قبل أسبوعين، وقف الرئيس الموريتاني المنتهية ولايته محمد ولد عبد العزيز أمام عشرات الآلاف من أنصاره في العاصمة نواكشوط، طلب منهم التصويت لصديقه محمد ولد الغزواني، ووصفه بـ«رئيس موريتانيا المقبل». وكان ولد الغزواني يقف إلى جواره ينظر إلى الأرض محتفظاً بهدوئه المعهود، حتى لكأن الحديث ليس عنه ولا يعنيه، وبالفعل صوّت الموريتانيون لصالح الرجل وانتخب رئيساً للبلاد.
لقد سبق أن وقف محمد ولد عبد العزيز وصديقه محمد ولد الغزواني وقفات أخرى كثيرة غيّرت مجرى التاريخ السياسي الحديث لموريتانيا، وتركت أثرها القوي خلال العقدين الأخيرين. أولى هذه الوقفات جاءت عندما أطاحا معاً عام 2005، في انقلاب عسكري أبيض، بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع الذي حكم البلاد لأكثر من عشرين سنة (1984 - 2005)، ثم عندما وقفا خلف انتخاب الرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عام 2007، مغلقين الباب أمام انتخاب زعيم المعارضة التاريخي أحمد ولد داداه.
إلا أن الرجلين سرعان ما اصطدما بالرئيس الذي اختاراه واجهة مدنية لإدارة البلاد، فوقفا خلف أزمة بين الرئيس وغالبيته البرلمانية انتهت بانقلاب عسكري أبيض جديد عام 2008، توصلا بعده إلى قناعة راسخة بصعوبة إدارة البلاد من وراء ستار، وأنه لا بد أن يتوليا الحكم بشكل مباشر.
استقال ولد عبد العزيز من الجيش عام 2009، وترشح للانتخابات الرئاسية ليحكم البلاد طيلة عشر سنوات، مع نهايتها كان صديقه ولد الغزواني يتلقى رسالة تقاعده من الجيش، فأعلن ترشحه للرئاسيات الأخيرة. وها هو الآن يفوز بها ويصبح رئيساً للبلاد، خلفاً لصديقه.
لقد بدا واضحاً أن الأمور تسير كما خطط لها الرجلان قبل قرابة عقدين من الزمن، وربما قبل ذلك، فالرجلان جلسا معاً على مقاعد الدراسة في الأكاديمية الملكية العسكرية بمدينة مكناس المغربية، أواخر سبعينات القرن الماضي.
«رجل الظل»
وطيلة المسار العسكري والسياسي الذي جمع الرجلين، كان ولد عبد العزيز «رجل الأضواء»، بينما فضل ولد الغزواني أن يكون «رجل الظل»، محيطاً نفسه بهالة من الغموض والسرّية التامة. وهو مَن تولى مهام عسكرية كثيرة شديدة الحساسية، كقيادة المخابرات العسكرية والأمن الوطني، وختمها بسنوات من قيادة أركان الجيوش خاض فيها معركة شرسة ضد الإرهاب.
أما بعد التقاعد ودخول معترك السياسة، فها هو الرجل يدخل دائرة الضوء، بشكل تدريجي وبحذر شديد، لكنه لا يزال وفياً لعاداته في السرية والكتمان، رغم تصدره للمشهد السياسي وتربّعه على عرش القرار في البلاد.
خلفية شخصية وعائلية
يتحدر ولد الغزواني من مدينة بومديد، وهي مدينة يغلب عليها الطابع الريفي، تقع وسط البلاد، وتنتصب بجوارها هضبة تكانت وكتلها الصخرية السوداء الهائلة التي تتحول مع كل فصل خريف إلى شلالات لا تتوقف لعدة أشهر... وفي المقابل تقع هذه المدينة عند بوابة المجابات الكبرى الممتدة نحو الشرق الموريتاني لتتصل بالصحراء الكبرى.
وهكذا كانت بومديد مكاناً مناسباً للانعزال، في ظل وعورة الطرق المؤدية إليها وانقطاعها شبه التام عن العالم.
هذه الصفات هي التي دفعت أجداد ولد الغزواني إلى تأسيس المدينة قبل أكثر من قرن من الزمن، فجعلوا منها مركزاً لطريقة صوفية مبنية على الزهد والتجرّد من متاع الدنيا، حظيت بسمعة واسعة في موريتانيا وخارجها.
مشيخة ونفوذ
في هذه الأجواء وُلد محمد ولد الغزواني عام 1956، أي قبل الاستقلال بأربع سنوات فقط، كان له أربعة إخوة غير أشقاء يكبرونه، وأخت واحدة هي شقيقته. وكان والده الشيخ محمد ولد الشيخ الغزواني هو خليفة جده، الذي كان صاحب النفوذ الروحي والسياسي والاجتماعي.
وبالتالي، تربّى ولد الغزواني في بيت مشيخة ونفوذ، واحتكّ خلال طفولته بالأمراء وشيوخ القبائل والعلماء، لا سيما أن بيت والده ما كان يخلو من ضيف قادم من أحد أطراف موريتانيا. لكن الطفل الصغير الذي فتح عينيه في هذا البيت الميسور، بدأ حياته بالتوجّه إلى الكتاتيب، حيث حفظ القرآن الكريم ودرس بعض متون اللغة العربية والسيرة النبوية والفقه، إذ كان مستقبل من هو في موقعه ومكانته الاجتماعية معروفاً سلفاً، وهو المتحدر من أسرة علم وتصوف.
كان الطفل يكبر، والدولة الموريتانية الفتية تحاول الوقوف على قدميها، وتدفع حكومة الرئيس المؤسس المختار ولد داداه أعيان المجتمعات وشيوخ القبائل نحو تدريس أبنائهم في «المدارس العصرية»، وكان والده يتنقل بين المدن الموريتانية ويلتقي بالمسؤولين الإداريين في الدولة الفتية، يحدثونه عن مستقبل البلد وأهمية التعليم العصري، والآفاق التي يمكن أن يفتحها أمام المنخرطين فيه. ويومذاك قرر أن ابنه محمد سيتجه إلى هذه المدارس، بعدما استوفى القدر الكافي من «المحظرة التقليدية». كان ذلك القرار غير مألوف وغير مستساغ في مجتمعه المحافظ والتقليدي، لكنه غيّر أقدار الطفل الذي وُلِد بين الهضاب والمجابات الكبرى.
درس ولد الغزواني في كثير من المدن الموريتانية، من كيفه، بوسط البلاد، إلى كيهيدي وروصو في أقصى الجنوب على ضفاف نهر السنغال، ووصولاً إلى العاصمة نواكشوط على ضفاف المحيط الأطلسي. وفي كل محطة كان يحتك بأطفال ومراهقين آتين من مختلف مناطق موريتانيا.
كان في البداية يلفت الانتباه باسمه الطويل، محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني، غير أنه فيما بعد تحوّل إلى ذلك الطالب الذي ينظر إليه الجميع باحترام كبير. ويقول رئيس البرلمان الموريتاني الشيخ ولد بايه، وهو عقيد سابق في الجيش الموريتاني: «لقد درست معه الثانوية، في روصو ونواكشوط، خلال الفترة من 1973 إلى 1976. وهو الوحيد من بيننا الذي كان يحترمه الجميع. لم تكن لديه أي مشاكل مع أي أحد، وبعدما دخلنا الجيش، كانت علاقته طيبة مع الجميع».
هادئ جداً... وصارم
ولد الغزواني، وهو متزوج من طبيبة أسنان، ولديه خمسة أبناء، ثلاثة منهم من زوجتين سابقتين، يصفه المقرّبون منه بأنه هادئ جداً، إلا أنه يخفي وراء هدوءه قدراً كبيراً من الصرامة والجدية، ثم إنه يصغي أكثر مما يتكلّم، كما أنه مثقف وأديب، ويتحدث لغة عربية رصينة، ولديه ثقافة فرانكفونية محترمة.
انخرط ولد الغزواني في صفوف الجيش الموريتاني «متطوعاً»، شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1978، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من أول انقلاب عسكري تشهده البلاد أطاح بنظام الرئيس المؤسس المختار ولد داداه. وكان الجيش حينها منهكاً بسبب حرب الصحراء والضربات الموجعة التي تلقاها من جبهة «البوليساريو»، التي كان مقاتلوها على أبواب العاصمة نواكشوط.
أسقط الجيش نظام ولد داداه، وأعلن الانسحاب من الحرب، وظهر قادة الانقلاب كالأبطال الذين أنقذوا البلد المهدد بالانهيار. ظهروا وهم يرتدون زيهم العسكري المُزركش يلوحون بعلامات النصر وسط المتظاهرين الفرحين في شوارع العاصمة نواكشوط... إنه مشهد علق في أذهان كثير من الشباب الموريتانيين خلال تلك الفترة، ودفع كثيرين منهم للانخراط في صفوف الجيش، ربما يكون من بينهم ولد الغزواني الذي قاد بعد قرابة ثلاثة عقود انقلابين عسكريين.
وبعد انضمامه إلى الجيش، توجه إلى المغرب حيث تلقى تكويناً عسكرياً في الأكاديمية الملكية العسكرية بمكناس ليتخرج فيها ضابطاً، رفقة صديقه محمد ولد عبد العزيز وضباط آخرين كانوا شركاء في انقلابي 2005 و2008، من أبرزهم الجنرال حننا ولد سيدي، الذي يتولى حالياً قيادة القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل الخمس.
حصل ولد الغزواني على شهادة البكالوريوس في الدراسات القانونية، ثم الماجستير في العلوم الإدارية والعسكرية، وتلقى دراسات وتدريبات عسكرية عليا في الأردن، وتدرّج في المناصب والرتب العسكرية حتى رقّي عام 2008 إلى رتبة جنرال في الجيش الموريتاني رفقة صديقه ولد عبد العزيز، كما سبق أن تولى قيادة المخابرات العسكرية عام 2004، وإدارة الأمن الوطني عام 2005، في عام 2008 أصبح قائد الأركان الوطنية، وفي عام 2013 أصبح قائد الأركان العامة للجيوش وهو المنصب الذي استمر فيه حتى تقاعده نهاية العام الماضي (2018).
خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2012 أصيب ولد عبد العزيز بطلق ناري في البطن، بسبب خطأ من ضابط شاب اشتبه في سيارته التي كانت تمرّ بجوار قاعدة عسكرية شمال البلاد، نُقل الرئيس على جناح السرعة إلى العاصمة الفرنسية لتلقي العلاج. في حينه بقيت البلاد في قبضة ولد الغزواني لذي رفض مطالب البعض بإعلان شغور منصب رئيس الجمهورية وتجاهل عروضاً تغريه بالانقلاب على صديقه «الجريح»، الذي استغرق علاجه 45 يوماً.
ومنذ تولى ولد الغزواني قيادة الأركان الوطنية عام 2008، وهو يمسك بملف «الحرب على الإرهاب»، فنجح في إصلاح المؤسسة العسكرية، وأعاد هيكلة الجيش الموريتاني، وضاعف من تسليحه، وخاض حرباً شرسة ضد تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الذي كان مقاتلوه يشنون هجماتهم في أحياء العاصمة نواكشوط... إلا أن استراتيجية الرجل الأمنية أوقفت هذه الهجمات منذ عام 2011.
انتقادات ووعود
ولئن كان ولد الغزواني قد نجح في كبح جماح الخطر الإرهابي، فإنه واجه العديد من الانتقادات، خصوصاً فيما يتعلق بترقيات العسكريين التي قيل إنه كان يمارس فيها المحسوبية والزبونية، وأن بعض الضباط تعرض للظلم. كذلك انتقد أيضاً لفشل استراتيجيته في الحد من الجريمة التي ارتفعت بشكل مخيف خلال السنوات الماضية، وأصبحت بعض أحياء العاصمة نواكشوط، خارج نطاق التغطية الأمنية وتسيطر عليها عصابات السطو والنهب، ووقعت عمليات سطو مسلح في وضح النهار على البنوك والمحلات التجارية.
مع هذا، رفع ولد الغزواني ورقة الأمن والتنمية خلال حملته الانتخابية الأخيرة، وقدّم جملة من التعهدات التي قال إنه سيحققها خلال خمس سنوات مقبلة، من أبرزها الحد من الفقر ومكافحة الفساد والعدالة في توزيع الثروة، وتسوية ملفات حقوق الإنسان، مؤكداً أنه سيعمل على «إنصاف» مَن وصفهم بـ«الفئات المغبونة»، بيد أن الوعد الأكبر الذي قدمه هو شق قناة تربط نهر السنغال بمدينة ألاك، لمسافة تزيد على 50 كيلومتراً. هذا مشروع يتطلب إمكانيات كبيرة وتقف في وجهه عراقيل سياسية ودبلوماسية قد تؤثر على العلاقات مع دول الجوار، خصوصاً السنغال ومالي، لكن الرجل يراهن على المشروع للحد من الفقر والبطالة، إذ تعهد في السياق نفسه بإنعاش قطاع الزراعة، من خلال استصلاح 5 آلاف هكتار سنوياً لصالح الفئات الأكثر فقراً، وتشجيع القطاع الخاص على استصلاح ألفي هكتار سنوياً على ضفاف النهر.
وعود كثيرة وكبيرة أطلقها الرجل في حملته الانتخابية، ولكن هذه الوعود لم تحجب حقيقة أنه يرث بلداً مثقلاً بالمشاكل، من انتشار البطالة وتدهور التعليم وضعف القطاع الصحي، وصولاً إلى أزمة اجتماعية وعرقية تهدد الأمن في البلد الهش، ما يجعل مهمة الرجل صعبة ومعقدة.