منطقة أولدوفاي في تنزانيا... قبلة مستكشفي أصول البشرية ومستقبلها

يستخدمون التصوير الزلزالي لفهم البنية الكاملة للمنطقة

منطقة أولدوفاي في تنزانيا... قبلة مستكشفي أصول البشرية ومستقبلها
TT

منطقة أولدوفاي في تنزانيا... قبلة مستكشفي أصول البشرية ومستقبلها

منطقة أولدوفاي في تنزانيا... قبلة مستكشفي أصول البشرية ومستقبلها

في المراعي العشبية الهادئة في شمال تنزانيا وتحديداً في منطقة أولدوفاي Olduvai - اسم مشتق من كلمة «أولدوباي» Oldupai بلغة الماساي، وهو اسم نبات عُصاري محلي - تحدث ثورة بحثية يقودها علماء من مختلف أنحاء العالم بقيادة جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية «كاوست» بعد النتائج التي توصل إليها عالما الآثار وعلم الإنسان القديم، لويس وماري ليكي، اللذان اكتشفت أبحاثهما - التي بدأت في خمسينيات القرن العشرين - الكثير من حفريات أشباه البشر (hominins) (وهي قبيلة القردة العليا، التي ينتمي إليها البشر المعاصرون) وأدوات حجرية يعود تاريخها إلى أكثر من مليوني سنة، وأكسبت المنطقة لقب «مهد البشرية».
منطقة أولدوفاي أصبحت قبلة لمستكشفي أصول البشرية ومستقبلها، ويجري فريق من الجيوفيزيائيين من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) مسوحاً مهمة لجيولوجيا هذا الموقع. وباستخدام أحدث التقنيات التي جرى تطويرها لاستكشاف النفط، يقوم جيرارد شوستر، وشريف حنفي، وطالب الدكتوراه كاي لو، بالتعاون مع علماء من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأميركية، وجامعة ليفربول بالمملكة المتحدة، برسم خريطة لشكل صخور حوض أولدوفاي وبنيتها.
ليس هذا بالأمر الهين؛ لأن سعة الحوض تبلغ ستة كيلومترات ويبلغ عمقه نحو نصف كيلومتر. ويتألف الموقع من خليط معقد من الصخور الرسوبية والبركانية، يتخللها الكثير من الصدوع الجيولوجية. ويوضح شوستر أن الحوض، الذي يقع في قلب منطقة الصدع الأفريقي الشرقي - حيث تتباعد الصفائح التكتونية التي تشكل قشرة الأرض - «تَطوَّر وتَعمَّق على مر الزمن مع توسُّع البحيرة القديمة التي تعلوه وتَقلُّصها وتَحرُّكها أفقيّاً، وهو ما يرجع جزئيّاً إلى حدوث سلسلة من الانفجارات البركانية في المنطقة المجاورة».
ويجري استخدام اثنتين من الطرق التجريبية التكميلية، وهما: حفر الآبار لاستخراج لُب الرواسب التي تراكمت على مدار ملايين السنين، ودراسات فريق التصوير الزلزالي في كاوست. وتعيد الطريقتان معاً كتابة التاريخ الجيولوجي لمنطقة أولدوفاي، خاصة أنهم يرون أن علماء الإنسان القديم لم يعودوا وحدهم أصحاب الحق في المنطقة؛ فالصورة الكاملة للتطور البشري لا يمكن استقاؤها من الحفريات وحدها، وإنما تعتمد على فهم سياقها البيئي.
وتستند التجارب الزلزالية إلى فرضية بسيطة للغاية تتمثل في إسقاط وزن ثقيل مراراً وتكراراً على الأرض، مولداً اهتزازات تنتقل عبر الأرض إلى أن تنعكس أو تنكسر (تنحني) في أثناء انتقالها من مادة إلى أخرى (بالطريقة نفسها التي ينعكس بها الضوء على المرآة أو ينكسر عند دخوله الماء). وتوضع سلسلة من أجهزة الاستقبال، تُعرف باسم «جيوفونز» (geophones) تحت الأرض مباشرة لمراقبة هذه الموجات المنعكسة والمنكسرة. ويمكن للفريق - عن طريق تسجيل الوقت الذي استغرقته الموجات للوصول إلى كل جيوفون - أن يحسب السرعة التي انتقلت بها. وبطريقة مشابهة لمسوح الموجات فوق الصوتية، تُستخدم هذه القياسات في رسم صورة لجيولوجيا باطن الأرض، تتضمن شكل الحوض وحجمه وموقع الصدوع المدفونة، ورغم أن الطريقة معقدة وتنطوي على صعوبات لوجيستية، فإنها مثيرة لاهتمام الأفراد المحليين، الذين يعمل الكثير منهم في المشروع.
وقال الباحث حنفي إنهم معتادون على العمل مع علماء الإنسان القديم، وعلماء الجيولوجيا، ولكن كانت هذه هي المرة الأولى التي يعملون فيها مع علماء الجيوفيزياء. وقد ألهم المشروع بعض الشباب لتطوير اهتمام بالعلم قد يؤدي لتغيير حياتهم، حتى إن أحدهم سافر إلى كاوست من أجل الدراسة.
وتشير نتائج هذا البحث إلى أن حوض أولدوفاي - الذي كان يُعَدُّ ضحلاً في الماضي - يبلغ عمقه أكثر من 400 متر، أي ضِعف العمق الذي تمكنت الآبار من اختراقه تقريباً. ويدل هذا على أن الطبقة الصخرية المبطنة للحوض قد يبلغ عمرها نحو أربعة ملايين سنة، وأن البيئات المناسبة لحياة أشباه البشر قد تكون بالعمر نفسه. يقول حنفي: «هذا عمر أكبر بكثير مما سبق تقديره من خلال البروز الصخرية المكشوفة على السطح». الأرجح أن الطبقات السفلى للحوض استمدت من البراكين المجاورة، التي ربما تكون قد أثرت على البيئة، بما في ذلك توافر المياه، في الماضي البعيد. وهذا بدوره ربما أثر على أسلاف الإنسان الأوائل، الذين كانوا بحاجة إلى «مياه، ومناخ ملائم، وأشجار للحماية، وسهول مفتوحة للبحث عن الطعام، وكل ذلك كان متوافراً في أولدوفاي».
وفي فيلم وثائقي شهير عن هذا العمل حمل اسم «علامات دائمة» Lasting Marks، يبين إيان ستانستريت بجامعة ليفربول أن التصوير الزلزالي يساعدنا على فهم البنية الكاملة لمنطقة أولدوفاي: البنية الجيولوجية، والمناخية، وغيرهما. لقد شكَّل المناخ المتغير تحدياً للبشرية على مدار تاريخها، وإذا استطعنا أن نقدر هذا التاريخ بشكل أفضل، فربما يدفعنا ذلك إلى تغيير مسارنا. وكما توضح مُخرجة الفيلم الوثائقي «علامات دائمة»، سارة شوستر - جونسون، ببلاغة، فإن «باحثي أولدوفاي المتفانين والمتحمسين يفسرون بحرص علامات من تاريخ يعد بمثابة لغز غامض، تاريخ مهَّد الطريق لوجودنا ولمستقبلنا على هذا الكوكب».


