الهجرة الأميركية اللاتينية تحدٍ مزدوج لواشنطن ومكسيكو سيتي

«جدار الفصل» والرسوم الجمركية على خلفية سياسات اليمين واليسار

الهجرة الأميركية اللاتينية تحدٍ مزدوج لواشنطن ومكسيكو سيتي
TT

الهجرة الأميركية اللاتينية تحدٍ مزدوج لواشنطن ومكسيكو سيتي

الهجرة الأميركية اللاتينية تحدٍ مزدوج لواشنطن ومكسيكو سيتي

في التاسع عشر من يونيو (حزيران) الماضي، وقف كيفن ماكلينان، رئيس قسم الهجرة في وزارة الأمن القومي بالولايات المتحدة، أمام لجنة الرقابة والإصلاح التي تعد أهم لجان التحقيق والمساءلة في الكونغرس الأميركي، ليستمع إلى رئيس اللجنة الديمقراطي إليجا كامينغز وهو يؤنبه على التقصير في معاملة المهاجرين غير الشرعيين «المتكدسين كالماشية» في مراكز الاعتقال على الحدود مع المكسيك، ويفتقرون إلى أدنى الخدمات الإنسانية والعناية الصحية.
كامينغز قال يومذاك في تأنيبه: «... ماذا يعني أنكم تقومون بما في وسعكم والعالم بأسره يشاهد صور الأطفال ينامون على برازهم؟! كيف يمكن أن نقبل بذلك؟! ألهذا الحد قد وصلنا؟! سئمت سماع مثل هذا الكلام الفارغ... هذه لم تعد مسألة هجرة فحسب، بل باتت قضية عنصرية!».
كان ذلك مؤشراً آخر على مدى الخطورة التي بلغتها أزمة الهجرة في الولايات المتحدة، وعمق تداعياتها الاجتماعية في إحدى أكثر المراحل السياسية اضطراباً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
عندما بدأ دونالد ترمب مسيرته الحافلة بالمفاجآت إلى سدّة الرئاسة الأميركية في عام 2016، كان فريقه الاستراتيجي، الذي أسسه وأشرف عليه ستيف بانون، قد حدد له مجموعة من الأهداف ليصوب إليها سهام حملته الانتخابية الهجومية، ويعلن قائمة طويلة من الوعود. تلك الوعود بدت عرقوبيّة في حينه، لما كانت تحمله من خروج عن المألوف ومجازفة في تحقيقها، غير أنه تبيّن فيما بعد أنها تشكل الركائز الأساسية لسياسته التي قلبت معظم الموازين والأعراف السائدة، وأحرجت حلفاء الولايات المتحدة وأصدقاءها أكثر من خصومها وأعدائها.
المكسيك، «الجارة الجنوبية» اللدود، كانت على رأس قائمة العناوين التي بنى عليها ترمب حملة أدهشت كثيرين بما حملته من تهديد ووعيد للمهاجرين والأقليات في بلد تأسس عليهم، وتشكلت منهم هويته.
بما يخص المكسيك، أعلن ترمب اعتزامه بناء «جدار فصل» على طول الحدود الجنوبية لأميركا، والإصرار على أن تتحمل المكسيك تكلفته، كما تعهد بطرد المهاجرين المقيمين بصورة غير شرعية في الولايات المتحدة، وخفض المساعدات الاجتماعية للوافدين، وتشديد إجراءات الدخول وشروط طلب اللجوء إلى الأراضي الأميركية.

«الجدار» مع المكسيك
وبعد وصول ترمب إلى البيت الأبيض، وتأكيده على أن الوعود الانتخابية ما كانت مجرد شعارات جذابة لاستقطاب التأييد الشعبي، بل هي عناوين رئيسة للسياسة التي يعتزم تطبيقها، كانت المكسيك تعد لانتخاب أول رئيس يساري في تاريخها الحديث، وهو الرئيس مانويل لوبيز أوبرادور. وبينما كانت المكسيك تتهيأ للاتجاه يساراً، كانت واشنطن تتوقع أن رياحاً جديدة ستهب عليها من حدودها الجنوبية التي تمتد على أكثر من 3 آلاف كيلومتر، وتتجهز للتحرك في الوقت المناسب من أجل ضبط الإيقاع مع «جارتها» التي قال رئيسها في أحد مهرجاناته الانتخابية عن العلاقة مع الولايات المتحدة: «سنعلمهم من الآن كيف يتعاملون معنا باحترام وندية».
الفريق الاستراتيجي الذي كان يحيط بـ«المرشح» ترمب كان يدرك أن موضوع الهجرة، وبالذات موضوع المهاجرين من أميركا اللاتينية، غدا قنبلة موقوتة بالنسبة للحريصين على «النقاء العرقي» للولايات المتحدة... الذين يشكلون القاعدة الانتخابية التي أوصلت ترمب إلى البيت الأبيض. وكان هذا الفريق يعرف أيضاً، من الاستطلاعات والدراسات الاجتماعية، أن نسبة عالية من المهاجرين الذين يقيمون بصورة شرعية في الولايات المتحدة، ومن المتحدرين حديثاً من أصول أجنبية، يؤيدون سياسة أكثر تشدداً في إجراءات اللجوء والهجرة. ومن هنا كان الإصرار على جعل موضوع «الجدار» أحد العناوين الرئيسية لحملة ترمب، ثم محوراً أساسياً في حربه الداخلية مع خصومه الديمقراطيين، قبل أن «يكتشف» سلاح القصف الضريبي الذي صار أداته المفضلة لتحقيق أهدافه في السياسة الخارجية.

الحاجة المكسيكية بالأرقام
يوم 5 يونيو (حزيران) الفائت، وبعدما تيقن الرئيس الأميركي من استحالة تنفيذ وعده ببناء «الجدار» على الحدود مع المكسيك بسبب المعارضة الشديدة للديمقراطيين الذين صاروا يسيطرون على مجلس النواب، أعلن أنه سيبدأ بفرض رسوم جمركية تصاعدية على الواردات المكسيكية، ما لم تبادر المكسيك إلى اتخاذ التدابير اللازمة لوقف تدفق المهاجرين الآتين من دول أميركا الوسطى عبر أراضيها إلى الولايات المتحدة.
لم يترك إعلان ترمب المفاجئ أي مجال للمناورة أو الرد بالمثل أمام المكسيك التي تعرف جيداً أن أرقام العلاقة مع «جارتها» الكبيرة تجعل من الولايات المتحدة قدراً محتوماً لا بد من التعايش مع مقتضياته، والتكيف مع مزاجيته وشروطه. فالمكسيك هي الدولة المصدرة التاسعة في العالم، بقيمة إجمالية قدرها 418 مليار دولار أميركي سنوياً، منها 307 مليارات إلى الولايات المتحدة. وهذا يعني أن ثلاثة أرباع الدم الذي يجري في عروق الاقتصاد المكسيكي مصدره السوق الأميركية التي تأتي منها أيضاً تحويلات مالية صافية لعائلات المهاجرين تعادل 11 في المائة من إجمالي الناتج القومي المكسيكي، ناهيك عن أن مفاتيح الاستثمارات الأجنبية التي تحتاج إليها المكسيك موجود معظمها في واشنطن.
وهكذا، انحنت الحكومة المكسيكية أمام «العاصفة»، وسارعت إلى إرسال وفد للتفاوض مع الإدارة الأميركية، قبِل بمعظم شروطها لوقف تنفيذ إجراءات فرض الرسوم الجمركية التصاعدية على الصادرات المكسيكية. وكان الشرط الأميركي الوحيد الذي أصرت المكسيك على رفضه اعتبارها «دولة ثالثة آمنة» يفترض بها، بموجب الاتفاقية العالمية للهجرة، أن تستقبل المهاجرين الذين تُرفض طلبات لجوئهم إلى الولايات المتحدة. لكن الشروط الأخرى التي فرضتها واشنطن، مثل عدم البت بطلبات اللجوء إلا في الحالات التي تكون هذه الطلبات قد رُفضت في دولة أخرى، يجعل من المكسيك عملياً «دولة آمنة» يفترض بها أن توفر للمهاجرين العابرين، أو المرحلين من وراء الحدود، فرص العمل والتعليم والعناية الصحية... ريثما تبت الأجهزة الأميركية بطلباتهم. كذلك يتوجب على المكسيك أن تتدبر أمر الذين ترفض السلطات الأميركية دخولهم إلى أراضيها.

مخاوف مكسيكية حقيقية
في الواقع، تحذر أوساط سياسية في المكسيك من أن القبول بكل الشروط التي فرضتها واشنطن، والتي يمكن أن تضاف إليها شروط أخرى في حال العودة إلى طاولة المفاوضات إذا فشلت التدابير الأولى في الحد من تدفق المهاجرين بعد 90 يوماً كما يلحظ الاتفاق، من شأنه أن يحقق الحلم الذي يراود الحكومات الأميركية منذ عقود بتحويل المكسيك، رغماً عنها، إلى «بلد مستضيف للمهاجرين» من البلدان المجاورة. وللعلم، تتوقع المنظمات الدولية أن ترتفع أعدادهم بشكل كبير خلال السنوات المقبلة.
وكانت الحكومة المكسيكية قد أعلنت في مايو (أيار) الماضي عن خطة للتنمية المتكاملة في أميركا الوسطى، بالتعاون مع اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة في أميركا اللاتينية، بهدف التشجيع على الاستثمار في مشاريع لمكافحة البطالة، ومعالجة أسباب الهجرة في بلدان المصدر، مثل غواتيمالا وهندوراس والسلفادور. ولقد تعهدت الولايات المتحدة بالمساهمة في تمويل هذه الخطة التي تبلغ تكاليفها 11 مليار دولار على مدى 5 سنوات، وتشارك المكسيك في تمويل ثلثها لتنفيذ مشاريع في المناطق الحدودية مع هذه البلدان. وتشمل هذه الخطة إنشاء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية، وتوسيع شبكات توزيع الطاقة في المنطقة، وبناء شبكة جديدة للطرقات السريعة، ومد خطوط أنابيب لنقل الغاز من خليج المكسيك إلى المنطقة الصناعية في هندوراس، وكلها مشاريع ينتظر أن توفّر عشرات آلاف فرص العمل خلال فترة تنفيذها، ونحو 7 آلاف فرصة عمل دائمة في المرحلة التالية.
وراهناً، تحاول الحكومة المكسيكية إقناع واشنطن بضرورة الإسراع في تنفيذ هذه الخطة التي قال عنها الرئيس المكسيكي لوبيز أوبرادور إنها «السبيل الحضاري الوحيد لمعالجة هذه الأزمة من جذورها، قبل أن تتفاقم وتنفجر في وجوهنا جميعاً».
وكانت المكسيك قد سارعت حقاً، بعد تهديدات واشنطن، بنشر آلاف الجنود من «الحرس الوطني» على حدودها الشرقية مع غواتيمالا، لمنع تدفق المهاجرين الذين كانوا يعبرون أراضيها في قوافل بشرية طويلة باتجاه الولايات المتحدة. كما تعرضت المكسيك لانتقادات شديدة من منظمات دولية تدافع عن المهاجرين وعن حقوق الإنسان بسبب «العسكرة المُفرطة» لحدودها، وتجريم العابرين لأراضيها، عوضاً عن اتخاذ إجراءات لمعالجة أسباب الهجرة في «مثلث الشمال» الذي يسوده العنف والبؤس والفقر. وتحذر المنظمات الدولية من تحول هذا «المثلث» إلى بركان اجتماعي قد ينفجر في أي لحظة، بينما تجهد المنطقة بصعوبة فائقة لمواجهة أزمة النزوح الكثيفة من فنزويلا.

وتيرة هجرة... وتهم
وما يستحق الإشارة أن وكالة الجمارك وحماية الحدود في الولايات المتحدة كانت قد أفادت بأنها أوقفت 133 ألف مهاجر دخلوا الأراضي الأميركية عبر الحدود المكسيكية في شهر مايو (أيار) الماضي وحده، أي بزيادة 32 في المائة عن الشهر السابق. وأفادت السلطات المكسيكية من ناحيتها بأنها أوقفت 45 ألف مهاجر وأعادتهم إلى بلدانهم.
وبالمناسبة، كانت الإدارة الأميركية قد احتجت بقوة على ما سمته سياسة «الأبواب المفتوحة» التي أعلنها الرئيس المكسيكي اليساري بعد تسلمه مهامه مطلع هذا العام، والتي كانت - في رأي واشنطن - من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تزايد تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى الولايات المتحدة. ولقد رصدت الأجهزة الأميركية خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، إضافة إلى المهاجرين من أميركا الوسطى، أعداداً كبيرة من المهاجرين وصلوا من الكاميرون والكونغو والهند وبنغلاديش وكوبا وهاييتي. وأيضاً لاحظت هذه الأجهزة أن عدد الأطفال بين المهاجرين قد ازداد بنسبة 81 في المائة، وازداد عدد النساء بنسبة 88 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الفائت.
ولكن يوم الأحد الماضي، تنفست الحكومة المكسيكية الصعداء بعد التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في نهاية المباحثات التي أجراها مع نظيره المكسيكي مارسيلو إيبرارد في مكسيكو، حيث قال بومبيو: «بعد 45 يوماً على توقيع الاتفاق بين الحكومتين الأميركية والمكسيكية للحد من التدفق الكثيف للمهاجرين غير الشرعيين عبر الحدود المشتركة باتجاه الولايات المتحدة، سجلت أجهزة المراقبة تراجعاً في عدد المهاجرين بنسبة 29 في المائة، مما يدل على أن السلطات المكسيكية قد قامت بخطوات مهمة لتنفيذ الاتفاق».

تحدي الاستقرار الداخلي
ومن جهته، أكد الوزير المكسيكي أن بلاده ترفض مبدأ اعتبارها «دولة ثالثة آمنة»، بالمفهوم المتداول في عالم الهجرة، وأردف أنها ستواصل تطبيق سياسة اللجوء التقليدية، بغض النظر عن القواعد الجديدة التي ينص عليها الاتفاق الموقع مع الولايات المتحدة. لكن من الواضح أن المكسيك تواجه صعوبة كبيرة في تطبيق هذه السياسة، بعدما تضاعف عدد الذين يطلبون اللجوء إلى أراضيها ثلاث مرات في أقل من شهرين، وفي ظل الإجراءات التقشفية الصارمة التي فرضها الرئيس لوبيز أوبرادور لخفض العجز الكبير الذي تعاني منه الخزينة المكسيكية. ويخشى مراقبون حالياً أن تتحول أزمة المهاجرين من أميركا الوسطى نحو الولايات المتحدة إلى أزمة اجتماعية أخرى متفجرة في المكسيك، خصوصاً أن المهاجرين الذين يدخلون عبر الحدود مع غواتيمالا ينتظرون فترات طويلة في الولايات المتاخمة (أقصى جنوب شرقي البلاد)، وهي أفقر الولايات في المكسيك وأكثرها عنفاً، مثل ولاية تشياباس، قبل أن تبت السلطات في طلباتهم.
ومن جهة أخرى، تبدو حكومات غواتيمالا وهندوراس والسلفادور عاجزة عن إدارة هذه الأزمة بسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة فيها، وانتشار العنف الذي يدفع بعائلات كاملة إلى الهجرة، سعياً وراء الأمان وسراب الحياة الأفضل. أما في الولايات المتحدة، فبات من المؤكد أن الهجرة ستكون أحد المحاور الرئيسية، بل الرحى التي ستدور حولها حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة، بينما يواصل الرئيس دونالد ترمب رشّ الملح على الجرح العرقي الذي يكتشف الأميركيون من فترة لأخرى أنه لم يندمل بعد.

