الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها

الصحافي أكيول لـ {الشرق الأوسط}: إذا عارضت إردوغان لا تسجن.. لكنك تصبح عاطلا عن العمل

الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها
TT

الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها

الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها

انعكس الصراع الدائر بين الحكومة التركية، وجماعة الداعية الإسلامي فتح الله غولن، على وسائل الإعلام التي انقسمت بين مؤيد ومعارض، كما امتد النزاع إلى داخل المؤسسات الإعلامية التركية التي بدأت عملية «تنظيف ذاتي» أسفرت عن خروج قرابة 1000 صحافي من مؤسساتهم، خصوصا من الصحف الموالية للحكومة، فخرجت عدة أسماء بارزة من الصحف التركية، كما شهدت جريدة «حرييت» إحدى كبريات الصحف التركية خضة كبيرة تمثلت بخروج رئيس تحريرها وعدد من كتابها البارزين بتهمة «التعامل مع الجماعة».
وتعمل جماعة غولن بقوة في الوسط الإعلامي التركي، وهي تسيطر على جمعية الكتاب والصحافيين، التي هي بمثابة نقابة الصحف التركية. وقد كشف تقرير برلماني تركي مستقل عن فصل 981 صحافيا من عملهم، منذ مطلع العام الحالي، إضافة إلى معاقبة وسائل الإعلام التي تنتقد سياسات الحكومة بواسطة وزارة المالية والمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون، وتخصيص إعلانات الوظائف بالقطاع العام لوسائل الإعلام المؤيدة للحكومة.
التقرير الذي أعده النائب المستقل بالبرلمان التركي عن مدينة كوتاهيا إدريس بال، حول الضغوط التي تمارسها الحكومة التركية على وسائل الإعلام غير الموالية لها، والمشاكل التي يعانيها العاملون في هذا القطاع، أشار إلى أن «الإعلام الموالي» يتألف من ست صحف وست قنوات تلفزيونية مملوكة لرجال أعمال مقربين من حكومة حزب العدالة والتنمية، مشددا على أن الحكومة كونت جيشا إلكترونيا قوامه نحو 10 آلاف شخص، بأموال الدولة، بهدف شن هجمات عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت بغية إسكات الحركات والأحزاب المعارضة للحكومة. ولفت التقرير إلى وجود عدد كبير من الصحف والقنوات التلفزيونية التي لا تدار من قبل الحكومة، يتم الضغط عليها من خلال المناقصات والإعلانات والضرائب وحملات التفتيش، كما تُمنَع من بث برامجها وأخبارها المعارضة للحكومة.
ويقول تورجان باش تورك، رئيس منتدى «ميديا لوغ» الإعلامي، لـ«الشرق الأوسط»، إن التقرير الذي قدمه النائب إدريس بال «يدل على الوضع المزري الذي يعيشه الوسط الإعلامي في تركيا، كما أنه يبين للقاصي والداني مستوى الديمقراطية التي تطبق الآن في تركيا وكيف يضرب بعرض الحائط المواثيق والأعراف الدولية ومبادئ حرية الصحافة التي أبرمتها الأمم المتحدة». وأشار إلى عدة أسباب وراء طرد هذا الكم الهائل من الإعلاميين، لكنه شدد على أن السبب الأهم هو أن «الحكومة تعيد ترتيب وضع الإعلام في تركيا ليكون أداة لخدمتها وقوة رادعة إلى جانب القوة التنفيذية التي تتحكم بها».
وقال «نحن في المنتدى أعددنا دراسة نشرت العام الماضي، وطلبنا فيها أن تكون مؤسسات الإعلام بعيدة عن أي استثمارات غير إعلامية، وأن يمنع أصحاب المؤسسات الإعلامية من ممارسة أي أعمال تجارية خارج نطاق الإعلام». وأضاف «ما يجري حاليا هو أن أصحاب هذه المؤسسات الإعلامية لهم استثمارات تجارية أخرى، ولهذا السبب تكون لهم علاقات مباشرة مع الدولة والحكومة، مما يجبرهم على السعي لنيل رضا الحكومة، فلا يسمحون بأن يكون في مؤسساتهم صحافيون معارضون للحكومة، أو يكتبون بما يخالف توجهاتها»، معتبرا أن صاحب المؤسسة الإعلامية «يكون في هذه الحال العائق الكبير أمام حرية التعبير للصحافي». وأوضح أن «مسودة قانون أعدت عام 2003 كانت تنص على منع أي رجل اعمل من أصحاب المؤسسات الإعلامية من دخول أي مناقصات للدولة، ولكن باتفاق مع بعض رجال الأعمال والمتنفذين في الحكومة حيل دون صدور هذا القانون، وبهذه الطريقة استخدم رجال الأعمال مؤسساتهم الإعلامية للضغط على الحكومة وأخذ مناقصات كبيرة جدا من الدولة، وبهذه الطريقة استطاعت الحكومة أن توجه الإعلام من خلال أصحابه».
