أعلنت موسكو وأنقرة في وقت متزامن تقريباً، أمس، عن وصول الدفعة الأولى من مكونات المنظومات الصاروخية الروسية المتطورة من طراز «إس - 400» إلى تركيا، في تطور حسم الجدل حول مصير الصفقة التي أثارت سجالات كثيرة وغضباً لدى واشنطن وعزز مخاوف حلف شمال الأطلسي (ناتو). وأعربت أوساط روسية عن ارتياح لـ«خطوة واسعة تجاه تعزيز التعاون الروسي - التركي» وسط ترقب لرد الفعل الأميركي المحتمل، وتوقعات بأن تفرض واشنطن عقوبات جديدة على الطرفين.
ونقلت وسائل إعلام تركية تفاصيل عن بدء عملية تسليم المنظومات الصاروخية، وبثت شريط فيديو يكشف وصول ثلاث طائرات شحن روسية تابعة لوزارة الدفاع نقلت جزءاً من مكونات البطاريات إلى قاعدة «أكنيجي» في أنقرة. وأكدت وزارة الدفاع التركية، صباح أمس، بدء عملية التسليم، وبرز التأكيد الروسي من جانب الهيئة الفيدرالية الروسية للتعاون العسكري، وهي المؤسسة المسؤولة عن العقود العسكرية مع البلدان الأجنبية، وأفادت في بيان مقتضب بأن «تنفيذ العقد يمضي وفقاً للاتفاقات الموقعة بين الطرفين»، علماً بأن مصادر عسكرية روسية كانت أعلنت في وقت سابق أن تنفيذ العقد سوف يبدأ صيف هذا العام، وأن روسيا سوف تستكمل تزويد تركيا بالصواريخ قبل نهاية العام.
كانت موسكو وأنقرة وقعتا في عام 2017 الصفقة التي بلغت قيمتها نحو مليارين ونصف المليار دولار، ونصت على تزويد تركيا بأربع بطاريات للمنظومة الصاروخية الحديثة. ولم يكن الطريق نحو إبرام الصفقة سهلاً في روسيا، إذ برزت سجالات حادة داخل صفوف المؤسسة العسكرية، وأثارت انقساماً في الرأي بين فريقين، رأى أولهما أن تزويد بلد عضو في حلف الأطلسي بأحدث منظومة صاروخية دفاعية «يُعدّ مغامرة» بسبب احتمال كشف الحلف الغربي تقنيات سرية للسلاح الروسي، وشكك هذا الفريق بقدرة «التحالف الروسي - التركي» على الصمود، في إشارة إلى عدم ثقة جزء من المنظومة العسكرية الروسية بأن أنقرة «لن تنقلب في وقت لاحق على روسيا حرصاً على علاقاتها مع واشنطن».
في حين دافع الفريق الثاني عن الصفقة بقوة، ورأى فيها فرصة مهمة لتعزيز الشرخ داخل حلف شمال الأطلسي، وبين أنقرة وواشنطن، فضلاً عن أنها مع عدد من المشروعات الاستراتيجية الكبرى، مثل بناء مفاعلات نووية للاستخدام السلمي في تركيا، ومد أنابيب نقل النفط الروسي إلى أوروبا، من شأنها أن تعزز علاقات وثيقة تقوم على المنفعة المتبادلة بين روسيا وتركيا.
ومع هذه السجالات، برز نقاش حول رغبة تركيا في أن يشتمل العقد بين الطرفين على شق يسمح لأنقرة بالانخراط في تجميع مكونات الصواريخ ما يسمح لها بالاطلاع بصفة أقرب على تقنيات عسكرية روسية، كما تطرقت السجالات إلى الشق المالي، إذ أعلنت أنقرة عن حاجتها للحصول على قرض روسي لتغطية نفقات الصفقة. وحسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجدل بين الفريقين، صيف العام الماضي، بإعلان موقفه الداعم لإتمام الصفقة، وتبع ذلك إعلان وزارة المال الروسية عن تقديم قرض إلى تركيا بنصف قيمتها.
فيما تمت تسوية مسألة نقل التقنيات الصناعية لتركيب الصواريخ بتأكيد أن أنقرة لن تشارك في العملية وأنها ستقوم فقط بشراء الصواريخ. وخلال الشهور الأخيرة، خاض عسكريون أتراك دورات تدريبية في روسيا لإدارة وتوجيه المنظومات الصاروخية من الانخراط بعملية تجميعها.