فسيفساء المجتمع الأميركي... وتعداد المهاجرين
> مجتمع الولايات المتحدة من أكثر المجتمعات تمازجاً على الصعيد العرقي في العالم، والهجرة التي تُعتبر من سماته الأساسية كانت مثار جدل في مراحل عدة من تاريخه.
في عام 1870، كانت نسبة المهاجرين 9 في المائة في المجتمع الأميركي، وبلغت 15 في المائة في عام 1910. وعندما قررت الحكومة وضع حدود قصوى لعدد المهاجرين من بلدان معينة، تراجع العدد إلى 4 في المائة في عام 1970. لكن في أواسط ثمانينات القرن الماضي، أصدرت الحكومة الأميركية عفواً عاماً عن كل المقيمين بصورة غير شرعية، وأصدرت قانوناً يسمح بلم شمل العائلات، فعاد العدد للارتفاع إلى 14 في المائة في عام 2017.
جدير بالذكر أنه في عام 1950، كانت نسبة المتحدرين من أصول أميركية لاتينية 1 في المائة من مجموع سكان الولايات المتحدة، لكنه ارتفع إلى 10 في المائة في عام 1995، ليصل إلى 14.6 في المائة العام الماضي. ومن المتوقّع أن تبلغ هذه النسبة 24.5 في المائة في عام 2050، في حين تقدر بعض الجهات أنها قد تصل إلى 30 في المائة.
في المقابل، في عام 1910، كان الأوروبيون يشكلون 90 في المائة من المهاجرين الذين يصلون إلى الولايات المتحدة. أما اليوم، فإن نسبتهم لا تتجاوز 10 في المائة. وبتفصيل أكثر، ففي القرن الماضي كانت الغالبية الساحقة من المهاجرين تأتي من أوروبا، موزعة على الشكل التالي: 19 في المائة من ألمانيا، 12.5 من النمسا والمجر، و12 في المائة من روسيا، و10 في المائة من آيرلندا، و10 في المائة من إيطاليا، و9 في المائة من كندا، و9 في المائة من بريطانيا، و9.3 من البلدان الاسكندنافية. أما اليوم، فإن غالبية المهاجرين تأتي من دول أميركا اللاتينية وآسيا.
ونشير إلى أنه في عام 1910، كانت نسبة المكسيكيين بين الأجانب المقيمين بصورة شرعية في الولايات المتحدة لا تتجاوز 2 في المائة، أما اليوم فقد بلغت نسبتهم 27 في المائة.
وعلى صعيد التوزع داخل البلاد، فإن معظم الولايات الكبرى يزيد عدد الأميركيين اللاتينيين بين سكانها على 20 في المائة، وقد أصبحوا يشكلون ما لا يقل عن 5 في المائة في ولايات الجنوب الشرقي التي نادراً ما كانت تصل إليها موجات المهاجرين في الماضي.
كذلك تفيد الإحصاءات الأميركية الرسمية بأن عدد المهاجرين الذين يصلون اليوم إلى الولايات المتحدة هو نصف عدد الذين كانوا يصلون مطالع القرن الماضي، لكن عدد المقيمين الذين ولدوا في الخارج ما زال كما هو، وذلك لأسباب عدة، من بينها تدني نسبة الإنجاب عند المولودين في الولايات المتحدة. ثم إن أكثر من 700 ألف أجنبي يحصلون كل عام على الجنسية الأميركية، بينما يقدر عدد الذين يقيمون بصورة غير شرعية في الولايات المتحدة حالياً بـ11 مليون نسمة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.