وأشار باش تورك إلى أن فضيحة الفساد التي عاشتها تركيا العام الماضي كانت نقطة تحول بالنسبة للحكومة للتضييق على وسائل الإعلام، خاصة التي كانت تكشف خفايا فضائح الوزراء وأبنائهم، ولهذا السبب بدأت الحكومة باستخدام جميع وسائل الضغط والترهيب على الصحف وأصحابها. ومن لم تستطع أن تقيله من عمله كانت تبدأ ضده حملة تشويه من خلال الإعلام الموالي لها فيجبر الصحافي على الاستقالة أو يقيله رب العمل».
ويعتبر مصطفى أكيول واحدا من أبرز الصحافيين الذين طردوا من وظائفهم لمعارضتهم حكومة حزب العدالة والتنمية، وتحديدا رئيس الحكومة السابق، ورئيس الجمهورية الحالي، رجب طيب إردوغان. وقد حرض أكيول على التمييز بين سياسة إردوغان، وسياسات رئيس الحكومة الجديد أحمد داود أوغلو، متوقعا أن يكون عهده أفضل لجهة الحريات الصحافية. وقال أكيول لـ«الشرق الأوسط»: «بدأت العمل في جريدة (ستار) عام 2007 كاتبا في الجريدة، ولكن قبل عدة أشهر تقدمت إدارة الجريدة وقالت لي بأنها لن تستطيع الاستمرار بالعمل معي، وإنهم قرروا إنهاء عقدهم معي لأن كتاباتي لم تعد تتماشى مع سياسة الجريدة، فقمت بشكرهم وغادرت المؤسسة»، مشيرا إلى أن «السبب في طلبهم إيقاف التعامل معي هو مساندتهم التامة لإردوغان، وبما أن مقالتي الأخيرة لم تكن تحمل كلمات المدح والتفخيم له فقد قرروا فسخ عقدي». وقال «منذ أن بدأ حزب العدالة والتنمية حكم تركيا كانت جريدة (ستار) من بين الوسائل الإعلامية التي كانت تمدح حكم إردوغان، ولكن في السنوات الأخيرة تحولت إلى ناطق باسم الحزب والحكومة». ويضيف «كانت الجريدة في السابق تحاول أن تعطيني قدرا من الحرية مع أنني كنت أنتقد إجراءات الحكومة فقط من أجل خلق توازن للقراء، لكنها الآن لا تحتاج إلى هذا التوازن ولا تحتاج إلى القراء الآخرين، ولا يوجد لها همّ زيادة المبيعات لأنها تمول مباشرة من الحكومة، ومن الطبيعي أن يقوموا بملء الفراغ بأناس يتمتعون بأسلوب أدبي ولكن لا علاقة لهم بالإعلام.
وتوقع أكيول أن يصبح الإعلام التركي شبه بوق للحكومة، وأن تشهد الفترة المقبلة طرد العشرات من الصحافيين قريبا، وذلك لتأهيل الإعلام ليتناسب مع المرحلة المقبلة لحكم العدالة والتنمية.
لكن جيم كوجوك، من صحيفة «يني شفق» الموالية، أعلن أنه لا يؤمن بهذا التقرير، معتبرا أن 70 في المائة من المؤسسات الإعلامية في تركيا تعمل ضد حكومات العدالة والتنمية وعلى رأسها مجموعة «دوغان» الإعلامية ومجموعة «جينار» الإعلامية. وقال كوجوك لـ«الشرق الأوسط»: «الجميع يذكر اسم حسن جمال من صحيفة (ملليت)، فاستقالة هذا الصحافي لم تأت نتيجة مواقفه من الحكومة، ولكن نتيجة مواقف أصحاب الجريدة الذين لم يتفقوا معه، ولهذا يلقون باللوم على الحكومة بأنها ضغطت على إدارة الجريدة». وأضاف «لو كانت الحكومة تضغط على المؤسسات الإعلامية لطرد الصحافيين فإننا لن نجد هذا اليوم أيا من الصحافيين يكتب في مجموعة (دوغان) الإعلامية، لأنها ومنذ الأزل معارضة للحكومة». وأشار إلى أنه منذ نحو خمس سنوات هناك حملات مباشرة استهدفت بعض الصحافيين من قبل إعلام جماعة فتح الله غولن، مما أدى إلى توقف الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى عن التعامل مع هؤلاء الصحافيين، متحديا أن «يقدم الذين يتهموا الحكومة دليلا على أنها ضغطت على وسيلة من وسائل الإعلام لطرد فلان أو فلان، ولكن في المقابل يوجد العشرات من الصحافيين الانقلابيين الذي عملوا وما زالوا يعملون جنبا إلى جنب لدعم أي حركات للانقلاب على الحكومة الشرعية في هذه البلاد، كما يوجد صحافيون يعملون تحت إمرة الانقلابيين من جماعة فتح الله غولن».
