسطين هو شقيق صديقه نبيل الذي كان غير مسيس، لكنه وجد نفسه فجأة مضطراً لارتجال كلمة في جامعة بيروت العربية في احتفال لتكريم شقيقه الشهيد. ارتبك الرجل وألقى كلمة مليئة بالأخطاء، ثمَّ ختمها بالقول للحاضرين: «إن شاء الله نقيم احتفالات تأبينية لكم جميعاً».
لا يطول الأمر بالقارئ قبل أن يكتشف أن المسار المهني للكاتب الصحافي لا يختلف عن مثيله الجغرافي. هنا أيضاً ثمة خطوط تماس وعمليات قنص ومتاريس مرفوعة. يكشف نعوم أسرار تجربته في صحيفة «النهار» التي تعتبر علامة فارقة في تاريخ الصحافة العربية. لا يختلف اثنان في كون مؤسسها الراحل غسان تويني علماً من أعلام المهنة، لكن روما من تحت غيرها من فوق، حيث لن يكون بوسع المؤسسة ولا صاحبها احتمال كاتب مستقل الرأي. ولن يكون ممكناً تبرير مقال كتبه الراحل غسان الإمام في «الشرق الأوسط» يقول فيه إن سركيس نعوم هو الأجدر بخلافة الكاتب الراحل ميشال أبو جودة. وسيؤول الأمر بتويني لأن يسأل سركيس نعوم مباشرة: «هيدي الجريدة لبيي ورتني إياها، شو أنت جايي تقشطني إياها»؟ّ (هذه الجريدة أورثني إياها والدي هل تريد أخذها مني؟). ليست الحادثة يتيمة في سجل الصحافة اللبنانية. يمكن دوماً العثور على مثل هذا الصراع المستتر بين كاتب متميز تدين له الوسيلة الإعلامية بالكثير من عوامل نجاحها، وبين ناشر يرفض الاعتراف بدور ومكانة الأجير العامل لديه بصفة كاتب. في الكواليس حوارٌ بين ناشر إحدى الصحف وبين مدير تحريرها، يقول الأخير للأول: «أتمنى ألا تصدق من يقول لك أنك صاحب الجريدة. أنت صاحب العقار فقط».
على المحور السياسي تغدو الأمور أكثر إثارة للجدل. مكانة الصحافي مرتبطة بالحاجة اللحظوية إليه، فإذا انتفت غداً مسماه في القاموس السياسي «جورنالجياً» بكل ما توحي به الكلمة من تعالٍ وتهكم وسخرية. هكذا اكتشف سركيس نعوم أن معظم الساسة اللبنانيين يتفقون، مهما اختلفت معتقداتهم ورؤاهم، حول صفتي الوصولية والانتهازية... وثمة في الكتاب الكثير من المواقف التي تدعم هذا الرأي.
يستفيض الكاتب في سرد تفاصيل معبرة تلقي الضوء على الأداء الناظم للعمل السياسي في لبنان، تاركاً للقارئ أن يكتشف الأسباب الجوهرية المعيقة لعملية تحول هذا الكيان الجغرافي إلى وطن مكتمل الشروط.
يتحدث عن علاقته بالرئيس الراحل رفيق الحريري، معرفته به في منزل الرئيس الراحل إلياس سركيس في باريس عام 1983. تواصله معه في مؤتمر لوزان في مارس (آذار) عام 1984 وصولاً إلى تعمق الصلة به لاحقاً.
يتجه بعد ذلك نحو مرحلة الوجود السوري في لبنان، هناك المثير مما يستحق السرد، لكن الأبرز هو ذلك الارتماء الكلي للساسة اللبنانيين في أحضان النفوذ السوري، في طليعتهم أولئك الذين يعارضون سوريا اليوم.
في ختام كتابه يعرض سركيس نعوم إلى علاقته بالساسة الأميركيين وكيف تحول بعضهم إلى «مصادر احترافية» و«أصدقاء مخلصين». لا يداري الاتهامات التي تعرَّض لها بكونه عميلاً أميركياً، فقد سبق له أن اتهم بالعمالة لسوريا سابقاً، لكنه كان عميلاً لمهنة الكاتب الصحافي المستقل دوماً.


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».