الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها

الصحافي أكيول لـ {الشرق الأوسط}: إذا عارضت إردوغان لا تسجن.. لكنك تصبح عاطلا عن العمل

الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها
TT

الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها

الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها

انعكس الصراع الدائر بين الحكومة التركية، وجماعة الداعية الإسلامي فتح الله غولن، على وسائل الإعلام التي انقسمت بين مؤيد ومعارض، كما امتد النزاع إلى داخل المؤسسات الإعلامية التركية التي بدأت عملية «تنظيف ذاتي» أسفرت عن خروج قرابة 1000 صحافي من مؤسساتهم، خصوصا من الصحف الموالية للحكومة، فخرجت عدة أسماء بارزة من الصحف التركية، كما شهدت جريدة «حرييت» إحدى كبريات الصحف التركية خضة كبيرة تمثلت بخروج رئيس تحريرها وعدد من كتابها البارزين بتهمة «التعامل مع الجماعة».
وتعمل جماعة غولن بقوة في الوسط الإعلامي التركي، وهي تسيطر على جمعية الكتاب والصحافيين، التي هي بمثابة نقابة الصحف التركية. وقد كشف تقرير برلماني تركي مستقل عن فصل 981 صحافيا من عملهم، منذ مطلع العام الحالي، إضافة إلى معاقبة وسائل الإعلام التي تنتقد سياسات الحكومة بواسطة وزارة المالية والمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون، وتخصيص إعلانات الوظائف بالقطاع العام لوسائل الإعلام المؤيدة للحكومة.
التقرير الذي أعده النائب المستقل بالبرلمان التركي عن مدينة كوتاهيا إدريس بال، حول الضغوط التي تمارسها الحكومة التركية على وسائل الإعلام غير الموالية لها، والمشاكل التي يعانيها العاملون في هذا القطاع، أشار إلى أن «الإعلام الموالي» يتألف من ست صحف وست قنوات تلفزيونية مملوكة لرجال أعمال مقربين من حكومة حزب العدالة والتنمية، مشددا على أن الحكومة كونت جيشا إلكترونيا قوامه نحو 10 آلاف شخص، بأموال الدولة، بهدف شن هجمات عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت بغية إسكات الحركات والأحزاب المعارضة للحكومة. ولفت التقرير إلى وجود عدد كبير من الصحف والقنوات التلفزيونية التي لا تدار من قبل الحكومة، يتم الضغط عليها من خلال المناقصات والإعلانات والضرائب وحملات التفتيش، كما تُمنَع من بث برامجها وأخبارها المعارضة للحكومة.
ويقول تورجان باش تورك، رئيس منتدى «ميديا لوغ» الإعلامي، لـ«الشرق الأوسط»، إن التقرير الذي قدمه النائب إدريس بال «يدل على الوضع المزري الذي يعيشه الوسط الإعلامي في تركيا، كما أنه يبين للقاصي والداني مستوى الديمقراطية التي تطبق الآن في تركيا وكيف يضرب بعرض الحائط المواثيق والأعراف الدولية ومبادئ حرية الصحافة التي أبرمتها الأمم المتحدة». وأشار إلى عدة أسباب وراء طرد هذا الكم الهائل من الإعلاميين، لكنه شدد على أن السبب الأهم هو أن «الحكومة تعيد ترتيب وضع الإعلام في تركيا ليكون أداة لخدمتها وقوة رادعة إلى جانب القوة التنفيذية التي تتحكم بها».
وقال «نحن في المنتدى أعددنا دراسة نشرت العام الماضي، وطلبنا فيها أن تكون مؤسسات الإعلام بعيدة عن أي استثمارات غير إعلامية، وأن يمنع أصحاب المؤسسات الإعلامية من ممارسة أي أعمال تجارية خارج نطاق الإعلام». وأضاف «ما يجري حاليا هو أن أصحاب هذه المؤسسات الإعلامية لهم استثمارات تجارية أخرى، ولهذا السبب تكون لهم علاقات مباشرة مع الدولة والحكومة، مما يجبرهم على السعي لنيل رضا الحكومة، فلا يسمحون بأن يكون في مؤسساتهم صحافيون معارضون للحكومة، أو يكتبون بما يخالف توجهاتها»، معتبرا أن صاحب المؤسسة الإعلامية «يكون في هذه الحال العائق الكبير أمام حرية التعبير للصحافي». وأوضح أن «مسودة قانون أعدت عام 2003 كانت تنص على منع أي رجل اعمل من أصحاب المؤسسات الإعلامية من دخول أي مناقصات للدولة، ولكن باتفاق مع بعض رجال الأعمال والمتنفذين في الحكومة حيل دون صدور هذا القانون، وبهذه الطريقة استخدم رجال الأعمال مؤسساتهم الإعلامية للضغط على الحكومة وأخذ مناقصات كبيرة جدا من الدولة، وبهذه الطريقة استطاعت الحكومة أن توجه الإعلام من خلال أصحابه».
وأشار باش تورك إلى أن فضيحة الفساد التي عاشتها تركيا العام الماضي كانت نقطة تحول بالنسبة للحكومة للتضييق على وسائل الإعلام، خاصة التي كانت تكشف خفايا فضائح الوزراء وأبنائهم، ولهذا السبب بدأت الحكومة باستخدام جميع وسائل الضغط والترهيب على الصحف وأصحابها. ومن لم تستطع أن تقيله من عمله كانت تبدأ ضده حملة تشويه من خلال الإعلام الموالي لها فيجبر الصحافي على الاستقالة أو يقيله رب العمل».
ويعتبر مصطفى أكيول واحدا من أبرز الصحافيين الذين طردوا من وظائفهم لمعارضتهم حكومة حزب العدالة والتنمية، وتحديدا رئيس الحكومة السابق، ورئيس الجمهورية الحالي، رجب طيب إردوغان. وقد حرض أكيول على التمييز بين سياسة إردوغان، وسياسات رئيس الحكومة الجديد أحمد داود أوغلو، متوقعا أن يكون عهده أفضل لجهة الحريات الصحافية. وقال أكيول لـ«الشرق الأوسط»: «بدأت العمل في جريدة (ستار) عام 2007 كاتبا في الجريدة، ولكن قبل عدة أشهر تقدمت إدارة الجريدة وقالت لي بأنها لن تستطيع الاستمرار بالعمل معي، وإنهم قرروا إنهاء عقدهم معي لأن كتاباتي لم تعد تتماشى مع سياسة الجريدة، فقمت بشكرهم وغادرت المؤسسة»، مشيرا إلى أن «السبب في طلبهم إيقاف التعامل معي هو مساندتهم التامة لإردوغان، وبما أن مقالتي الأخيرة لم تكن تحمل كلمات المدح والتفخيم له فقد قرروا فسخ عقدي». وقال «منذ أن بدأ حزب العدالة والتنمية حكم تركيا كانت جريدة (ستار) من بين الوسائل الإعلامية التي كانت تمدح حكم إردوغان، ولكن في السنوات الأخيرة تحولت إلى ناطق باسم الحزب والحكومة». ويضيف «كانت الجريدة في السابق تحاول أن تعطيني قدرا من الحرية مع أنني كنت أنتقد إجراءات الحكومة فقط من أجل خلق توازن للقراء، لكنها الآن لا تحتاج إلى هذا التوازن ولا تحتاج إلى القراء الآخرين، ولا يوجد لها همّ زيادة المبيعات لأنها تمول مباشرة من الحكومة، ومن الطبيعي أن يقوموا بملء الفراغ بأناس يتمتعون بأسلوب أدبي ولكن لا علاقة لهم بالإعلام.
وتوقع أكيول أن يصبح الإعلام التركي شبه بوق للحكومة، وأن تشهد الفترة المقبلة طرد العشرات من الصحافيين قريبا، وذلك لتأهيل الإعلام ليتناسب مع المرحلة المقبلة لحكم العدالة والتنمية.
لكن جيم كوجوك، من صحيفة «يني شفق» الموالية، أعلن أنه لا يؤمن بهذا التقرير، معتبرا أن 70 في المائة من المؤسسات الإعلامية في تركيا تعمل ضد حكومات العدالة والتنمية وعلى رأسها مجموعة «دوغان» الإعلامية ومجموعة «جينار» الإعلامية. وقال كوجوك لـ«الشرق الأوسط»: «الجميع يذكر اسم حسن جمال من صحيفة (ملليت)، فاستقالة هذا الصحافي لم تأت نتيجة مواقفه من الحكومة، ولكن نتيجة مواقف أصحاب الجريدة الذين لم يتفقوا معه، ولهذا يلقون باللوم على الحكومة بأنها ضغطت على إدارة الجريدة». وأضاف «لو كانت الحكومة تضغط على المؤسسات الإعلامية لطرد الصحافيين فإننا لن نجد هذا اليوم أيا من الصحافيين يكتب في مجموعة (دوغان) الإعلامية، لأنها ومنذ الأزل معارضة للحكومة». وأشار إلى أنه منذ نحو خمس سنوات هناك حملات مباشرة استهدفت بعض الصحافيين من قبل إعلام جماعة فتح الله غولن، مما أدى إلى توقف الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى عن التعامل مع هؤلاء الصحافيين، متحديا أن «يقدم الذين يتهموا الحكومة دليلا على أنها ضغطت على وسيلة من وسائل الإعلام لطرد فلان أو فلان، ولكن في المقابل يوجد العشرات من الصحافيين الانقلابيين الذي عملوا وما زالوا يعملون جنبا إلى جنب لدعم أي حركات للانقلاب على الحكومة الشرعية في هذه البلاد، كما يوجد صحافيون يعملون تحت إمرة الانقلابيين من جماعة فتح الله غولن».
