محمد ولد الغزواني...رئيس موريتانيا الهادئ

«رجل الظل» يتقدم إلى الواجهة

محمد ولد الغزواني...رئيس موريتانيا الهادئ
TT

محمد ولد الغزواني...رئيس موريتانيا الهادئ

محمد ولد الغزواني...رئيس موريتانيا الهادئ

قبل أسبوعين، وقف الرئيس الموريتاني المنتهية ولايته محمد ولد عبد العزيز أمام عشرات الآلاف من أنصاره في العاصمة نواكشوط، طلب منهم التصويت لصديقه محمد ولد الغزواني، ووصفه بـ«رئيس موريتانيا المقبل». وكان ولد الغزواني يقف إلى جواره ينظر إلى الأرض محتفظاً بهدوئه المعهود، حتى لكأن الحديث ليس عنه ولا يعنيه، وبالفعل صوّت الموريتانيون لصالح الرجل وانتخب رئيساً للبلاد.
لقد سبق أن وقف محمد ولد عبد العزيز وصديقه محمد ولد الغزواني وقفات أخرى كثيرة غيّرت مجرى التاريخ السياسي الحديث لموريتانيا، وتركت أثرها القوي خلال العقدين الأخيرين. أولى هذه الوقفات جاءت عندما أطاحا معاً عام 2005، في انقلاب عسكري أبيض، بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع الذي حكم البلاد لأكثر من عشرين سنة (1984 - 2005)، ثم عندما وقفا خلف انتخاب الرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عام 2007، مغلقين الباب أمام انتخاب زعيم المعارضة التاريخي أحمد ولد داداه.
إلا أن الرجلين سرعان ما اصطدما بالرئيس الذي اختاراه واجهة مدنية لإدارة البلاد، فوقفا خلف أزمة بين الرئيس وغالبيته البرلمانية انتهت بانقلاب عسكري أبيض جديد عام 2008، توصلا بعده إلى قناعة راسخة بصعوبة إدارة البلاد من وراء ستار، وأنه لا بد أن يتوليا الحكم بشكل مباشر.
استقال ولد عبد العزيز من الجيش عام 2009، وترشح للانتخابات الرئاسية ليحكم البلاد طيلة عشر سنوات، مع نهايتها كان صديقه ولد الغزواني يتلقى رسالة تقاعده من الجيش، فأعلن ترشحه للرئاسيات الأخيرة. وها هو الآن يفوز بها ويصبح رئيساً للبلاد، خلفاً لصديقه.
لقد بدا واضحاً أن الأمور تسير كما خطط لها الرجلان قبل قرابة عقدين من الزمن، وربما قبل ذلك، فالرجلان جلسا معاً على مقاعد الدراسة في الأكاديمية الملكية العسكرية بمدينة مكناس المغربية، أواخر سبعينات القرن الماضي.

«رجل الظل»
وطيلة المسار العسكري والسياسي الذي جمع الرجلين، كان ولد عبد العزيز «رجل الأضواء»، بينما فضل ولد الغزواني أن يكون «رجل الظل»، محيطاً نفسه بهالة من الغموض والسرّية التامة. وهو مَن تولى مهام عسكرية كثيرة شديدة الحساسية، كقيادة المخابرات العسكرية والأمن الوطني، وختمها بسنوات من قيادة أركان الجيوش خاض فيها معركة شرسة ضد الإرهاب.
أما بعد التقاعد ودخول معترك السياسة، فها هو الرجل يدخل دائرة الضوء، بشكل تدريجي وبحذر شديد، لكنه لا يزال وفياً لعاداته في السرية والكتمان، رغم تصدره للمشهد السياسي وتربّعه على عرش القرار في البلاد.

خلفية شخصية وعائلية
يتحدر ولد الغزواني من مدينة بومديد، وهي مدينة يغلب عليها الطابع الريفي، تقع وسط البلاد، وتنتصب بجوارها هضبة تكانت وكتلها الصخرية السوداء الهائلة التي تتحول مع كل فصل خريف إلى شلالات لا تتوقف لعدة أشهر... وفي المقابل تقع هذه المدينة عند بوابة المجابات الكبرى الممتدة نحو الشرق الموريتاني لتتصل بالصحراء الكبرى.
وهكذا كانت بومديد مكاناً مناسباً للانعزال، في ظل وعورة الطرق المؤدية إليها وانقطاعها شبه التام عن العالم.
هذه الصفات هي التي دفعت أجداد ولد الغزواني إلى تأسيس المدينة قبل أكثر من قرن من الزمن، فجعلوا منها مركزاً لطريقة صوفية مبنية على الزهد والتجرّد من متاع الدنيا، حظيت بسمعة واسعة في موريتانيا وخارجها.

مشيخة ونفوذ
في هذه الأجواء وُلد محمد ولد الغزواني عام 1956، أي قبل الاستقلال بأربع سنوات فقط، كان له أربعة إخوة غير أشقاء يكبرونه، وأخت واحدة هي شقيقته. وكان والده الشيخ محمد ولد الشيخ الغزواني هو خليفة جده، الذي كان صاحب النفوذ الروحي والسياسي والاجتماعي.
وبالتالي، تربّى ولد الغزواني في بيت مشيخة ونفوذ، واحتكّ خلال طفولته بالأمراء وشيوخ القبائل والعلماء، لا سيما أن بيت والده ما كان يخلو من ضيف قادم من أحد أطراف موريتانيا. لكن الطفل الصغير الذي فتح عينيه في هذا البيت الميسور، بدأ حياته بالتوجّه إلى الكتاتيب، حيث حفظ القرآن الكريم ودرس بعض متون اللغة العربية والسيرة النبوية والفقه، إذ كان مستقبل من هو في موقعه ومكانته الاجتماعية معروفاً سلفاً، وهو المتحدر من أسرة علم وتصوف.
كان الطفل يكبر، والدولة الموريتانية الفتية تحاول الوقوف على قدميها، وتدفع حكومة الرئيس المؤسس المختار ولد داداه أعيان المجتمعات وشيوخ القبائل نحو تدريس أبنائهم في «المدارس العصرية»، وكان والده يتنقل بين المدن الموريتانية ويلتقي بالمسؤولين الإداريين في الدولة الفتية، يحدثونه عن مستقبل البلد وأهمية التعليم العصري، والآفاق التي يمكن أن يفتحها أمام المنخرطين فيه. ويومذاك قرر أن ابنه محمد سيتجه إلى هذه المدارس، بعدما استوفى القدر الكافي من «المحظرة التقليدية». كان ذلك القرار غير مألوف وغير مستساغ في مجتمعه المحافظ والتقليدي، لكنه غيّر أقدار الطفل الذي وُلِد بين الهضاب والمجابات الكبرى.
درس ولد الغزواني في كثير من المدن الموريتانية، من كيفه، بوسط البلاد، إلى كيهيدي وروصو في أقصى الجنوب على ضفاف نهر السنغال، ووصولاً إلى العاصمة نواكشوط على ضفاف المحيط الأطلسي. وفي كل محطة كان يحتك بأطفال ومراهقين آتين من مختلف مناطق موريتانيا.
كان في البداية يلفت الانتباه باسمه الطويل، محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني، غير أنه فيما بعد تحوّل إلى ذلك الطالب الذي ينظر إليه الجميع باحترام كبير. ويقول رئيس البرلمان الموريتاني الشيخ ولد بايه، وهو عقيد سابق في الجيش الموريتاني: «لقد درست معه الثانوية، في روصو ونواكشوط، خلال الفترة من 1973 إلى 1976. وهو الوحيد من بيننا الذي كان يحترمه الجميع. لم تكن لديه أي مشاكل مع أي أحد، وبعدما دخلنا الجيش، كانت علاقته طيبة مع الجميع».

هادئ جداً... وصارم
ولد الغزواني، وهو متزوج من طبيبة أسنان، ولديه خمسة أبناء، ثلاثة منهم من زوجتين سابقتين، يصفه المقرّبون منه بأنه هادئ جداً، إلا أنه يخفي وراء هدوءه قدراً كبيراً من الصرامة والجدية، ثم إنه يصغي أكثر مما يتكلّم، كما أنه مثقف وأديب، ويتحدث لغة عربية رصينة، ولديه ثقافة فرانكفونية محترمة.
انخرط ولد الغزواني في صفوف الجيش الموريتاني «متطوعاً»، شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1978، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من أول انقلاب عسكري تشهده البلاد أطاح بنظام الرئيس المؤسس المختار ولد داداه. وكان الجيش حينها منهكاً بسبب حرب الصحراء والضربات الموجعة التي تلقاها من جبهة «البوليساريو»، التي كان مقاتلوها على أبواب العاصمة نواكشوط.
أسقط الجيش نظام ولد داداه، وأعلن الانسحاب من الحرب، وظهر قادة الانقلاب كالأبطال الذين أنقذوا البلد المهدد بالانهيار. ظهروا وهم يرتدون زيهم العسكري المُزركش يلوحون بعلامات النصر وسط المتظاهرين الفرحين في شوارع العاصمة نواكشوط... إنه مشهد علق في أذهان كثير من الشباب الموريتانيين خلال تلك الفترة، ودفع كثيرين منهم للانخراط في صفوف الجيش، ربما يكون من بينهم ولد الغزواني الذي قاد بعد قرابة ثلاثة عقود انقلابين عسكريين.
وبعد انضمامه إلى الجيش، توجه إلى المغرب حيث تلقى تكويناً عسكرياً في الأكاديمية الملكية العسكرية بمكناس ليتخرج فيها ضابطاً، رفقة صديقه محمد ولد عبد العزيز وضباط آخرين كانوا شركاء في انقلابي 2005 و2008، من أبرزهم الجنرال حننا ولد سيدي، الذي يتولى حالياً قيادة القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل الخمس.
حصل ولد الغزواني على شهادة البكالوريوس في الدراسات القانونية، ثم الماجستير في العلوم الإدارية والعسكرية، وتلقى دراسات وتدريبات عسكرية عليا في الأردن، وتدرّج في المناصب والرتب العسكرية حتى رقّي عام 2008 إلى رتبة جنرال في الجيش الموريتاني رفقة صديقه ولد عبد العزيز، كما سبق أن تولى قيادة المخابرات العسكرية عام 2004، وإدارة الأمن الوطني عام 2005، في عام 2008 أصبح قائد الأركان الوطنية، وفي عام 2013 أصبح قائد الأركان العامة للجيوش وهو المنصب الذي استمر فيه حتى تقاعده نهاية العام الماضي (2018).
خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2012 أصيب ولد عبد العزيز بطلق ناري في البطن، بسبب خطأ من ضابط شاب اشتبه في سيارته التي كانت تمرّ بجوار قاعدة عسكرية شمال البلاد، نُقل الرئيس على جناح السرعة إلى العاصمة الفرنسية لتلقي العلاج. في حينه بقيت البلاد في قبضة ولد الغزواني لذي رفض مطالب البعض بإعلان شغور منصب رئيس الجمهورية وتجاهل عروضاً تغريه بالانقلاب على صديقه «الجريح»، الذي استغرق علاجه 45 يوماً.
ومنذ تولى ولد الغزواني قيادة الأركان الوطنية عام 2008، وهو يمسك بملف «الحرب على الإرهاب»، فنجح في إصلاح المؤسسة العسكرية، وأعاد هيكلة الجيش الموريتاني، وضاعف من تسليحه، وخاض حرباً شرسة ضد تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الذي كان مقاتلوه يشنون هجماتهم في أحياء العاصمة نواكشوط... إلا أن استراتيجية الرجل الأمنية أوقفت هذه الهجمات منذ عام 2011.

انتقادات ووعود
ولئن كان ولد الغزواني قد نجح في كبح جماح الخطر الإرهابي، فإنه واجه العديد من الانتقادات، خصوصاً فيما يتعلق بترقيات العسكريين التي قيل إنه كان يمارس فيها المحسوبية والزبونية، وأن بعض الضباط تعرض للظلم. كذلك انتقد أيضاً لفشل استراتيجيته في الحد من الجريمة التي ارتفعت بشكل مخيف خلال السنوات الماضية، وأصبحت بعض أحياء العاصمة نواكشوط، خارج نطاق التغطية الأمنية وتسيطر عليها عصابات السطو والنهب، ووقعت عمليات سطو مسلح في وضح النهار على البنوك والمحلات التجارية.
مع هذا، رفع ولد الغزواني ورقة الأمن والتنمية خلال حملته الانتخابية الأخيرة، وقدّم جملة من التعهدات التي قال إنه سيحققها خلال خمس سنوات مقبلة، من أبرزها الحد من الفقر ومكافحة الفساد والعدالة في توزيع الثروة، وتسوية ملفات حقوق الإنسان، مؤكداً أنه سيعمل على «إنصاف» مَن وصفهم بـ«الفئات المغبونة»، بيد أن الوعد الأكبر الذي قدمه هو شق قناة تربط نهر السنغال بمدينة ألاك، لمسافة تزيد على 50 كيلومتراً. هذا مشروع يتطلب إمكانيات كبيرة وتقف في وجهه عراقيل سياسية ودبلوماسية قد تؤثر على العلاقات مع دول الجوار، خصوصاً السنغال ومالي، لكن الرجل يراهن على المشروع للحد من الفقر والبطالة، إذ تعهد في السياق نفسه بإنعاش قطاع الزراعة، من خلال استصلاح 5 آلاف هكتار سنوياً لصالح الفئات الأكثر فقراً، وتشجيع القطاع الخاص على استصلاح ألفي هكتار سنوياً على ضفاف النهر.
وعود كثيرة وكبيرة أطلقها الرجل في حملته الانتخابية، ولكن هذه الوعود لم تحجب حقيقة أنه يرث بلداً مثقلاً بالمشاكل، من انتشار البطالة وتدهور التعليم وضعف القطاع الصحي، وصولاً إلى أزمة اجتماعية وعرقية تهدد الأمن في البلد الهش، ما يجعل مهمة الرجل صعبة ومعقدة.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.