وأوضح أن «في تركيا أغلبية عظمى من المحافظين، ولهذا فإنه من الطبيعي أن تظهر زمرة من الصحافيين الفاشلين الذين يعتبرون أنفسهم فوق المجتمع وينظرون إليه نظرة دونية، ولهذا لا يستطيعون التماشي مع متطلبات الجماهير وينعكس هذا على أدائهم الإعلامي فينبذون من قبل الشعب وإدارة مؤسساتهم لأنهم دافعوا عن الانقلابات العسكرية ولأنهم يدافعون عن الهيكلية الموازية، فيطردون من أعمالهم، وهنا يحملون الحكومة مسؤولية فشلهم، ولهذا نراهم يكتبون في صفحات إلكترونية من الدرجة الثالثة».
ويشير كوجوك إلى أن الجميع يتحدث عن إنهاء عقود العمل مع صلاح الدين جينار ومصطفى أكيول اللذين كانا يعملان في جريدة «ستار»، موضحا أن «السبب في فسخ العقد مع صلاح الدين جينار أن هذا الشخص كان وما زال يدافع عما تقوم به جماعة فتح الله غولن من انقلابات وافتراءات وتشويه لسمعة الحكومة التركية المنتخبة بأغلبية عظمى في هذه البلاد. أما بالنسبة لمصطفى أكيول فهو أول من اتهم الجماعة قبل عدة سنوات بأنها دبرت مكيدة لمدير الأمن حنفي افجي وألقت به في السجن، ومع مرور الزمن ثبتت صحة كلامه، ولكن عندما بدأت الهيكلية الموازية بالتحرك للانقلاب على الشرعية كان مع والده أيضا من بين من أنكروا وجود هيكلية موازية رغم اكتشاف الدولة لهؤلاء واعتقال العشرات من رجال الأمن بتهمة التجسس والتخطيط للانقلاب». وقال «منذ عدة سنوات بدأت الصفوف تتضح في تركيا، وبما أنهم اختاروا الصف الآخر فإنهم يدفعون الثمن، ولكن أكرر وأقول بأن الحكومة لم تتدخل لإيقاف عمل صلاح الدين جينار ومصطفى أكيول»، معتبرا أن والد مصطفى أكيول، طه، هو من أكبر الإعلاميين في تركيا ويحاول اللعب على وتر عبد الله غل لشق صف «العدالة والتنمية»، لكنه باء بالفشل.
أما التغييرات التي شهدتها صحيفة «حرييت» فهي ليست بالمفاجئة، لأن الجريدة بقيادة أنيس بربر أوغلو عملت ما في وسعها لإنجاح الانقلاب على الشرعية في زمن رئيس التحرير السابق، وتطاول أحمد جوشكن ويلماز أوزديل وشتما رئيس الوزراء مباشرة وهما من أهم الكتاب في الجريدة، والسبب في هذا أن صاحب المجموعة الإعلامية أيدن دوغان كانت له دعوى أمام القضاء عام 2011 وبعد أن أصدرت جماعة فتح الله غولن قرارا لصالحه لأنها كانت تسيطر على القضاء، جلسوا للتفاوض معه، وعلى هذا الأساس قبل أن يعين أنيس بربر أوغلو رئيسا لتحرير الجريدة لأنه مقرب جدا من الجماعة، ومنذ ذلك الحين بدأت جريدة «حرييت» تلعب دور العدو للدولة والحكومة، لدرجة أن أحد الكتاب عنون مقالته بـ«رجل يستحق البصق في وجهه»، وهنا يعني رئيس الوزراء آنذاك إردوغان. التغييرات الآن في «حرييت» ليست لأن الحكومة تضغط، وإنما لأن الإدارة رأت أنها تمشي في الطريق الخطأ وتحاول أن تخفف حدة القتال مع الحكومة فقط لا غير، ولهذا أقيل بربر أوغلو من رئاسة التحرير، وعين مكانه سدات ارجين، وهذا قرار من أيدن دوغان نفسه.
أما بالنسبة للصحافيين المعتقلين فلا أحد منهم اعتقل نتيجة كتابته لرأي أو وجهه نظر معينة، وما أعرفه أن أغلبية المعتقلين من الصحافيين يتهمون بتهمة دعم ومؤازرة الإرهاب، وأتعجب أن مؤسسات الإعلام وحرية الصحافة العالمية تضع تركيا في قائمة الدول مثل العراق وكوريا الشمالية، وحسب رأيي فإنه يوجد مشروع دولي ضد حكومة إردوغان ومحاولة إظهارها بأنها حكومة قمعية تحارب حتى الصحافيين والإعلاميين.
في المقابل، يؤيد أكيول كوجوك أنه لا يوجد من بين الصحافيين المعتقلين من هو معتقل رأي، بل بسبب قضايا إرهاب. ويقول «إذا انتقدت إردوغان فأنت لن تعتقل، ولكن ستفقد عملك وتقف إلى جانب العاطلين من الإعلاميين». ويوضح أكيول أنه «ليس في كل الأحيان يكون طرد الصحافي بتدخل من الحكومة، ولكن بعض أصحاب المؤسسات الإعلامية يقومون بطرد غير الموالين للحكومة ليكسبوا رضاها».



كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام