ماتيو سالفيني... عنصري يحنّ إلى الفاشية

من لقاء بين فيكتور أوربان وماتيو سالفيني في بودابست في مايو (أيار) الماضي (غيتي)
من لقاء بين فيكتور أوربان وماتيو سالفيني في بودابست في مايو (أيار) الماضي (غيتي)
TT

ماتيو سالفيني... عنصري يحنّ إلى الفاشية

من لقاء بين فيكتور أوربان وماتيو سالفيني في بودابست في مايو (أيار) الماضي (غيتي)
من لقاء بين فيكتور أوربان وماتيو سالفيني في بودابست في مايو (أيار) الماضي (غيتي)

«في المعتقد الفاشي، الشعب هو الدولة والدولة هي الشعب. كل شيء في الدولة، لا شيء ضد الدولة أو خارجها». (بنيتو موسوليني)
مرّت مائة عام على نشوء الحركة الفاشيّة، كنظام سياسي وصيغة للدولة، على يد بنيتو موسوليني الذي ظهر للمرة الأولى في المشهد السياسي الإيطالي كعضو بارز في الحزب الاشتراكي الذي كان يمرّ بمرحلة من التراجع والانحلال والهزائم الانتخابية المتعاقبة. يومها كانت إيطاليا تتخبّط في أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية خانقة دفعت كثيرين إلى الالتفاف بسرعة حول القائد القوي الذي توسّمت فيه شخصية «المنقذ» من الانهيار والواعد بنهضة جديدة. بقيّة الحكاية باتت معروفة وانتهت بإعدام موسوليني إلى جانب عشيقته وبعض مساعديه على يد المقاومة الإيطالية وتعليق جثثهم أمام محطة للوقود وإنزال كل أنواع التنكيل بها.
ومنذ عامين تعيش إيطاليا على وقع جولات وصولات زعيم يميني متطرف، بدأ مسيرته السياسية في صفوف الشبيبة الشيوعية على مقاعد الجامعة التي غادرها قبل التخرّج لينخرط في صفوف حزب «الرابطة» الانفصالي الذي يطالب باستقلال مقاطعات الشمال الغنيّة عن إيطاليا. مطلع العام 2014 حقق ماتّيو سالفيني أوّل فوز سياسي كاسح له في معركة قيادة الحزب ضد مؤسسه أومبرتو بوسّي. وقرّر إسقاط المطلب الانفصالي واستبدال برنامج يقوم على مكافحة الهجرة والتمرّد على المؤسسات الأوروبية التي يتهمها بكل العلل التي تعاني منها إيطاليا به.
عندما تسلّم سالفيني قيادة الحزب كانت شعبيته لا تتجاوز 4٪، واليوم ترجّح كل الاستطلاعات أن «الرابطة» قد تتجاوز 40٪ من الأصوات في حال إجراء انتخابات مبكرة، مما يتيح لسالفيني تشكيل حكومة منفرداً من غير الاعتماد على تحالفات مع الأحزاب الأخرى أو دعمها.
اللافت في شعبية سالفيني ليست سرعة صعوده التي تكاد تبدو طبيعية بل حتميّة في ظل الانهيار الذي أصاب الأحزاب التقليدية الإيطالية والنقمة العارمة ضد فسادها وصراعاتها الداخلية، بل كون هذا الصعود يتعزز ويزداد زخمه بقدر ما يتمادى سالفيني في خطابه العنصري والتحريضي ويسرف في مهاجمة المؤسسات الأوروبية. والأغرب من ذلك أن شعبيته صمدت أمام الانتكاسات السياسية التي أصابته والفضائح التي طالت الحلقة الضيّقة المحيطة به، وآخرها ما كُشف من معلومات عن تمويل روسي مباشر لحزبه.
كثيرون وصفوا سالفيني بالفاشي وحذّروا من مخاطر انزلاق إيطاليا إلى المنحدر الذي غرقت فيه منذ مائة عام. آخرون يقلّلون من شأن المضمون العقائدي لهذه الظاهرة التي يرون أنها تفتقر إلى السياق المحلي والإقليمي لرسوخها، ويعتبرون أن سالفيني ليس أكثر من مجرّد وليد طبيعي لظروف معيّنة ينحسر بانحسارها ويزول بزوالها. وثمّة من يرى أن زعيم «الرابطة» هو النسخة المحلّية من ظاهرة يتّسع امتدادها على الصعيد العالمي بلغت ذروة إفرازاتها بوصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وامتدت حتى جلوس بولسونارو في سدة رئاسة جمهورية البرازيل.
لكن هل تصحّ فعلاً التسمية الفاشيّة لهذه الإفرازات السياسية التي تنضح، بنسب متفاوتة، بخطاب عنصري ومفاخرة بالخروج عن القواعد المسلكية المعهودة وازدراء فاضح للقيم الأخلاقية والمعايير القانونية؟ في معظم الحالات يُستخدم المصطلح الفاشي بعيداً عن الدقّة، وأحياناً بقدر من الخفّة، لمهاجمة الخصم السياسي أو الفكري، أو للإشارة إلى هذا الحنين المتزايد لمرحلة تاريخية كلّما انسدّت الآفاق الاجتماعية والاقتصادية أمام السياسة وفشلت هذه في إيجاد المنافذ التي تحول دون انجرافها بشكل غريزي وراء البطش والقوّة.
في مطالع القرن الماضي نما الفكر الفاشي الإيطالي في تربة كانت تخصّبها منذ سنوات مشاعر الهزيمة والإحباط والخيبة والنقمة الشديدة على الطبقة الحاكمة وعلى المؤسسات البرلمانية التي راكمت عقوداً من الفساد والفشل في إدارة الشأن العام ومعالجة الأزمات المعيشية. ظروف كتلك تسود المجتمع الإيطالي اليوم وتولّد شعوراً قويّاً رافضاً للسياسة بمفهومها التقليدي، ولرموزها من أحزاب وقيادات، وأيضا للمؤسسات الديمقراطية. وهو شعور لا يخضع لمعايير التحليل المنطقي والمفاضلة العقلانية، ويغذّي التربة التي تفرّخ فيها قيادات مثل سالفيني وأشباهه، تلعب على وتر الغرائز وتحرّض ضد المهاجر المسلم أو صاحب البشرة السوداء، والذي يهدّد بنظر هذه القيادات النقاء العرقي والديني للمجتمع الأبيض.
بعض الباحثين والمؤرخين يعتبرون أن هذه القيادات الجديدة لا تستوفي شروط توصيفها بالفاشيّة التي أصبحت مصطلحاً فضفاضاً يفتقر إلى الدقّة في الدلالة بعكس الليبرالية أو الشيوعية، ويدعون إلى استنباط مصطلح آخر لها بوصفها ظاهرة تختلف عن الفاشيّة التقليدية، ويحذّرون من الوقوع في خطأ دمجها بالحركة الشعبويّة التي لا تتماهى معها سوى برفض النظام القائم والخروج عن مؤسساته. ويرى آخرون أن جوهر الفكر الفاشي لم يتغيّر مع هذه القيادات، لكن أدواته ووسائل التعبير عنه وحدها هي التي تغيّرت.
في غضون ذلك يواصل سالفيني صعوده السريع ويشكّل حالة فريدة في إحدى الدول الكبرى المؤسسة للاتحاد الأوروبي. يدير دفّة الحكومة الإيطالية ولا يكفّ عن إعلان تمرّده على المؤسسات الأوروبية وتحدّيه لقواعد الشراكة التي ارتضتها بلاده داخل الاتحاد. يفتح جبهات في كل الاتجاهات مع كل من يعترض على سياساته، حتى لو كان البابا. يقيم منذ سنوات علاقة وطيدة بسيّد الكرملين تخضع اليوم لتحقيقات النيابة العامة الإيطالية بعد الاشتباه بتمويل روسي لحزب «الرابطة». وتربطه صداقة متينة بالمخطط الاستراتيجي السابق للرئيس الأميركي والناشط العنصري المعروف ستيف بانون الذي يدير في إيطاليا مؤسسة عالمية لإعداد وتدريب القيادات اليمينية المتطرفة.
هيمنته على المشهد السياسي الإيطالي لم تعد موضع شك حتى من ألدّ خصومه. شعبيته تتجاوز 40% حسب كل الاستطلاعات وأمامه كل يوم ذريعة جديدة لإسقاط الحكومة وإجراء انتخابات يعرف أنه سيكتسحها. لكن سالفيني يحجم عن الإقدام على هذه الخطوة التي ينصح بها معظم معاونيه، ويفضّل البقاء في منصبه كوزير للداخلية. إنه اللغز الذي يلقي بظلاله على الحياة السياسية الإيطالية والذي لا يملك سرّه سوى سالفيني.



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.