اتهام السُّنَّة في لبنان بالتطرف... له غايات سياسية

عناصر من «جبهة النصرة» في الداخل السوري (الشرق الأوسط)
عناصر من «جبهة النصرة» في الداخل السوري (الشرق الأوسط)
TT

اتهام السُّنَّة في لبنان بالتطرف... له غايات سياسية

عناصر من «جبهة النصرة» في الداخل السوري (الشرق الأوسط)
عناصر من «جبهة النصرة» في الداخل السوري (الشرق الأوسط)

يرفض سُنة لبنان الاتهامات الموسمية لهم بالتطرف، ويصرون على أن إلصاق هذه الاتهامات بهم هو صنيعة مندسين وأجهزة تخدم أجندات واضحة الأهداف. ويعتبرون أن خلف هذه الأجندات جهات تعمل على ربط أي حادث أمني طابعه التطرف في لبنان بحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تستهدفهم وتتهمهم بـ«الداعشية»، كما حصل مع عملية طرابلس الإرهابية ليلة عيد الفطر، مطلع يونيو (حزيران) الماضي، والتي أدّت إلى استشهاد أربعة عسكريين من الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، على يد عبد الرحمن مبسوط الذي قضى خلال العملية.
يستنكر سُنة لبنان التمييز بين المجموعات التي ذهبت إلى سوريا لتقاتل إلى جانب النظام ولم يتعرض لأفرادها أيُّ جهاز أمني، وبين مَن التحقوا بجماعات مسلحة ضد النظام السوري ويتعرضون للملاحقة والسجن. وقد تحدث النائب ووزير العدل السابق سمير الجسر، عن هذا التمييز، وذكر أن مهندساً غادر إلى سوريا لبضعة أيام واكتشف أن الحرب هناك ليست لمصلحة الشعب السوري، وعندما عاد حُكم عليه بالسجن خمس سنوات.

مظلومية السُّنَّة اللبنانيين

ويوضح الشيخ صفوان الشعار، من دار الفتوى، أن «الإرهاب لا أصل له في الدين وقد أُلصق بالإسلام، وهو صنيعة عالمية وليس صناعة عربية خالصة، فإمكانات المنطقة العربية تقنياً وتمويلاً لا تسمح بصناعة الإرهاب بالشكل والمستوى والتجهيزات التي شهدناها. والحملات التي تطاول سُنة لبنان هي انحرافات لتشويه الإسلام، وهي لا تقتصر على لبنان، وتُشن لصالح سياسات مغرضة».
ويضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «لبنان بعيد عن التطرف، واللبنانيون بعيدون عن هذا المنتج الذي تموله سياسات خارجية لمصلحتها، بهدف بذر الخلاف والفتنة. والسُّنَّة في لبنان واعون لهذا المخطط، وهم في كل استحقاق يتضامنون مع المؤسسة الأمنية ويدعمون جهودها. والأمر ليس سهلاً لأن لبنان استراتيجي لبعض القوى الخارجية».
ويضيف الشعار: «نحن نشعر باستهداف للسُّنَّة ومحاولة شيطنتهم وتصويرهم على أنهم إرهابيون. ولا ننسى أنه بالتزامن مع (حادثة مبسوط)، خرجت مجموعة تضم عشرات المسلحين في البقاع مدججة بالسلاح ولم تحصل اعتقالات رغم إطلاق أفرادها النار على ثكنة للجيش، وتصويره كأنه هو المعتدي على السلم الأهلي. ولم تُتهم بيئة هذه المجموعة بالإرهاب، ولم تُشن الحملات الإعلامية ضدها. كذلك عندما اندلعت أحداث الجبل قبل أسبوع، لم يتم اتهام الدروز كلهم بأنهم إرهابيون. لماذا تنحصر الاتهامات فقط بالسُّنَّة؟ لكن رغم ذلك نحن نغلّب الحكمة والعقل ونسعى إلى عدم تكبير دائرة الانشقاق داخل المجتمع اللبناني ونسعى لوحدة اللبنانيين، لحرصنا على العيش المشترك كما نص عليه اتفاق الطائف، لإنهاء الحرب الأهلية. ونحن نلتزم به لأنه الطريق إلى المواطنة. بالتالي مَن يخرج عن (الطائف) يخرج عن العيش المشترك ويفتح باب الفتنة».
ويشدد الشعار على أن «مواجهة شيطنة السُّنَّة والتطرف على حد سواء تتطلب إقامة دولة العدالة والقانون والأمن، فالواضح أن الفوضى القائمة على الحدود اللبنانية والتسهيلات لرعاية حالات التطرف وعبور العتاد والمسلحين تطرح علامات استفهام عن مصالح مستفيدين أصحاب مشاريع مجهولة».
ويقول مسؤول أمني سابق إن «زرع التطرف في لبنان بدأ ببصمة مخابراتية تخدم النظام الأمني السوري - اللبناني، الذي وضع يده على لبنان خلال الحرب الأهلية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وتحديداً مع التوجه إلى ضرب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومنظمة التحرير الفلسطينية، من خلال اختراق المخيمات الفلسطينية وإنشاء خلايا إرهابية فيها مرعية من هذا النظام. حينها كانت الأرض خصبة مع تأسيس (القاعدة). ويقول أحد الذين عايشوا تلك المرحلة إن تقاطع مصالح بين النظام السوري ونظام الخميني والجماعات المتطرفة التابعة لـ(القاعدة) مهّد الظروف لظهور حالات تطرف لبنانية تأسست وإن لم تتوسع جماهيرياً، ليبقى الإرهاب مستورداً بقياداته، رغم وجود لبنانيين تم تجنيدهم، كما حصل في مخيم نهر البارد مع زعيم (فتح الإسلام) شاكر العبسي».
ويضيف المسؤول أن «العمل على توليد الإرهاب في لبنان نشط مع ارتفاع نسبة الفقر. وأسهم الخلاف السياسي في رعايته، فكان يتم التركيز على أصحاب الشخصيات المضطربة بسبب المعاناة المعيشية، فتتم دعوتهم إلى الصلاة جماعةً وترغيبهم بأن يتجمعوا في خلايا من خلال جمعيات تتلظى بالعمل الاجتماعي، فيتولاهم داعية ويشجعهم على التمرد على أهلهم، ومن ثمّ يبدأ تدريبهم على الجهاد، وإقناعهم بالقتال ضد الكفار. وغالبية هؤلاء أُصيبوا بخيبة. ومَن عاد منهم وجد أنه أصبح (مجاهداً سابقاً) منسياً وفقيراً معدماً ولا أحد يهتم به».

حملات إلكترونية لشيطنة السُّنَّة

وفي حين تنشط الحملات الإلكترونية لتصوير سُنة لبنان على أنهم «إرهابيون محتملون»، ما يفرض على الطوائف الأخرى البحث عمن يحميها منهم، يقول وزير الإعلام السابق والأستاذ الجامعي للإعلام ملحم رياشي، لـ«الشرق الأوسط» إن «أبلسة السُّنَّة في لبنان باءت بالفشل. هناك محاولات غير ناجحة وسرديات مبتذلة مكشوفة ومفضوحة. فقد أثبت السُّنَّة أنهم طائفة اعتدال وليست طائفة تطرف بالمعنى الإرهابي للكلمة، فهي ليست موجودة على هذا التقاطع، رغم وجود عناصر فالتة. لكن حرب سوريا برهنت على الاعتدال السُّني اللبناني، ففي حين وفد المئات من المقاتلين المتطرفين الفرنسيين والآلاف من تونس إلى سوريا، لم تُسجَّل إلا أعداد قليلة من السُّنَّة اللبنانيين الذين حاربوا في الداخل السوري».
أما المحامية مهى فتحة، عضو هيئة السجناء وأسرهم في دار الفتوى، فتقول لـ«الشرق الأوسط» إن «وصم السُّنَّة بالتطرف بدأ مع دعم المقاومة الفلسطينية وتمويلها من الدول العربية، وتحديداً الخليجية، ومع تعاطف المسلمين في لبنان وفي العالم العربي مع القضية الفلسطينية. وسعت الدولة الصهيونية منذ ذلك الحين إلى تصوير أي مقاومة على أنها إرهاب. ومع الخلافات وتطور الانقسامات في العالم العربي والإسلامي، كان هناك من يعمل على دمغ السُّنَّة بالإرهاب».
وتضيف المحامية فتحة: «في لبنان، ومنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتوجيه أصابع الاتهام إلى فريق بعينه، بدأت موجة ثانية من تصوير السُّنَّة على أنهم متطرفون لإضعافهم وإضعاف المحكمة الدولية. وحصل شرخ كبير في لبنان بين ما كان يسمى (8 آذار) و(14 آذار) على أساس طائفي. وبعد ذلك بدأت صناعة حركات متطرفة كـ(فتح الإسلام)، ومع الثورة في سوريا (جبهة النصرة) وتنظيم (داعش) وغيرهما. وكل مصادر التطرف محركها واحد مع تغيير في أسماء المنفذين. وهي صناعة صهيونية لا علاقة لها بالأديان، تدير دمى متحركة. كما أن السجون اللبنانية تسهم في صناعة الإرهاب بسبب القمع وسوء الإدارة وعدم التأهيل. وما يجري في السجون يؤدي إلى ردود فعل ورغبة في الانتقام، لا سيما عندما يُسجن أبرياء ويتعرضون لسوء المعاملة، وما إن يخرجوا حتى ينضموا إلى صفوف المتطرفين».

الإرهاب لم يجد في لبنان بيئة حاضنة

أما الإعلامي رياض طوق، المتخصص في قضايا الإرهاب والشؤون الأمنية، فيشير إلى أن «جهود المنظمات الإرهابية كـ(جبهة النصرة) أصيبت بإحباط، وتحديداً في طرابلس، لأن جهودها لم تثمر ولم تجد بيئة حاضنة لمشروعها بين أبناء المدينة، واعتبرت أن سُنة لبنان غير جديرين بالقتال وتخلت بالتالي عن بناء جو سياسي خاص بها في لبنان».
ويضيف أن «المتطرفين حصلوا على فرصتهم لتجنيد لبنانيين بعد حرب عرسال عام 2014، عندما أصبح لتنظيم (داعش) و(جبهة النصرة) مراكز قيادة في جرود عرسال ورأس بعلبك، ما سهّل تواصلهم مع الداخل اللبناني، ولم يعد ضرورياً السفر إلى تركيا ومنها إلى الرقة لمن يريد الالتحاق بأحد هذين التنظيمين. فالموقع الجغرافي سهّل التجنيد والتزود بالعبوات والأحزمة الناسفة. لكن بعد عملية فجر الجرود وسيطرة الجيش على هذه المناطق وطرد الإرهابيين منها تغيَّر الوضع».
ويوضح: «السبب في انحسار المد المتطرف يعود أيضاً إلى الأمن الوقائي، فالأجهزة الأمنية تلقت دعماً لوجيستياً ومالياً أوروبياً وأميركياً للتعامل مع أخطار الإرهاب وضرب الإرهابيين. وحصل تنافس بين هذه الأجهزة للإقبال على التدريب والقيام بعمليات نوعية استباقية فاقت النشاط الأمني الاستباقي في كثير من الدول المتقدمة. وما ساعدها في ذلك حرية العمل من دون ضوابط والقدرة على توقيف المشتبه بهم للحصول على المعلومات».
ويشير طوق إلى أن «ما سهل عمل الأجهزة هو التفاهم السياسي الذي بدأ مع حكومة الرئيس تمام سلام عام 2014 وتولي وزيرين من السُّنَّة هما نهاد المشنوق وزارة الداخلية، واللواء أشرف ريفي وزارة العدل، بالإضافة إلى قيام شعبة المعلومات المحسوبة من حصة السُّنَّة بأهم عمليات رصد الإرهابيين والقبض عليهم، ما طمأن سُنة لبنان وأمّن الغطاء المطلوب لمكافحة الإرهاب من دون أن يعيق عملها التجاذب الطائفي. أما الحملات على السُّنَّة واتهامهم بالإرهاب، فهي حملات سياسية تُستخدم لتصفية الحسابات. وعندما يسود التوافق تغيب هذه الحملات وتعود السُّنَّة طائفة اعتدال».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