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

​الذكاء الاصطناعي في علاج جذور الأسنان

​الذكاء الاصطناعي في علاج جذور الأسنان
TT

​الذكاء الاصطناعي في علاج جذور الأسنان

​الذكاء الاصطناعي في علاج جذور الأسنان

حقق الذكاء الاصطناعي تقدماً كبيراً في اكتشاف وتوقع جوانب مختلفة في علاج جذور الأسنان المسماة من قِبل عامة الجمهور بـ«حشوات العصب» Endodontics.

الذكاء الاصطناعي يرصد جذر الأسنان

في مجال الاكتشاف، تم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد الآفات والخراجات حول قمة جذور الأسنان، وكسر التاج والجذر، وتحديد طول الجذر، وكشف تشريح الجذور والقنوات. تشمل مهام التنبؤ تقدير الحاجة إلى إعادة العلاج. تُعد الخراجات حول قمة جذور الأسنان، شائعة وتُشكّل تحديات في التشخيص وتخطيط العلاج للأطباء. ويمكن أن يُحسّن التعرف المبكر على هذه الآفات من نتائج العلاج من خلال منع انتشار المرض إلى الأنسجة المحيطة.

إن علاج جذور الأسنان أو حشوات العصب، المعروف أيضاً باسم «علاج العصب»، فرع من فروع طب الأسنان يركز على تشخيص، ومعالجة أمراض لب الأسنان (العصب) والجذور.

يتضمن هذا العلاج إزالة اللب التالف أو المصاب داخل السن (لب السن المحتوي على العصب والشريان والوريد والأوعية اللمفاوية وكثير من الخلايا لكن الكل يسمي اللب بالعصب!)، وتنظيف وتعقيم القنوات الجذرية، ثم حشوها بمواد طبية خاصة لمنع العدوى المستقبلية، وحماية الأسنان من مزيد من التلف.

أهمية علاج جذور الأسنان

- تخفيف الألم: يساعد علاج الجذور في تخفيف الألم الشديد الناتج عن التهابات العصب، إذ قالت العرب: «لا ألم إلا ألم الضرس».

- إنقاذ الأسنان: يمكن أن يمنع العلاج الفقدان الكامل للسن المتضررة، مما يحافظ على الأسنان الطبيعية بدلاً من اللجوء إلى التعويضات الصناعية.

- منع العدوى: العلاج الفوري والعناية الجيدة تمنعان انتشار العدوى إلى الأنسجة المحيطة والعظام، وقد تم تسجيل بعض حالات الوفاة من انتقال الصديد من خراجات الأسنان إلى الدورة الدموية.

وحسب المكتب العربي في منظمة الصحة العالمية فإن هناك أكثر من 130 مليون عربي بالغ يعانون من تسوس أو نخر الأسنان، ونسبة كبيرة منهم ستحتاج إلى حشوات العصب.

الذكاء الاصطناعي يسابق جراحي الأسنان

* رصد الخراجات: أجرى العالم البريطاني أندرياس وزملاؤه دراسة مقارنة ما بين أداء خوارزمية الذكاء الاصطناعي و24 جراح فم ووجه في اكتشاف الخراجات حول قمة جذور الأسنان على الأشعة البانورامية. وخلصت الدراسة إلى أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي القائمة على التعلم العميق تفوقت على بعض الجراحين. وبالمثل، أظهرت دراسة أخرى أن نماذج الشبكات العصبية التلافيفية CNN، (وهي من مكونات الذكاء الاصطناعي المستلهمة من العصب البصري لتحديد الأشكال)، أدت أداءً أفضل من ثلاثة أطباء استشاريي أشعة فم ووجه، في اكتشاف الخراجات حول قمة جذور الأسنان أثناء المحاكاة على الأشعة داخل الفم.

وفي دراسة أخرى نشرت في مجلة «طب الأسنان» البريطانية أخيراً، استخدم العالم أورهان وزملاؤه أكثر من 100 أشعة مقطعية للأسنان لاختبار نظام الذكاء الاصطناعي، وذكروا دقة اكتشاف عالية مقارنة باختصاصي الأشعة.

تشخيص كسور الجذور وأطوالها

* تشخيص كسور الجذور الأفقية والعمودية: وهو مهمة تتطلب الخبرة، ويفشل تقريباً 75 في المائة من الأطباء في تحديدها على الأشعة. تم تطوير نماذج من الذكاء الاصطناعي لاكتشاف كسور الجذور تلقائياً على الصور الشعاعية للأسنان ثنائية وثلاثية الأبعاد.

أظهرت دراسة لفوكودا وزملائه أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة واعدة لتشخيص الكسور الجذرية العمودية على الأشعة البانورامية. وأظهرت دراسة أخرى للدكتور جوهاري من «هارفارد» وزملائه أداءً ممتازاً باستخدام خوارزمية الذكاء الاصطناعي للكشف عن الكسور الجذرية العمودية بدقة 96.6 في المائة.

* تحديد طول الجذر بدقة: خطوة حاسمة لنجاح علاج قناة الجذر أو حشوات العصب، حيث إن 60 في المائة من فشل علاج حشوات العصب بسبب عدم الحساب الدقيق لطول قناة العصب، ما يؤدي إلى قصر أو زيادة الحشوة، ويؤدي بدوره إلى فشل العلاج، وتفاقم الخراج مع خطورة ذلك.

أظهرت الدراسات أن الشبكات العصبية الاصطناعية (وهي من مكونات الذكاء الاصطناعي) يمكن استخدامها لتحديد طول الجذر بدقة. أبلغ الدكتور ساغيري وزملاؤه في بحث منشور أخيراً في مجلة «طب الأسنان» الأميركية أن الذكاء الاصطناعي يمكن استخدامه أداة إضافية لتحديد موقع خروج العصب من قمة جذر الأسنان، وقد أثبت ذلك عدم وجود فروق في قياسات طول الجذر عند مقارنة الذكاء الاصطناعي مع القياسات الفعلية بعد إجراء القياسات الفعلية.

معدلات نجاح عالية

وهكذا فقد أظهرت خوارزميات الذكاء الاصطناعي القائمة على CNN معدلات نجاح عالية في الكشف التلقائي عن الأسنان وتجزئتها على الأشعة ثنائية وثلاثية الأبعاد.

ويتمتع الذكاء الاصطناعي بمستوى عالٍ، مقارنة بالمراقبين البشريين، ولكن مع أوقات معالجة أسرع بكثير. وبما أن تحديد تشريح الجذور والقنوات هو أمر ضروري لنجاح علاج قناة الجذر، فإن لدى تطبيقات الذكاء الاصطناعي القدرة على المساهمة في هذه المهام.

*رئيس جمعية الذكاء الاصطناعي بطب الأسنان في الشرق الأوسط.

حقائق

130 مليون عربي بالغ يعانون من تسوس أو نخر الأسنان ونسبة كبيرة منهم ستحتاج إلى حشوات العصب