تركيا وقطر وعودة «الدواعش»

دعم المتطرفين في ليبيا وسط صمت المجتمع الدولي

عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
TT

تركيا وقطر وعودة «الدواعش»

عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)

هل باتت لعبة الإرهاب في ليبيا تجرى على المكشوف، لا سيما من قبل تركيا وقطر؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو بالفعل، فلماذا يقف المجتمع الدولي صامتاً تجاه ما يجرى هناك، من غير محاولة جدية لتغيير الأوضاع، وتصويب ما اختل منها، وإنهاء الأزمة الليبية مرة واحدة؟

الثابت أن كثيراً من الأوراق قد اختلطت في الفترة الأخيرة، لا سيما تلك التي يحاول فيها الجيش الليبي تطهير البلاد من الإرهاب والإرهابيين، وقد لاحظ كثيرون أن عملية شحن المزيد من المقاتلين من تنظيم «داعش»، الفارين من سوريا والعراق إلى المناطق الليبية الخاضعة لسيطرة الميليشيات، ماضية على قدم وساق، وباتت أجهزة الاستخبارات الدولية على بينة مما يحدث هناك، بالصوت والصورة، وبالوثائق والمعلومات.
ولم يعد سراً أن تركيا وقطر تقفان خلف ما يجرى في الداخل الليبي، فإردوغان الذي فشل مشروعه الإسلاموي في زمن «الربيع العربي المغشوش» ينظر إلى ليبيا الآن على أنها الأمل المتبقي له في إحياء أوهامه، وعنده أن نجاح المتطرفين الليبيين سوف يؤثر كل التأثير على تونس الجارة القريبة من الغرب، وربما يمكنه ذلك من مشاغبة مصر، الجار الشرقي الذي أفسد عليه خططه في الأعوام الماضية، بعد ثورة المصريين في 30 يوليو (تموز) 2013.
يوماً تلو الآخر، يتضح جلياً كيف أن أنقرة تقف وراء إمداد الميليشيات الليبية بالأسلحة والعتاد، لا سيما الثقيلة منها، في انتهاك واضح لقرار حظر التسليح المفروض على البلاد منذ عام 2011. وقد رصدت الأجهزة الاستخباراتية الأسبوعين الماضيين وصول أكثر من طائرة شحن أوكرانية تحديداً إلى العاصمة طرابلس، آتية من مطار أنقرة، محملة بالأسلحة الجديدة للميليشيات الموالية لحكومة السراج.
الطائرة من نوع «إليوشن آي إل - 76 تي دي» حطت في مطار معيتيقة الذي يخضع لسيطرة «قوة الردع الخاصة»، ذات المرجعية المتطرفة، التابعة لوزارة داخلية حكومة الوفاق. وقبل تلك الرحلة بأيام قليلة، كان الغرب الليبي يشهد وصول عدد من الطائرات المحملة بالأسلحة والذخائر، آتية كذلك من تركيا، بهدف تمكين قوات السراج من مواجهة الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير حفتر.
لم يعد الأمر قاصراً على القوات البرية، فالسراج الذي خسر غالبية قطع السلاح الجوي (طائرتان من نوع «ميغ»، وطائرات من نوع «ميغ 23»، وطائرتان من نوع «ميراج إف - 1»، وطائرة من طراز «L 39») يعمل الآن جاهداً على استجلاب طائرات «درون» مسيرة من غير طيار من تركيا، في محاولة لإلحاق الضرر الكبير بقوات الجيش الوطني الليبي.
وفي هذا السياق، تفيد تقارير نشرتها بعض المواقع الاستخباراتية، مثل موقع «الاستخبارات الأفريقية»، إلى أن هناك صفقة تركية لتسليم حكومة الوفاق الليبية طائرات «درونز»، لتعويضها عن الطائرات التي خسرتها خلال معركة طرابلس، ويصل عددها إلى 8 طائرات من نوعية «تي - بي - 2» التي يمكنها مهاجمة وحدات الجيش الليبي، وإحداث خسائر بها، من غير أن يلحق بالميليشيات الليبية أضرار بشرية، مما يعنى أن تركيا تضرب بقرارات مجلس الأمن عرض الحائط، مرة وإلى الأبد، ولم يردع إردوغان أن الميليشيات الإرهابية العاملة في ليبيا قد استخدمت في الآونة الأخيرة هذه الأداة الجهنمية في قصف 4 سيارات مدنية، مما أسفر عن مقتل عدد من المدنيين، بينهم أطفال ونساء، في مدينة ترهونة جنوب العاصمة طرابلس، عقاباً لهم على تأييدهم الجيش الليبي.
هل يتوقف الدور التركي المخرب عند حدود الأسلحة والمعدات أم يمضى إلى جهة لعب العنصر البشري دوراً بعينه في تلك الأحداث؟
مع بداية يوليو الجاري، كشف مصدر عسكري ليبي عن أن القوات المسلحة الليبية قد حصلت على وثائق سفر خاصة بجنود في جهاز الاستخبارات التركية يساندون الميليشيات والتنظيمات الإرهابية بطرابلس.
المصدر عينه أشار إلى أن الجيش الليبي رصد أسماء الـ19 ضابطاً تركياً الذين دفع بهم إردوغان لإدارة غرفة عمليات ميليشيات طرابلس، وإدارة الطائرات المسيرة.
من جهة أخرى، كشفت حادثة الصواريخ من نوع «جافلين»، التي تم العثور عليها في بعض مخازن السلاح في مدينة الغريان، عن أبعاد العلاقة الثلاثية التي تجمع «مايكل سولمان»، الشريك في شركة «ميركوري»، والسراج وقطر. فالشركة المشار إليها تقدم خدماتها للحكومة القطرية، و«سولمان» نفسه يعمل كبير مستشاري السيناتور الأميركي «روبرت مينندز»، المعروف بعلاقاته بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي.
وكان من الواضح أن ميليشيات ليبية، تدعمها قطر، هي من قامت بدس الصواريخ الفرنسية الثلاثة على مخازن سلاح الجيش الليبي، حتى يبدو أنه من يخرق قرارات الحظر على التسليح، غير أن ما فضح أمر المؤامرة الأخيرة هو أنها ليست الأولى التي تجرى على هذا النحو، فقد ساعدت قطر الميليشيات الليبية التابعة لها في شراء أسلحة متقدمة من بلغاريا، وإدخالها مهربة إلى البلاد، وكان من اليسير تتبع أرقامها المتسلسلة، ومعرقة من البائع ومن المشتري، الأمر الذي يشبه كثيراً قضية مركز اللاجئين، الذي كشفت فيه صور الأقمار الاصطناعية الفاعل الحقيقي، ومن الذي يُفعل الإرهاب على الأراضي الليبية، وفي كل مرة يحاول إلصاق التهمة بالجيش الوطني للبلاد. لم تكن قصة الصواريخ إلا محاولة للتغطية على المجزرة التي قامت بها ميليشيات طرابلس بحق جرحى جنود الجيش الوطني في مدينة غريان، حيث تم قتل 40 جريحاً من عناصر الجيش الليبي.
والسؤال المطروح الآن: هل تلعب تركيا وقطر دور الجسر الداعم لعودة «الدواعش» مرة جديدة إلى ليبيا؟
ليس سراً أن رجال قطر من المتطرفين والمرتبطين بـ«الجماعة المقاتلة» وغيرهم ينشطون هذه الأيام في نقل العناصر الإرهابية من العراق وسوريا إلى ليبيا، وأنه في حين يستغلون شركات النقل الخاصة بهم، التي هي في واقع الأمر ليست سوى أدوات قطرية وتمويل قطري، يفتح إردوغان مطاراته وموانيه، ويجعل بلاده بمثابة «ترانزيت» لنقل العناصر الإرهابية من مناطق فشل وإخفاق «داعش» إلى ميدان المعركة الجديد، التي يراد لها أن تتمدد إلى قلب أفريقيا، وهذه قصة أخرى.
قبل أيام، كان عضو مجلس النواب الليبي على السعيدي في مدينة طبرق، شرق البلاد، يؤكد على أن نقل عناصر إرهابية من تركيا إلى ليبيا ليس بالجديد، مشيراً إلى أن هؤلاء الإرهابيين يأتون لمحاربة ومواجهة قوات الجيش الليبي في عملياته العسكرية بطرابلس العاصمة.
هل لهذا السبب بدأ «الدواعش» في رفع إعلامهم مرة أخرى في ليبيا الأيام الماضية؟
مؤكد أن الأمر بالفعل على هذا النحو، ففي الأسبوع الأول من الشهر الجاري، نشرت الوكالة التابعة لتنظيم داعش الإرهابي «أعماق»، على تطبيق «تلغرام»، تسجيلاً مرئياً وسط منطقة صحراوية، زعمت أنها جنوب ليبيا، ظهر فيه عشرات المقاتلين يبايعون زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي.
التسجيل الذي حمل عنوان «والعاقبة للمتقين» تم تصويره غالباً في منطقة «سبها»، جنوب ليبيا، ومدته نحو 5 دقائق، تحدث فيها «محمود البرعصي» المكنى بـ«أبو مصعب الليبي»، مؤسس تنظيم «داعش» في بنغازي، يتوعد القوات التابعة للقيادة العامة بالانتقام ومزيد من القتال.
وفى مايو (أيار) الماضي، تبنى التنظيم نفسه الهجوم على مقر الكتيبة 160، التابعة للقيادة العامة للجيش، في مدينة «سبها»، مما أسفر عن مقتل 9 أفراد خلال الهجوم... هل يفهم القارئ الآن الأسباب التي أدت إلى تصريحات الرئيسي الروسي فلاديمير بوتين التي حذر فيها من انتقال عناصر تابعة لتنظيم «داعش» من الأراضي السورية إلى ليبيا؟
وبالعودة إلى السؤال المتقدم الخاص بالأسباب التي تدفع إردوغان للعب هذا الدور في ليبيا، نجد أن هناك كثيراً من الخيوط المتشابكة والخطوط المتداخلة، ذلك أنه وإن كان إردوغان يسعى لإعادة التاريخ إلى الوراء، وهذا ما فشل وسيفشل فيه على الدوام، فإن هناك محاولات أخرى للسيطرة على ليبيا من أجل تعويض خسائره في الداخل التركي في الفترة الأخيرة، لا سيما أن الأوضاع الاقتصادية تتدهور في بلاده، وينتظر لها أيضاً أن تصل إلى أوضاع صعبة، حال فرض الأميركيون عقوبات على أنقرة بعد إتمام صفقة الصواريخ «S-400» مع روسيا.
وتكشف لنا عدة تقارير دولية أبعاد التدخل التركي في ليبيا، منها ما كشفت عنه الإذاعة الألمانية «دويتشه فيلا»، من أن دافع تركيا للتدخل في ليبيا هو أطماعها في احتياطات البلاد الغنية من النفط والغاز، وموقعها الذي يتقاطع مع طرق التجارة الرئيسية في البحر المتوسط. وبالإضافة إلى النفط والغاز، فإن تركيا تطمح لبسط سيطرة شركاتها على العقود الاقتصادية في ليبيا.
ويحاول إردوغان تعويض خسائره في ليبيا. ففي عهد القذافي، كانت هناك شركات تركية كثيرة تنشط في مجال الإنشاءات على وجه التحديد، وتجاوزت أرباحها مليارات الدولارات. وقد تراجع هذا الدور كثيراً بعد الإطاحة بالقذافي. والمعروف أن علاقات أنقرة الوثيقة بحكومة السراج مكنتها من وضع أقدام شركاتها مجدداً في البلاد، والحصول على عقود كثيرة في طرابلس وغيرها، خصوصاً عقود إنشاء الطريق الساحلي في طرابلس، إلا أن هذه المصالح علقت بحملة الجيش ضد طرابلس، وبذلك أصبح الجيش يشكل تهديداً كبيراً لأطماع تركيا الاقتصادية والمالية، مما دفع الأخيرة للوقوف بشكل كبير في صف السراج.
أما وكالة «بلومبرغ» الدولية، ذات الطابع الاقتصادي العالمي، فقد كشفت في تقرير لها أن إردوغان يسعى من خلال تدخله في ليبيا إلى الاستفادة من عدد من الامتيازات، بداية من النفط، مروراً بالغاز، وصولاً إلى صفقات إعادة الإعمار. وتقول الوكالة إن إردوغان يسعى إلى عقود وامتيازات تصل قيمتها إلى 18 مليار دولار.
هل من خلاصة للمشهد المتقدم؟
من الواضح أن القضية الليبية باتت مركبة، وليست بسيطة، لا سيما مع تهديدات عودة «داعش» من جديد، فالمسألة أصبحت قضية أمن عالمي، وعلى الجانب الأوروبي هذه المرة أن يعوض أخطاءه السابقة التي قادت إلى الوضع الآني في ليبيا، كما ينبغي على المجتمع الدولي، خصوصاً موسكو التي لها مصالح كبرى في ليبيا وعموم أفريقيا، اتخاذ مواقف حاسمة وحازمة من أفعال إردوغان وتميم في ليبيا.
وماذا عن الجانب الأميركي؟
لا يزال الدور الأميركي بالنسبة لليبيا مثيراً للتساؤلات، غير أن توجهات ترمب بلا شك المضادة للإرهاب توضح لنا اتجاهات الرياح ناحية طرابلس خاصة، وإن كانت واشنطن منشغلة بالملف الإيراني.
وفى كل الأحوال، لا تبدو في الأفق نهاية قريبة أو سريعة للأزمة الليبية، وهذا هو أفضل مناخ للأصوليين والإرهابيين يمكن لهم أن ينموا فيه، فهل ينتظر العالم فصلاً دموياً «داعشياً» جديداً على ضفاف المتوسط؟


مقالات ذات صلة

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)
أوروبا القاتل النرويجي أندرس بيرينغ بريفيك (إ.ب.أ)

«سفاح النرويج» يطلب الإفراج المشروط للمرة الثانية

مَثُل القاتل النرويجي، أندرس بيرينغ بريفيك، الذي قتل 77 شخصاً في حادث تفجير وإطلاق نار عشوائي عام 2011، أمام المحكمة، الثلاثاء، لحضور جلسة استماع بشأن إطلاق

«الشرق الأوسط» (أوسلو)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.