«البيت الصغير»... اليابان تُروى على لسان خادمة

فيلم «البيت الصغير» إنتاج 2016
فيلم «البيت الصغير» إنتاج 2016
TT

«البيت الصغير»... اليابان تُروى على لسان خادمة

فيلم «البيت الصغير» إنتاج 2016
فيلم «البيت الصغير» إنتاج 2016

ممتعة هي رواية «البيت الصغير» للكاتبة اليابانية كيوكو ناكاجيما الصادرة بترجمة إنجليزية هذا العام، عن دار «دارف»، بشرط ألا يقارنها قارئ الأدب الياباني بما ترجم سابقا لأدباء متميزين سبروا غور المجتمع بفلسفته وتراثه بأسلوب مركّب أو ملحمي، إذ ينحو النص الروائي هنا، إلى السرد المباشر البسيط الذي يقود تراكمه مع تقدم الرواية إلى استكشاف عوالم المجتمع الياباني، في طوكيو تحديدا، بين 1930 و1945، وإلى بلورة صورة ليابان ما قبل الحرب ثم يابان فترة الحرب العالمية الثانية وصولا إلى الحاضر.
تستعيد تاكي ساردة الرواية، تفاصيل حياتها بصفتها خادمة لعائلة هيراي في ضواحي طوكيو. مراهقة قدمت من صقيع الريف الشمالي الفقير، بحثا عن عمل يجلب دخلا بسيطا يساعد عائلتها في تكاليف العيش. فبنات الفقراء كن خزانا لخدمة بيوت الأغنياء أو لفتيات الغيشا المختصات ببيوت المتعة. وقد وجدت تاكي نفسها في خدمة توكيكو العروس الشابة التي تكبر خادمتها بسنوات قليلة. قبل ذلك عملت في منزل الروائي كوناكا. أخبرها الرجل العجوز غريب الأطوار أن الخادمة مسؤولة عن سعادة زواج أصحاب البيت، وهو شعار تضمه تاكي إلى قلبها، وتطبقه في عملها لدى العائلة التالية. تتطور العلاقة بين السيدة والخادمة إلى رابطة قوية «أخواتية» ومع سيد البيت والطفل المصاب بسيقان واهية أقرب إلى الشلل، حتى يصبح وجودها في البيت هو كل حياتها تستغني معه تقريبا عن علاقتها بأهلها، بعد أن تغيرت مفاهيمها عن الحياة بفضل عيشها، هي ابنة الريف غير المتحضر، في المدينة الكبيرة الحديثة. وضعت تاكي كل جهدها في خدمة البيت ذي السقف القرميدي الأحمر المبني على الطراز الغربي والقابع فوق تلة بحي راق، فتزرع حديقته بالنباتات والأعشاب المستخدمة في الطبخ والعلاج، وتحصل من الجزار والبقال بذرابة لسانها على أحسن السلع للعائلة خصوصا في فترة التقنين التي شهدها اليابانيون فترة الحرب العالمية الثانية.
تسرد تاكي، التي باتت عجوزا الآن، يومياتها، بتكليف من مسؤولة دار نشر، كانت كلفتها سابقا بكتاب عن التدبير المنزلي موجه للشابات الصغيرات، مشددة عليها أن مشروع الكتاب الجديد يهدف إلى تعريف القراء بتفاصيل الحياة في طوكيو قبل نصف قرن: طبيعة العلاقات الإنسانية، وأطباق الأكل، والحياة الترفيهية، والعمارة؛ فالجيل الجديد لم يختبر موضوع إقامة خادمة بالبيت كما كان عليه الحال قديما في اليابان، عندما كان وجود خادمة أو أكثر بالبيت إشارة إلى تميز العائلة اجتماعيا. أي سبر الفترة المعروفة بـ«مرحلة شوا» نسبة إلى فترة حكم الإمبراطور هيروهيتو (1926 - 1989) التي يعدها الباحثون المرحلة السابقة على اليابان الحديثة.
في طوكيو، اندمجت تاكي بتفاصيل الحياة الجذابة فاعتبرت نفسها مع الأيام ابنة العاصمة، تبنت لهجتها المنمقة، وانغمست بالحياة الحديثة المنشغلة بالأخبار العامة والمشاريع الاقتصادية وآخر صيحات الموضة وعروض السينما، وحيث الإعلام الذي يتمظهر من خلال مجلة للمرأة ترأس تحريرها صديقة السيدة توكيكو، وصحيفة يومية سياسية يحضرها سيد البيت ويقرأها هو وزوجته، كذلك مشروع المجلات المصورة الشهيرة بـ«المانغا».
يتلصص القريب الشاب على مذكرات تاكي عند زيارته لها لمساعدتها في شأن ما، مندهشا من اطلاع العمة على تفاصيل تفوق اهتمامات خادمة يفترض أنها مهمومة بمتابعة شؤون البيت وخدمة السيدين والطفل كويشي الضعيف البنية. وكثيرا ما تدخل الشاب وناقشها بصحة التفاصيل مقارنة بما هو موثق في الكتب. غير أن الحياة عموما ما هي إلا شأن سياسي. فحديث السيد هيراي عن محاولة اليابان الفاشلة لاستضافة الألعاب الأولمبية التي ستجلب الازدهار لطوكيو، وما ينقله من أخبار في مجال عمله أو ما يعبر عنه من مخاوف تأثير التقلبات السياسية أو اقتراب شبح الحرب على مسار عمل مصنع ألعاب الأطفال الذي يعمل مديرا له، هي ضمن مسار السياسة. كذلك تفاصيل مواجهة أهل طوكيو لفترة الحرب من تقنين في الطعام واختلاق تاكي لأفانين أطباق جديدة بسيطة مستوحاة من المتوفر في الحديقة والمسرب لها من البائعين، ليس كلاما عن الطبخ والطعام فقط.
يتفاجأ قارئ الرواية ببساطة العلاقة بين المرأتين، الخادمة والمخدومة، حيث تغيب الطبقية التي قرأنا عنها في أعمال روائية أو أعمال سينمائية يابانية. وكأننا في مرحلة بدء سد الفجوة بين الطبقات مع ترك مساحة من التمايز، خصوصا ما في العلاقة بين النساء من تضامن ومساندة، إضافة إلى تمرد صديقة السيدة رئيسة تحرير المجلة النسوية على التقاليد الذكورية في اليابان (النسوية بأشكالها المبكرة). وتلحظ الخادمة في مرحلة ما انجذاب سيدتها إلى شاب فنان في مجلات المانغا المصورة، الذي يتردد عليهم لعمله مع الزوج في مصنع الألعاب، فتحاول أن تتصدى لاحتمال فضيحة ستؤثر على السيد الصغير في المدرسة وعلى استقرار البيت عموما. وهذه العلاقة هي تحديدا ما ركز عليه فيلم من إنتاج ياباني مستوحى من الرواية وبالاسم نفسه، عام 2016، وقد وصل إلى المسابقة الرسمية في مهرجان برلين السينمائي بعدة ترشيحات للدب الذهبي، وحصل على جائزة أفضل ممثلة.
وحدها الحرب تفرق بين السيدة والخادمة حيث الضيق المادي وتدهور الاقتصاد وسقوط القنابل الأميركية على البلاد، توقفت المصانع وبينها مصنع السيد هيراي للألعاب، بعد تكريس كل المواد الخام للإنتاج العسكري، وبات المواطنون يساقون إلى الخدمة العسكرية. تعود تاكي إلى شمالها البارد بكل معانيه وتبقى متعلقة بالبيت الصغير ودفئه. وعندما تتاح لها فرصة زيارة طوكيو في مهمة سريعة تحمل في جيوب معطفها، بعض الطعام لسيدتها، حيث العاصمة دكت وباتت على شفا جوع. في المرة التالية ستجد البيت قد تعرض للدمار وقتل ساكنوه في واحدة من الغارات.
إننا في رواية «البيت الصغير» أمام عوالم هيأت اليابان المعاصرة، التي خرجت من عباءة الماضي والتراث المنغلق على أصحابه، إلى فضاءات التعرف على العالم بأزيائه وفنونه وصناعته، حتى بدأت الحرب العالمية الثانية، ثم مواجهة الغرب عسكريا، إلى مواجهته سلميا بالبناء والتحديث بعد الهزيمة.
بعد جنازة العمة، يقرر ابن الأخ الشاب البحث عن أماكن وشخصيات اليوميات مع انتقاله للعمل في العاصمة. لكن طوكيو كانت قد تغيرت كثيرا والضاحية الهادئة التي ضمت البيت الصغير باتت مزدحمة بالسكان وأعيد بناؤها بعد أن دمرتها الغارات، لتنتهي الرواية بعين الشاب بعد أن بدأت بعين المرأة المسنة.
«البيت الصغير» رواية تقترب من الواقع بسرد روائي بسيط وعميق لا يخوض في التعقيدات السيكولوجية أو الواقعية السحرية والأساطير التي تشكل الموروث التاريخي لليابان، لكنها لا تتجاهل هذا الموروث بحدوده الواقعية المباشرة، فتتحدث عن طقوس احتفالية، وعن الوجبات الرئيسية في المطبخ الياباني، الأرز وأنواعه وكذلك الخضار، وكيفية طهي وجبات معينة، عن الأزياء، ومفردات أخرى من دون إقحام. كل ذلك من خلال حيلة بسيطة هي كتابة مذكرات لتنشر في كتاب. وقد يكون للخلفية الصحافية لكيوكو ناكاجيما دور في إخراج نصها من موروث الآباء اليابانيين في الرواية.
ناكاجيما فازت بجائزة نوكي للأدب عام 2010 عن رواية «البيت الصغير»، وهي من مواليد 1964.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي