جونسون أدخل الشعبوية إلى داوننغ ستريت

وعد بتحويل بريطانيا إلى «أعظم دولة على وجه الأرض»

بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)
بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)
TT

جونسون أدخل الشعبوية إلى داوننغ ستريت

بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)
بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)

لم تعد الشعبوية شعاراً فقط. إنها الآن برنامج حكم يتسع على امتداد عدد من الدول الغربية المؤثرة ويمتد صداه إلى دول أخرى. آخر الحصاد الشعبوي تمثل بوصول بوريس جونسون إلى منصب رئيس الحكومة البريطانية. حدث كهذا كان يبدو مستبعداً قبل عقد من الزمن. أن يصل سياسي بمواصفات جونسون إلى قيادة إحدى أعرق الديمقراطيات الغربية. لا حزبه، حزب المحافظين، كان يتيح ذلك، نظراً إلى ميل تقليدي في صفوفه إلى الاعتدال واتساع مساحة النقاش الداخلي، ولا بريطانيا كانت تعرف عنها مسايرتها لسياسات هي أقرب إلى العنصرية والتماهي مع اليمين المتطرف، كما هي اليوم.
لكن هذا المد الشعبوي الذي وصل إلى لندن كان قد سلك طرقاً أخرى بنجاح. أبرزها طبعاً طريقه إلى البيت الأبيض؛ حيث يحكم أبرز الشعبويين، دونالد ترمب، الذي يفاخر بإطلاق لقب «ترمب بريطانيا» على صديقه بوريس جونسون. وعلى الجانب الآخر من القارة الأوروبية، هناك رئيس حكومة المجر فيكتور أوربان ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، اللذان يتشاركان سياسات العداء للمهاجرين، والدعوة إلى «تنظيف» القارة الأوروبية، وإعادتها إلى «أصولها المسيحية»، التي يعتبران أن الاختلاط العرقي والديني في أوروبا أصبح يشكل خطراً عليها.

«إنه رجل جيد... إنه قوي وذكي. يسمّونه ترمب بريطانيا، وهذا شيء جيد، إنهم يحبونني هناك». هكذا هنّأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب «صديقه» بوريس جونسون، الذي فاز برئاسة الوزراء في بريطانيا. وهكذا اختصر ترمب قصة نجاح رئيس الوزراء الشاب، وتباهى بقوة تأثير ظاهرة أرادها مستشاره السابق ستيف بانون عابرة للقارات.
في أول خطاب له رئيسا للوزراء، وعد جونسون بـ«عصر ذهبي جديد»، عبر «توحيد وتنشيط المملكة المتحدة، وجعلها أعظم دولة على وجه الأرض»، كما أولى اهتماما خاصا بتحقيق ازدهار اقتصادي باهر وتجاوز الاقتصادات الأوروبية بحلول 2050، كلها محاور اختارها جونسون بعناية، تعيدنا أصداؤها إلى خطاب الرئيس ترمب الشعبوي المبني على «استعادة عظمة أميركا» و«السيطرة على الحدود» و«تحقيق أقوى اقتصاد في التاريخ».
ليست هذه المرة الأولى التي يلتقي فيها خطابا ترمب وجونسون، المعروفان بميلهما لتزوير الحقائق لتعزيز موقفهما. فقد شاب فترة عمل جونسون في بروكسل بصفته مراسلا لصحيفتي «ذي تايمز» و«ذي ديلي تيلغراف» كثير من التزوير وتحريف الحقائق والمبالغات، أدّت إلى طرده من الأولى وشهرته في الثانية. كما يذكّر سجل جونسون كوزير للخارجية المليء بالزلات الدبلوماسية والمزحات المستفزة أحياناً بأسلوب الرئيس الأميركي المثير للجدل. وكان أسوأ خطأ اقترفه جونسون بحق السجينة نزانين زغاري رادكليف، حاملة الجنسيتين الإيرانية والبريطانية، والتي اعتقلتها إيران بتهمة العمل لصالح حكومة أجنبية لإسقاط النظام. وناقض جونسون علناً عائلة رادكليف التي أكدت أنها ذهبت إلى طهران في زيارة عائلية، بعدما قال إنها كانت تدرب صحافيين في إيران قبل اعتقالها. ونفت عائلة نزانين ذلك بشدة، وعبرت عن غضبها وخشيتها من أن تصريحه أثر سلباً على قضيتها وأطال فترة سجنها. كما واجه جونسون وابل انتقادات من داخل حزبه وخارجه، بعدما وصف المنتقبات بـ«صناديق البريد أو لصوص البنوك»، في مقال رأي. ورغم أن هذا الوصف جاء في سياق مقال يعارض حظر النقاب، فإن الانتقادات ربطت بين حديث جونسون وظاهرة الإسلاموفوبيا.
إلا أن هذه المقارنة بين ترمب وجونسون قد لا تروق لأنصار السياسي البريطاني المحافظ، الذي توقّع لنفسه مستقبلا باهرا، وأكد لشقيقته وهو طفل أنه سيصبح «ملك العالم». فرغم ترحيبه بـ«صداقة» الرئيس الأميركي، واقتباسه من قاموسه وتباهيه بقدرته على إبرام اتفاق تاريخي للتجارة الحرة مع واشنطن بعد «بريكست»، فإن جونسون الذي خطّط للوصول إلى رئاسة الوزراء منذ شبابه يدرك أن الخطاب الشعبوي لن ينجح في استمالة غالبية الناخبين في المملكة المتحدة، ولن يضمن له النجاح الذي حققه ترمب، بسبب اختلاف التركيبة السياسية في البلدين الحليفين.
وبينما تبقى أوجه الشبه بين الرجلين كثيرة، من الخطابات السياسية النارية التي كثيرا ما تحمل إساءات عنصرية أو دينية، إلى الوعود الفضفاضة بالعظمة والازدهار، مروراً بمشاركتهما الإعجاب الشديد بتشيرشل وحبهما لمدينة نيويورك مسقط رأسهما، فإن وراء الشعر الأشقر وربطات العنق الطويلة وفضائح الخيانات الزوجية، نجد اختلافات جوهرية بين ترمب و«نسخته» البريطانية.
يقول النائب المحافظ وأحد أبرز الداعمين لجونسون، دانييل كازينسكي، إنه «بخلاف لون شعرهما، لا أرى كثيرا من أوجه التشابه بين الرجلين». وأضاف متحدّثا لـ«الشرق الأوسط» أن «الرجلين يتشاركان في نقطة أساسية، وهي عزمهما على الدفاع عن بلديهما واتخاذ قرارات مثيرة للجدل أحيانا لتحقيق هذا الهدف». وتابع أن ما يثير إعجابه في جونسون هو حنكته السياسية وقدرته على الفوز بحملات انتخابية صعبة، ضاربا المثل بفوزه برئاسة بلدية لندن أمام كين ليفينغستون رغم تأخره بـ17 نقطة في استطلاعات الرأي. وردا على ما إذا كان جونسون شعبويا، قال كازينسكي إن ما يسميه البعض شعبوية هو في الحقيقة قدرة على تقديم سياسات تلقى أصداء إيجابية لدى الناخبين. وتابع أن «جونسون قادر على تغيير مزاج حزب المحافظين والبلاد بشكل عام. هناك حماس ملموس لتسلمه مهام رئاسة الحكومة».
ولعل أبرز اختلاف بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني هو أن الأول بنى شعبيته على انتقاد «النخب» السياسية و«مستنقع» واشنطن المؤسساتي، فصنع لنفسه سمعة «ممثّل الشعب» داخل البيت الأبيض الذي يسعى لانتزاع حقوق الطبقات العاملة من «شراهة» سياسيي العاصمة. فيما يعدّ جونسون في المقابل رجل نخبة بامتياز، فقد ارتاد كلية «إيتون» النخبوية التي أنتجت 20 رئيس وزراء بريطانيا، والتحق بجامعة «أوكسفورد» التي تشارك صفوفها مع ديفيد كاميرون، قبل أن ينضمّ إلى صحيفتين مرموقتين ويُطلق مسيرة سياسية متعثّرة وصلت به إلى «10 داونينغ ستريت» هذا الأسبوع.
أما الاختلاف البارز الثاني، فيتعلق ببرنامجهما السياسي. ففي الوقت الذي يلتقيان عند «بريكست»، فإنهما يختلفان حول قضايا الهجرة واستغلالها لتعزيز الشعور القومي. جونسون لم يخفِ دعمه لتقديم عفو عام عن المهاجرين المخالفين المستقرين بالمملكة المتحدة، وإلغاء سقف الهجرة الذي حددته حكومة تيريزا ماي من قبله. إلى ذلك، اختار جونسون تشكيلة حكومية يعكس تنوع أعضائها الاختلاف العرقي في بريطانيا، كما انتقد دعوة ترمب نائبات في الكونغرس إلى «العودة إلى بلدانهن»، واعتبرها غير مقبولة.
ورغم اختلاف أجندتهما السياسية، يراهن ترمب على أن يعمل جونسون بنصيحته ويتعاون مع رئيس حزب «بريكست» الجديد نايجل فاراج، الذي يعتبره ترمب «رجله» في لندن. وكر الرئيس الأميركي هذه الدعوة، عندما استقبل فاراج في تجمع انتخابي بواشنطن وهنّأه على أدائه في الانتخابات الأوروبية. وبينما يتشارك ترمب وجونسون العفوية السياسية، تكاد القناعات السياسية والاجتماعية لترمب وفاراج تتطابق.
ويبقى الاختبار الحقيقي لعلاقة الرئيس الأميركي وساكن «10 داونينغ ستريت» الجديد في مدى نجاح الأخير في تنفيذ «بريكست» وإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في آخر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، والانتقال لإبرام اتفاق تجارة «عادل» للولايات المتحدة وبريطانيا.



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.