وأوضح أن «في تركيا أغلبية عظمى من المحافظين، ولهذا فإنه من الطبيعي أن تظهر زمرة من الصحافيين الفاشلين الذين يعتبرون أنفسهم فوق المجتمع وينظرون إليه نظرة دونية، ولهذا لا يستطيعون التماشي مع متطلبات الجماهير وينعكس هذا على أدائهم الإعلامي فينبذون من قبل الشعب وإدارة مؤسساتهم لأنهم دافعوا عن الانقلابات العسكرية ولأنهم يدافعون عن الهيكلية الموازية، فيطردون من أعمالهم، وهنا يحملون الحكومة مسؤولية فشلهم، ولهذا نراهم يكتبون في صفحات إلكترونية من الدرجة الثالثة».
ويشير كوجوك إلى أن الجميع يتحدث عن إنهاء عقود العمل مع صلاح الدين جينار ومصطفى أكيول اللذين كانا يعملان في جريدة «ستار»، موضحا أن «السبب في فسخ العقد مع صلاح الدين جينار أن هذا الشخص كان وما زال يدافع عما تقوم به جماعة فتح الله غولن من انقلابات وافتراءات وتشويه لسمعة الحكومة التركية المنتخبة بأغلبية عظمى في هذه البلاد. أما بالنسبة لمصطفى أكيول فهو أول من اتهم الجماعة قبل عدة سنوات بأنها دبرت مكيدة لمدير الأمن حنفي افجي وألقت به في السجن، ومع مرور الزمن ثبتت صحة كلامه، ولكن عندما بدأت الهيكلية الموازية بالتحرك للانقلاب على الشرعية كان مع والده أيضا من بين من أنكروا وجود هيكلية موازية رغم اكتشاف الدولة لهؤلاء واعتقال العشرات من رجال الأمن بتهمة التجسس والتخطيط للانقلاب». وقال «منذ عدة سنوات بدأت الصفوف تتضح في تركيا، وبما أنهم اختاروا الصف الآخر فإنهم يدفعون الثمن، ولكن أكرر وأقول بأن الحكومة لم تتدخل لإيقاف عمل صلاح الدين جينار ومصطفى أكيول»، معتبرا أن والد مصطفى أكيول، طه، هو من أكبر الإعلاميين في تركيا ويحاول اللعب على وتر عبد الله غل لشق صف «العدالة والتنمية»، لكنه باء بالفشل.
أما التغييرات التي شهدتها صحيفة «حرييت» فهي ليست بالمفاجئة، لأن الجريدة بقيادة أنيس بربر أوغلو عملت ما في وسعها لإنجاح الانقلاب على الشرعية في زمن رئيس التحرير السابق، وتطاول أحمد جوشكن ويلماز أوزديل وشتما رئيس الوزراء مباشرة وهما من أهم الكتاب في الجريدة، والسبب في هذا أن صاحب المجموعة الإعلامية أيدن دوغان كانت له دعوى أمام القضاء عام 2011 وبعد أن أصدرت جماعة فتح الله غولن قرارا لصالحه لأنها كانت تسيطر على القضاء، جلسوا للتفاوض معه، وعلى هذا الأساس قبل أن يعين أنيس بربر أوغلو رئيسا لتحرير الجريدة لأنه مقرب جدا من الجماعة، ومنذ ذلك الحين بدأت جريدة «حرييت» تلعب دور العدو للدولة والحكومة، لدرجة أن أحد الكتاب عنون مقالته بـ«رجل يستحق البصق في وجهه»، وهنا يعني رئيس الوزراء آنذاك إردوغان. التغييرات الآن في «حرييت» ليست لأن الحكومة تضغط، وإنما لأن الإدارة رأت أنها تمشي في الطريق الخطأ وتحاول أن تخفف حدة القتال مع الحكومة فقط لا غير، ولهذا أقيل بربر أوغلو من رئاسة التحرير، وعين مكانه سدات ارجين، وهذا قرار من أيدن دوغان نفسه.
أما بالنسبة للصحافيين المعتقلين فلا أحد منهم اعتقل نتيجة كتابته لرأي أو وجهه نظر معينة، وما أعرفه أن أغلبية المعتقلين من الصحافيين يتهمون بتهمة دعم ومؤازرة الإرهاب، وأتعجب أن مؤسسات الإعلام وحرية الصحافة العالمية تضع تركيا في قائمة الدول مثل العراق وكوريا الشمالية، وحسب رأيي فإنه يوجد مشروع دولي ضد حكومة إردوغان ومحاولة إظهارها بأنها حكومة قمعية تحارب حتى الصحافيين والإعلاميين.
في المقابل، يؤيد أكيول كوجوك أنه لا يوجد من بين الصحافيين المعتقلين من هو معتقل رأي، بل بسبب قضايا إرهاب. ويقول «إذا انتقدت إردوغان فأنت لن تعتقل، ولكن ستفقد عملك وتقف إلى جانب العاطلين من الإعلاميين». ويوضح أكيول أنه «ليس في كل الأحيان يكون طرد الصحافي بتدخل من الحكومة، ولكن بعض أصحاب المؤسسات الإعلامية يقومون بطرد غير الموالين للحكومة ليكسبوا رضاها».



كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».