ماتيو سالفيني... عنصري يحنّ إلى الفاشية

من لقاء بين فيكتور أوربان وماتيو سالفيني في بودابست في مايو (أيار) الماضي (غيتي)
من لقاء بين فيكتور أوربان وماتيو سالفيني في بودابست في مايو (أيار) الماضي (غيتي)
TT

ماتيو سالفيني... عنصري يحنّ إلى الفاشية

من لقاء بين فيكتور أوربان وماتيو سالفيني في بودابست في مايو (أيار) الماضي (غيتي)
من لقاء بين فيكتور أوربان وماتيو سالفيني في بودابست في مايو (أيار) الماضي (غيتي)

«في المعتقد الفاشي، الشعب هو الدولة والدولة هي الشعب. كل شيء في الدولة، لا شيء ضد الدولة أو خارجها». (بنيتو موسوليني)
مرّت مائة عام على نشوء الحركة الفاشيّة، كنظام سياسي وصيغة للدولة، على يد بنيتو موسوليني الذي ظهر للمرة الأولى في المشهد السياسي الإيطالي كعضو بارز في الحزب الاشتراكي الذي كان يمرّ بمرحلة من التراجع والانحلال والهزائم الانتخابية المتعاقبة. يومها كانت إيطاليا تتخبّط في أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية خانقة دفعت كثيرين إلى الالتفاف بسرعة حول القائد القوي الذي توسّمت فيه شخصية «المنقذ» من الانهيار والواعد بنهضة جديدة. بقيّة الحكاية باتت معروفة وانتهت بإعدام موسوليني إلى جانب عشيقته وبعض مساعديه على يد المقاومة الإيطالية وتعليق جثثهم أمام محطة للوقود وإنزال كل أنواع التنكيل بها.
ومنذ عامين تعيش إيطاليا على وقع جولات وصولات زعيم يميني متطرف، بدأ مسيرته السياسية في صفوف الشبيبة الشيوعية على مقاعد الجامعة التي غادرها قبل التخرّج لينخرط في صفوف حزب «الرابطة» الانفصالي الذي يطالب باستقلال مقاطعات الشمال الغنيّة عن إيطاليا. مطلع العام 2014 حقق ماتّيو سالفيني أوّل فوز سياسي كاسح له في معركة قيادة الحزب ضد مؤسسه أومبرتو بوسّي. وقرّر إسقاط المطلب الانفصالي واستبدال برنامج يقوم على مكافحة الهجرة والتمرّد على المؤسسات الأوروبية التي يتهمها بكل العلل التي تعاني منها إيطاليا به.
عندما تسلّم سالفيني قيادة الحزب كانت شعبيته لا تتجاوز 4٪، واليوم ترجّح كل الاستطلاعات أن «الرابطة» قد تتجاوز 40٪ من الأصوات في حال إجراء انتخابات مبكرة، مما يتيح لسالفيني تشكيل حكومة منفرداً من غير الاعتماد على تحالفات مع الأحزاب الأخرى أو دعمها.
اللافت في شعبية سالفيني ليست سرعة صعوده التي تكاد تبدو طبيعية بل حتميّة في ظل الانهيار الذي أصاب الأحزاب التقليدية الإيطالية والنقمة العارمة ضد فسادها وصراعاتها الداخلية، بل كون هذا الصعود يتعزز ويزداد زخمه بقدر ما يتمادى سالفيني في خطابه العنصري والتحريضي ويسرف في مهاجمة المؤسسات الأوروبية. والأغرب من ذلك أن شعبيته صمدت أمام الانتكاسات السياسية التي أصابته والفضائح التي طالت الحلقة الضيّقة المحيطة به، وآخرها ما كُشف من معلومات عن تمويل روسي مباشر لحزبه.
كثيرون وصفوا سالفيني بالفاشي وحذّروا من مخاطر انزلاق إيطاليا إلى المنحدر الذي غرقت فيه منذ مائة عام. آخرون يقلّلون من شأن المضمون العقائدي لهذه الظاهرة التي يرون أنها تفتقر إلى السياق المحلي والإقليمي لرسوخها، ويعتبرون أن سالفيني ليس أكثر من مجرّد وليد طبيعي لظروف معيّنة ينحسر بانحسارها ويزول بزوالها. وثمّة من يرى أن زعيم «الرابطة» هو النسخة المحلّية من ظاهرة يتّسع امتدادها على الصعيد العالمي بلغت ذروة إفرازاتها بوصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وامتدت حتى جلوس بولسونارو في سدة رئاسة جمهورية البرازيل.
لكن هل تصحّ فعلاً التسمية الفاشيّة لهذه الإفرازات السياسية التي تنضح، بنسب متفاوتة، بخطاب عنصري ومفاخرة بالخروج عن القواعد المسلكية المعهودة وازدراء فاضح للقيم الأخلاقية والمعايير القانونية؟ في معظم الحالات يُستخدم المصطلح الفاشي بعيداً عن الدقّة، وأحياناً بقدر من الخفّة، لمهاجمة الخصم السياسي أو الفكري، أو للإشارة إلى هذا الحنين المتزايد لمرحلة تاريخية كلّما انسدّت الآفاق الاجتماعية والاقتصادية أمام السياسة وفشلت هذه في إيجاد المنافذ التي تحول دون انجرافها بشكل غريزي وراء البطش والقوّة.
في مطالع القرن الماضي نما الفكر الفاشي الإيطالي في تربة كانت تخصّبها منذ سنوات مشاعر الهزيمة والإحباط والخيبة والنقمة الشديدة على الطبقة الحاكمة وعلى المؤسسات البرلمانية التي راكمت عقوداً من الفساد والفشل في إدارة الشأن العام ومعالجة الأزمات المعيشية. ظروف كتلك تسود المجتمع الإيطالي اليوم وتولّد شعوراً قويّاً رافضاً للسياسة بمفهومها التقليدي، ولرموزها من أحزاب وقيادات، وأيضا للمؤسسات الديمقراطية. وهو شعور لا يخضع لمعايير التحليل المنطقي والمفاضلة العقلانية، ويغذّي التربة التي تفرّخ فيها قيادات مثل سالفيني وأشباهه، تلعب على وتر الغرائز وتحرّض ضد المهاجر المسلم أو صاحب البشرة السوداء، والذي يهدّد بنظر هذه القيادات النقاء العرقي والديني للمجتمع الأبيض.
بعض الباحثين والمؤرخين يعتبرون أن هذه القيادات الجديدة لا تستوفي شروط توصيفها بالفاشيّة التي أصبحت مصطلحاً فضفاضاً يفتقر إلى الدقّة في الدلالة بعكس الليبرالية أو الشيوعية، ويدعون إلى استنباط مصطلح آخر لها بوصفها ظاهرة تختلف عن الفاشيّة التقليدية، ويحذّرون من الوقوع في خطأ دمجها بالحركة الشعبويّة التي لا تتماهى معها سوى برفض النظام القائم والخروج عن مؤسساته. ويرى آخرون أن جوهر الفكر الفاشي لم يتغيّر مع هذه القيادات، لكن أدواته ووسائل التعبير عنه وحدها هي التي تغيّرت.
في غضون ذلك يواصل سالفيني صعوده السريع ويشكّل حالة فريدة في إحدى الدول الكبرى المؤسسة للاتحاد الأوروبي. يدير دفّة الحكومة الإيطالية ولا يكفّ عن إعلان تمرّده على المؤسسات الأوروبية وتحدّيه لقواعد الشراكة التي ارتضتها بلاده داخل الاتحاد. يفتح جبهات في كل الاتجاهات مع كل من يعترض على سياساته، حتى لو كان البابا. يقيم منذ سنوات علاقة وطيدة بسيّد الكرملين تخضع اليوم لتحقيقات النيابة العامة الإيطالية بعد الاشتباه بتمويل روسي لحزب «الرابطة». وتربطه صداقة متينة بالمخطط الاستراتيجي السابق للرئيس الأميركي والناشط العنصري المعروف ستيف بانون الذي يدير في إيطاليا مؤسسة عالمية لإعداد وتدريب القيادات اليمينية المتطرفة.
هيمنته على المشهد السياسي الإيطالي لم تعد موضع شك حتى من ألدّ خصومه. شعبيته تتجاوز 40% حسب كل الاستطلاعات وأمامه كل يوم ذريعة جديدة لإسقاط الحكومة وإجراء انتخابات يعرف أنه سيكتسحها. لكن سالفيني يحجم عن الإقدام على هذه الخطوة التي ينصح بها معظم معاونيه، ويفضّل البقاء في منصبه كوزير للداخلية. إنه اللغز الذي يلقي بظلاله على الحياة السياسية الإيطالية والذي لا يملك سرّه سوى سالفيني.



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.