وفي مقابل السجالات التي دارت في روسيا، واجهت واشنطن نيات تنفيذ العقد بالتلويح بتدابير قوية ضد أنقرة، بينها إلغاء صفقة لتزويد تركيا بمقاتلات من طراز «إف - 35» فضلاً عن إجراءات عقابية أخرى. كما حذر حلف شمال الأطلسي من خطورة التطور، ورأى خبراء عسكريون غربيون أن الرادارات المتطورة للمنظومات الصاروخية الروسية ستكون قادرة على كشف تحركات المقاتلات الغربية في أجواء حوض المتوسط، ما يشكل خطراً عليها. وبرز تشكيك بقدرة أنقرة على دمج هذه المنظومات الصاروخية بترسانتها العسكرية التي تعتمد كلياً على السلاح الغربي.
وسارع الحلف الغربي إلى الإعلان عن قلقه، أمس، فيما برزت تكهنات بتدابير أميركية للرد على الخطوة. وتوقعت أوساط روسية أن تشمل الإجراءات الأميركية فرض عقوبات على شركات سلاح في روسيا وتركيا، في تكرار لرزمة عقوبات فرضتها واشنطن في وقت سابق على شركات روسية وصينية وقعت عقوداً عسكرية. ورأى خبراء عسكريون روس أن تنفيذ الصفقة من شأنه أن يؤسس لـ«معادلات جديدة» في المنطقة، لأنه يضع أساساً لأوسع تعاون عسكري «استراتيجي» بين روسيا ودولة عضو في حلف الأطلسي، ويعزز تطلعات روسيا لتثبيت مواقعها حلقةَ وصلٍ أساسيةً بين أطراف «محور إقليمي» تحتاج إليه بقوة في إطار توسيع سياستها وحضورها في منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط.
ومع استكمال تنفيذ العقد، ستكون تركيا البلد الأول خارج الفضاء السوفياتي السابق الذي يحصل على هذا السلاح المتطور، والثالث عالمياً الذي ينشر هذه الصواريخ على أراضيه، بعد روسيا وجارتها بيلاروسيا التي تمتلك حالياً منصتي إطلاق لصواريخ «إس - 400» تم نشرهما على الحدود الغربية في إطار تعزيز دفاعات روسيا وحليفتها الأقرب في وجه توسع حلف الأطلسي شرقاً. وهذا الأمر يعكس جانباً دلالات الإصرار الروسي على استكمال تنفيذ الصفقة مع تركيا. وكانت الصين وقَّعت في عام 2015 عقداً مع روسيا لشراء أنظمة مماثلة، وتم في بداية العام الحالي إرسال الجزء الأول منها بطريق البحر، لكنها تضررت بقوة بسبب إعصار بحري، ما أسفر عن إعادتها إلى روسيا وتدميرها لاحقاً، ما يعني أن تركيا سبقت الصين، الحليف الأكبر لروسيا، في تسلُّم المنظومة الصاروخية. ودخلت منظومة «إس - 400» الخدمة العملية في الجيش الروسي عام 2007، وتم الكشف عنها لأول مرة علناً في عام 2012. وهي تشكل حالياً العمود الفقري لمظلة الدفاع الجوية داخل روسيا، إذ نشرت موسكو 27 فوجاً منها في موسكو وسان بطرسبورغ، وعلى طول الحدود الغربية والشرقية، فضلاً عن أنها نشرت منصات «إس 400»، في شبه جزيرة القرم بعد ضمها في عام 2014.
وفي سوريا، حيث تشكل العنصر الأساسي في حماية قاعدة «حميميم». ومنظومة «إس - 400» مخصصة لمواجهة الطائرات الاستراتيجية والتكتيكية والصواريخ الباليستية، وغيرها من وسائل الهجوم الجوي، في ظروف عمل منظومات تشويش إلكترونية وبمقدور المنظومة تدمير الأهداف الطائرة على مدى 400 كلم والأهداف الباليستية المحلقة على ارتفاعات تتراوح بين عدة أمتار وعشرات الكيلومترات.
كما تدمر طائرات التحكم، والاستطلاع، والطائرات الاستراتيجية والتكتيكية والصواريخ الباليستية ومجمعات الصواريخ الباليستية التشغيلية التكتيكية، والأهداف التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. وتتكون الكتيبة الواحدة المشغلة لأنظمة «إس - 400»، من قيادة عمليات محمولة واحد على الأقل، و8 منصات قاذفة و32 صاروخاً.
وهي قادرة على التحكم وإطلاق صواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى في الوقت ذاته، وتستطيع الكشف عن الأهداف الموجودة على بعد 600 كيلومتر، فيما تبلغ سرعة صواريخها 4.8 كيلومتر في الثانية. وتضع المصادر العسكرية بين ميزاتها القدرة على تشغيل النظام إذا كان خارجاً عن الخدمة في غضون دقائق، كما أنه يستجيب للتعامل مع الأهداف في أقل من 10 ثوانٍ.
الصفقة تثير سجالات روسية وغضباً لدى واشنطن وتعزز مخاوف «ناتو»
الصفقة تثير سجالات روسية وغضباً لدى واشنطن وتعزز مخاوف «ناتو»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة