أميركا 2020: رهان الديمقراطيين على غالبية سلبية قد لا يكفي لهزيمة أقلية معبأة ومتحمسة لترمب

يوم الانتخابات الأميركية عام 2016، ورغم أن المرشح الجمهوري (يومذاك) دونالد ترمب كان يحظى بتأييد 38 في المائة من اتجاهات التصويت، تمكّن من الفوز بعدما حصل على 304 أصوات من أصوات المجمع الانتخابي الـ535، علماً بأن الفائز يحتاج إلى غالبية مطلقة، أي 270 صوتاً للفوز. وسبق لهذا الأمر أن حدث غير مرة في انتخابات سابقة.
والحال أن الانتخابات الأميركية، الرئاسية والعامة، ترتبط بشروط تسعى الماكينات الانتخابية لمرشحي الحزبين الرئيسيين، الديمقراطي والجمهوري، إلى توفيرها عبر آليات ودراسات ميدانية واستطلاعات رأي متواصلة ومُضنية.
وقد يكلّف الخطأ في تقدير تلك المعطيات المرشح الذي يعتبر أنه الأوفر حظاً خسارة المعركة.

يتنافس المرشحون الأميركيون على كسب تأييد شرائح وفئات اجتماعية وعرقية وعُمرية، عبر استمالتها أو تحييدها قسراً أو إحباطاً من المشاركة في الانتخابات.
هذا ما جرى مع هيلاري كلينتون، المرشحة الرئاسية الديمقراطية السابقة، عندما خسرت عام 2016 أصوات الشباب في الحزب الديمقراطي بعد تغلبها في المعركة الحزبية الترشيحية على منافسها اليساري بيرني ساندرز، ونجاح الرئيس السابق بارك أوباما بأصوات الشباب والملوّنين عموماً، وكذلك النساء، خصوصاً السود منهن.
أيضاً، فاز الرئيس الحالي دونالد ترمب عام 2016 بفضل أصوات الطبقة العاملة، وبالذات غير الماهرة أو المنخرطة في الصناعات التقليدية، في أربع ولايات تشكّل قلب «حزام الصدأ»، هي بنسلفانيا وميشيغان وويسكونسن (مجموع أصواتها الانتخابية 46 صوتاً كانت كافية لفوز كلينتون) وأوهايو.
وهكذا، رغم تفوق كلينتون على ترمب في عدد الأصوات الشعبية، بفارق نحو 3 ملايين صوت، فإنها خسرت الانتخابات أمام ترمب بفضل تقدّمه عليها بعدد أصوات المجمع الانتخابي التي تساوي عدد ممثلي الولايات في مجلسي الكونغرس (الشيوخ والنواب). وما حصل أن «الماكينة الانتخابية» الجمهورية بنت استراتيجيتها على كسب «الولايات المتأرجحة» أو غير المحسومة (حيث ليس لأي من الحزبين غالبية كبيرة) ونتيجة لكسبها... فاز ترمب، ودخل البيت الأبيض.

الشريحة الانتخابية المستهدفة
خبراء الانتخابات الأميركيون يشدّدون على أن المرشح، سواء كان ينافس على منصب الرئاسة أو على عضوية مجلس الشيوخ أو النواب أو حاكمية ولاية، عليه معرفة طبيعة القاعدة الانتخابية التي يتوجه إليها. وهذا يعني تركيبة شرائحها العُمرية والجندرية (الجنسية) والعرقية والتعليمية بجانب الاتجاهات والولاءات الآيديولوجية لقاعدته الحزبية.
يقول هؤلاء إن الرئيس ترمب يعتقد أن بإمكانه الاستناد إلى دعم قاعدته الحزبية الصلبة لتجديد انتخابه. وهذا، مع أن نتائج الانتخابات النصفية لمجلسي الشيوخ والنواب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 قرعت جرس إنذار كبير للحزب الجمهوري، إذ أجمعت معظم الدراسات الانتخابية على أن إقبال الفئات العُمرية الشابة على المشاركة في التصويت أتاح للحزب الديمقراطي تحقيق الفوز بغالبية مقاعد مجلس النواب في نتيجة لم يشهدها منذ عام 1972.
في المقابل، بيّنت الإحصاءات أن غالبية الأصوات التي حصل عليها ترمب عام 2016 كانت من المسيحيين البيض وكبار السن والذكور والناخبين الأقل تعليماً والولايات الريفية والجمهوريين التقليديين. ورغم أن استطلاعات الرأي أظهرت يوم الانتخاب أن 18 في المائة من الناخبين، لديهم نظرة سلبية تجاه ترمب وكلينتون معاً، استطاع ترمب في نهاية المطاف الحصول على تأييد 47 في المائة من هذه الكتلة (الساخطة على كلا المرشحين) مقابل 30 في المائة لكلينتون.

ناخبون ديمقراطيون تاريخياً
أيضاً أظهرت نتائج انتخابات 2016 أن ترمب حصل على تأييد «الولايات المتأرجحة»، مدعوماً بانحياز فئات اجتماعية من فقراء الطبقة الوسطى، ومن فئات عمال الصناعات التقليدية والعمال غير المهرة، خصوصاً في ولايات ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن، التي كانت تصوّت في العقود الأخيرة لمصلحة الحزب الديمقراطي. فلقد تمكن ترمب من استمالة القاعدة العمالية فيها، إثر إغداقه الوعود بأن يعيد عجلة الإنتاج إلى مصانع ما يُعرف بـ«الاقتصاد التقليدي»، في إشارة إلى مناجم الفحم الحجري وصناعات الصلب والصناعات الغذائية، ومهاجمته «العولمة» و«هجرة الوظائف» إلى بلدان اليد العاملة فيها رخيصة.
ولكن، بمرور الوقت، ومع النتائج الضئيلة التي حققها على صعيد إعادة النهضة لتلك الولايات، يواجه ترمب منافسة شديدة من المرشح الديمقراطي جو بايدن الذي يحظى بشعبية قديمة في تلك الولايات، علماً بأنه أطلق حملته من ولاية بنسلفانيا، ليشير إلى أهمية استعادة تلك الولايات من قبضة ترمب. وللعلم، بايدن من ولاية ديلاوير الصغيرة يشكل معظم سكانها «ضاحية» كبيرة لمدينة فيلادلفيا، كبرى مدن بنسلفانيا. وعليه، يُجمع خبراء الانتخابات على أن معركة عام 2020 ستتمحور حول خمس أو ست ولايات «متأرجحة»، من أصل 50. يختصر تركيبتها العرقية والطبقية مشهد الانتخابات.

انقسام الديمقراطيين الآيديولوجي
حقّاً، يراهن ترمب والحزب الجمهوري على الانقسام الآيديولوجي في الحزب الديمقراطي بين اليمين والوسط واليساريين. ويعتقد الجمهوريون أن نجاح يساريي الديمقراطيين، الذين يطالبون بـ«الصحة للجميع» و«التعليم للجميع» وبالقيود البيئية، في إقصاء بايدن وغيره الوسطيين سيؤدي إلى إحجام الناخبين في ولايات كثيرة عن دعم ما يتهمهم الجمهوريون بـ«الاشتراكيين». كما يعتقد المخططون الجمهوريون أن تعهد المرشحين الديمقراطيين بمنح الحق في الطبابة للمهاجرين غير الشرعيين، سيحفّز قاعدتهم المحافظة المتشدّدة على التماسك حول ترمب، والتوجه مجدداً بكثافة إلى صناديق الاقتراع.
وفي الاتجاه نفسه، تحذر مراكز أبحاث ودراسات متخصّصة في الانتخابات من أن العديد من المرشحين الديمقراطيين لم يتعلموا الدرس الرئيسي للديمقراطية الأميركية، وهو «لا يمكن الفوز في الانتخابات عبر الرهان على غالبية سلبية (أي متراخية وغير مجيّشة)، بل يتحقق الفوز عبر الأقليات المعبّأة المتحمسة». ومع أن الغالبية السلبية قد تكون مع الديمقراطيين، فإن الأقلية المعبأة قد تكون مجدداً العامل المؤدي لتجديد فوز ترمب في انتخابات 2020.
أضف إلى ذلك، بحسب المؤشرات الاقتصادية التقليدية، فإن حالة الاقتصاد الأميركي ممتازة. وبالتالي، فإن نماذج التنبؤ التي تعتمد أساساً على المؤشرات الاقتصادية، والتي تنبأت بشكل صحيح بفوز ترمب في انتخابات عام 2016، تتنبأ له أيضاً بفوز كبير عام 2020.

قاعدة ترمب متماسكة
على صعيد متّصل، تشير استطلاعات رأي كثيرة إلى أن الجمهوريين العاديين الذي يُشار إليهم عموماً باسم «الجمهوريين المعتدلين»، غير معجبين بترمب ويتهمونه بالابتذال، إلا أنهم، مع ذلك، حصلوا منه على الشيء الوحيد الذي يهمّهم، ألا وهو خفض معدلات الضرائب. ولذا، فهؤلاء لخوفهم من «اشتراكية» الديمقراطيين... قد يخرجون عام 2020 لحماية مكاسبهم عبر التصويت لترمب.
أكثر حماسة من هؤلاء، طبعاً، حماسة اليمين المسيحي المتوقع أن يخرج بقوة مرة أخرى. وبينما يتحير الليبراليون في تفسير أسباب دعم الناخبين المتديّنين لترمب، فإن ثمة من يشير إلى أنه رجح عبر التعيينات الأخيرة في المحكمة العليا كفة اليمين المحافظ فباتت أكثر يمينية مما كانت عليه منذ عقود، إذ عيّن ترمب قاضيين محافظين بشدة ضد الإجهاض، هما نيل غورسيتش، وبريت كافانوه، ووعد بتعيين المزيد، في ظل احتمال شغور منصبين في الفترة الرئاسية الجديدة، هما روث بيدر غينزبرغ (يهودية ليبرالية)، وربما كلارنس توماس (أسود محافظ) أيضاً.
غير أن رهان ترمب الرئيس سيكون على الاحتفاظ بولاء الطبقة العاملة من المسيحيين البيض وفقراء الطبقة الوسطى الذين يريدون «بناء الجدار» (مع المكسيك) إبعاداً للعمالة الرخيصة الوافدة من أميركا اللاتينية وحفاظاً على «الصفاء الأميركي» القومي، وأيضاً ولاء «الشعبويين» المعادين للهجرة، الذين يريدون (كما يزعمون) «تجفيف مستنقع الفساد» في واشنطن.
حتى الآن لم يحصل هؤلاء على ما يبتغونه، إذ إن «الجدار» (رغم كل وعود ترمب) ما زال أقرب إلى السور، في حين «تجفيف المستنقع» يراوح مكانه، لا بل توسع بعد سلسلة الفضائح التي طالت العديد من المعينين الفاسدين في إدارته.

استطلاعات رأي... وخلفيات
بحسب استطلاع لجامعة كوينيبياك نُشر في 11 يونيو (حزيران) الماضي، ما زال ترمب متخلفاً وراء المرشحين الديمقراطيين البارزين، إلا أن الاستطلاع نفسه أظهر أنه متقدم على كل الديمقراطيين بنسبة 6 من 10 في المائة بين الناخبين البيض، باستثناء جو بايدن، إذ تساوى الرجلان في الفوز بتأييد البيض بنسبة 47 في المائة تقريباً. وللعلم، ثمة استطلاعات رأي وطنية أخرى تشير إلى أن ترمب متقدّم بين الناخبين البيض بمعدل 10 نقاط مئوية.
ما يُذكر أنه منذ أكثر من 50 سنة، بات الحزب الجمهوري أكبر منظمة سياسية للبيض، وظهر الفرز بين الحزبين الرئيسيين بشكل متزايد على أساس عرقي. ويرتبط الشعور بالهوية العرقية مع تزايد المخاوف لدى البيض بأنهم «يخسرون أميركا»، وأن مستقبلهم معرَّض للخطر. ولذا، فإن ناخبي ترمب من المسيحيين البيض يدعمونه رغم كل التهم التي وُجّهت له، سواء ما أحاط بقضية الدعم الروسي المفترض له واتهامه بالكذب وتجاهله للدستور وفضائحه الجنسية المزعومة ووضع الأطفال وأسر الملوّنين في معسكرات اعتقال وعلاقاته السياسية مع الحلفاء والأصدقاء وجيران الولايات المتحدة. ومع أن استطلاعات كثيرة تظهر أن كثيرين من ناخبي ترمب يشعرون بالحرج والخجل منه، بمن فيهم البيض، فهم ما زالوا يدعمونه.

النساء السود قوة مؤثرة
مقابل هذه القاعدة البيضاء المعبّأة، برزت في الآونة الأخيرة النساء السوداوات، ككتلة تصويت مهمة في سباق الرئاسة عام 2020، فالتقدم الملحوظ الذي حققته هذه الكتلة في انتخابات التجديد النصفي العام الماضي، أظهرها كتلة سكانية سجّلت إحدى أعلى نسب الإقبال على التصويت. ووفق مكتب الإحصاء الأميركي، فإن 55 في المائة من الناخبات السود أدلين بأصواتهن في نوفمبر 2018، أي أعلى من المعدل الوطني بـ6 في المائة. وقالت غليندا كار، رئيسة مؤسسة «أميركا هاي هيلز»، وهي منظمة تسعى إلى تعزيز القوة السياسية للمرأة السوداء، إن ما تريده السوداوات من سباق البيت الأبيض عام 2020 هو أن يتبنى قضاياهن المهمة. وأشارت إلى أن النساء السود يمثلن 4.1 في المائة فقط من مجلسي النواب والشيوخ مقابل 8 في المائة من سكان البلاد.
من ناحية ثانية، تقول إيميه أليسون، مؤسسة ورئيسة جماعة «ذي بيبول» موضحة: «إن الارتفاع الحالي لعدد الناخبات السود ظهر حديثاً في أول انتخابات لرئيس أسود هو باراك أوباما عام 2008. لقد كانت النساء السود المحركات وراء حملته المبنية على مجموعات منظمة، وعلى المانحين بدولارات قليلة».
ولكن، في حين أن هناك مرشحة سوداء قوية كالسيناتورة الديمقراطية كامالا هاريس عن ولاية كاليفورنيا، ويتوقع علماء السياسة وغيرهم من الخبراء أن تشهد انتخابات عام 2020 معدلات مشاركة قياسية، يُعتقد أن الناخبين السود والملوّنين والشباب المرجح أن يقترعوا بكثافة ضد ترمب، يتركزون أصلاً في الولايات والمناطق التي يسيطر عليها الديمقراطيون.
في المقابل، يرى الخبراء أن القوة الدافعة والأسباب التي تقف وراء تحفيز الفئات المعارضة لترمب قد تكون أيضاً حافزاً وراء تحشد القوة الداعمة له خلفه أيضاً، فالشكوى من النظام الانتخابي والفوز بالتزكية وقمع الناخبين وتزوير الأصوات والتدخل الخارجي المتوقع، قد تكون سبباً لمواصلة الناخبين البيض التأثير على نتائج انتخابات عام 2020.

قضايا مهمة للناخب
وبينما يتركز الاهتمام على القضايا التي تثير حساسية الناخب، كقضايا التأمين الصحي، والفساد السياسي والإداري، وقضية الهجرة والتعليم، يحرص كلا الحزبين على «تحريض» قاعدته الأكثر تمسكاً بقيمها في تلك القضايا الخلافية. وترمب هو المرشح الذي أشعل حملة خفض مستويات الهجرة وبناء «الجدار»، وسعى لتحقيق ما يرى أنه «يحافظ على النسيج الصحيح للبلاد»، كما يراه الأميركيون البيض.
وهنا يقول أشلي جاردينا الباحث في جامعة ديوك «ترمب هو مرشح الهوية البيضاء إلى حد كبير»، ثم يضيف: «من الواضح أن سياسات الهوية البيضاء، ورد الفعل الأبيض ضد الديمقراطية متعددة الأعراق، تجعل ترمب يتمتع بشعبية كبيرة بين ناخبيه. لذا فانتخابات عام 2020 ليست استفتاءً عادياً على سياسات اقتصادية متباينة، أو على كفاءة الرئيس الحالي من حيث تحسين الصالح العام. بل سيقيّم ناخبو ترمب هذه المرة مواهبه كرمز للقوة البيضاء والضحية البيضاء».

ترمب يطبق خطط 2016
وبالفعل، ترمب هو الآن الشخصية الحاسمة في السياسة الأميركية، وقد قرر معظم الناخبين منذ وقت طويل إما أن يحبه أو يكرهه. ومن جهته، أثبت الرئيس قدرة خارقة على تكوين رواية سلبية لمعارضيه وإقناع جمهوره بها. وبنى استراتيجيته على جذب تلك القاعدة من خلال «شيطنة» خصومه، سواء في الانتخابات التمهيدية أو العامة. وكان هذا أمراً أساسياً لنجاحه في عام 2016، وسيكون عنصراً أساسياً في استراتيجية إعادة انتخابه عام 2020. أما الحزب الديمقراطي، فلم يكن ملهماً إلى حد كبير، بل قدم نفسه حزباً لا هوية واضحة له، منقسماً على أكثر من 20 مرشحاً، يختلفون على أكثر مما يتفقون عليه.
وحول هذه النقطة، يقول دوغ سونيك، أحد كبار مستشاري الرئيس السابق بيل كلينتون، شارحاً: «مع أقل من 500 يوم على يوم الانتخاب، ينقلب الديمقراطيون على بعضهم، ويخوض المانحون المناهضون لليساريين حروباً عليهم، بينما هؤلاء يجمعون الأموال لخوض معركة ضد المؤسسة الحزبية الديمقراطية». ويتابع: «قد يكون ترمب غير مرغوب فيه من الناحية التاريخية، لكنه يتمتع بشعبية كافية لإعادة انتخابه بشكل مريح. فمؤيدوه يتمتعون بالسلطة والتصميم، وهما أمران ما زال الديمقراطيون يفتقرون إليهما. وقد نضطر للتعايش في نهاية المطاف مع أربع سنوات جديدة من ترمب».