توارث السلطة ديمقراطياً... على الطريقة اليونانية

بعد فوز اليمين المحافظ بقيادة ميتسوتاكيس «الابن» في الانتخابات العامة

توارث السلطة ديمقراطياً... على الطريقة اليونانية
TT

توارث السلطة ديمقراطياً... على الطريقة اليونانية

توارث السلطة ديمقراطياً... على الطريقة اليونانية

ما أتى فوز زعيم المعارضة المحافظة كيرياكوس ميتسوتاكيس برئاسة الوزراء في اليونان بمحض المصادفة، بل هو أقرب إلى عودة البلاد إلى توارث العائلات السياسية الثلاث الأبرز السلطة «ديمقراطياً»، ذلك أنه تناوبت على حكم بلاد الإغريق لعقود ثلاث عائلات بارزة فينيزيلوس - ميتسوتاكيس وكارامنليس وباباندريو.
العائلات الثلاث هيمنت على مقاليد الحكم في اليونان عبر صناديق الاقتراع. ويقول المراقبون بأن فترة أربع سنوات ونصف السنة كانت كافية لأخذ اليونان بعيداً عن حكم العائلات، إذ استيقظ الشعب اليوناني بداية عام 2015 على اعتلاء اليساريين الراديكاليين، بزعامة الشاب المهندس أليكسيس تسيبراس (41 سنة) ليغدو أصغر رئيس وزراء للبلاد. وهذا بجانب كونه ابن عائلة متوسطة بعيدة عن العائلات التي ذكرناها. غير أن الأمور لم تسر تماماً كما اشتهى تسيبراس وحزبه «سيريزا» (التحالف اليساري)، وعاد الناخبون للمراهنة على المحافظين عندما صوتوا بغالبية مطلقة لفرد آخر من أعرق العائلات السياسية اليونانية.
تمخّضت نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت 7 يوليو (تموز) 2019 عمّا كان متوقعاً منذ فترة غير قصيرة، باستثناء هزيمة أقصى اليمين. ذلك أن استطلاعات الرأي رجّحت فوز حزب «الديمقراطية الجديدة» بزعامة كيرياكوس ميتسوتاكيس (51 سنة). وبالفعل، فاز بفارق يزيد عن 8 نقاط مئوية، وبسرعة شكّل زعيم الحزب الفائز حكومته الجديدة، التي تقلدت مهامها فوراً بعد الإعلان عن تشكيلها.
النتيجة كانت ضربة موجعة لـ«سيريزا» اليساري الراديكالي بقيادة رئيس الوزراء السابق تسيبراس الذي حاز على 86 مقعداً في البرلمان من أصل 300 مقعد، مقابل حصول «الديمقراطية الجديدة» على 158 مقعداً. ولقد حلّت «حركة التغيير» (تحالف «باسوك الاشتراكي» مع حركة «كيديسو» الديمقراطيين الاشتراكيين) بزعامة فوفي جينيماتا في المركز الثالث محققا 22 مقعداً، ثم الحزب الشيوعي بقيادة ديميتريس كوتسوباس 15 مقعدا، فـ«الحل اليوناني» (اليمين القومي) بزعامة الصحافي كيرياكوس فولوبولوس 10 مقاعد، وحزب «اليوم 25» (اليسار) بزعامة يانيس فاروفاكيس وزير المالية الأسبق 9 مقاعد. وكان لافتاً جداً خروج حزب «الفجر الذهبي» (اليمين المتطرف) من البرلمان، وعجزه عن الحصول على نسبة 3 في المائة المطلوبة للتمثيل البرلماني، رغم أنه كان ثالث حزب في البرلمان لعدة دورات سابقة، وأيضا دخول حزبين جديدين هما حزب «اليوم 25» وحزب «الحل اليوناني».

ليس أفضل الخيارات
لم يكن ميتسوتاكيس أفضل الخيارات المتاحة أمام الناخبين، وفق تقارير إعلامية محلية، لكن سياسات التقشف الصارمة التي واصل سلفه اليساري تسيبراس تبنيها، مُخلفاً وعوداً بإلغائها، شكلت منعطفاً حاسما في المسار السياسي للرجلين. فاليونانيون الذين أحبطهم إخلاف تسيبراس بتعهداته، وأرهقتهم السياسات التقشفية أتت على مقدرتهم الشرائية، واستدعت دعماً ماليا من دول في الاتحاد الأوروبي في 3 مناسبات، أرادوا معاقبة رئيس الوزراء السابق عبر التصويت لصالح ميتسوتاكيس. بمعنى آخر ربما جاء اختيار الناخب لحزب «الديمقراطية الجديدة» ليس حباً فيه بقدر ما هو رفض لحزب «سيريزا».
كيرياكوس ميتسوتاكيس، من جهته، بدا مدركا تماماً دوافع الناخبين، فلعب على هذا الوتر متعهداً خلال حملته بإلغاء التقشف، وإنعاش الاقتصاد بما يوفر فرص عمل، ويزيد من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ومن منطلق إدراكه أن تحدّره من عائلة عريقة قد يمنح المجال للتشكيك في كفاءته بالمنصب، دأب على تكرار القول «احكموا علي من خلال سيرتي الذاتية وليس اسمي»، كما تعهد بألا يعيّن أي فرد من عائلته في حكومته، مدافعاً عن الكفاءة كمعيار للتعيينات.
لقد تجوّل كيرياكوس في الشوارع واختلط بالمواطنين، واقترب من مشاغلهم. وهكذا ملأ الفجوة التي أحدثها سلفه، ومسح أي انطباع سلبي سابق عنه، فامتدت أيادي الناخبين تدون اسمه بصناديق الاقتراع، لتفوضه بتقلد منصب يأملون في أن يكون بداية لنقطة تغيير حقيقي بأوضاعهم. وبالنهاية حصل على غالبية لم يحظ بها أي حزب سياسي في اليونان لأكثر من عشر سنوات مضت.
في المقابل، لعل أهم الأسباب وراء هزيمة تسيبراس، رغم الإنجازات التي حققها خلال السنوات الماضية، هي نفسها تلك الإنجازات نفسها. ذلك أن الإنجاز الأول الذي حققه تسيبراس هو العمل بجدية وإخراج البلاد من الأزمة المالية. لكنه كي يتمكن من ذلك، أقرّ إجراءات تقشفية صارمة... وقادت سياسات حكومته إلى التضييق على الطبقة الوسطى، فتعاملت معها باعتبارها من طبقة الأغنياء وحمّلتها أعباءً تسببت في إفقارها. وهو ما أغضب قطاعاً واسعاً من الشعب سرعان ما أدار ظهره لتسيبراس.
أما الإنجاز الثاني، فهو التوقيع على اتفاقية «بريسبا» لحل الخلاف المزمن (نحو ثلاثين سنة) بين اليونان وجارتها الشمالية مقدونيا حول مسألة اسم «مقدونيا». فلقد أدى هذا التطوّر إلى اعتبار نسبة لا بأس بها من اليونانيين تسيبراس وقادة حزبه «خونة»، لأن قطاعاً كبيراً من الشعب رفض بعناد أن تضمن اسم الدولة الجارة كلمة «مقدونيا» التي يصرون على أنه اسم تراثي يخص الشعب اليوناني وحده.
مع هذا، رغم هزيمة حزب «سيريزا» (أو ائتلاف اليسار)، فإنه استطاع أن يحافظ على نسبة جيدة تزيد عن 30 في المائة، ما يتيح له قيادة معارضة شديدة وفعالة داخل البرلمان، تجعل منه العامل الحاسم الذي سيقف بحزم أمام الحزب الحاكم.

أزمة داخل «سيريزا»
في سياق متصل، ثمة معلومات تفيد بوجود تململ داخل «سيريزا» وانتقادات صارمة لقيادة الحزب المتمثلة في تسيبراس بعد الهزيمة. والآن هناك مخاوف داخل الحزب من إعادة تركيبه وربما تغيير الاسم ومفاصل كثيرة فيه، فيتحول إلى حزب رئاسي تحت هيمنة مطلقة من تسيبراس. ثم هناك أيضاً استياء كبير في أوساط النواب السابقين الذين خسروا مقاعدهم خلال المعركة الانتخابية.
ولا شك، وتعني هزيمة «سيريزا» الكثير، وتعطي العديد من المؤشرات حول مستقبل اليونان ومستقبل أوروبا بشكل عام. ففي البداية كان كثيرون من يساريي اليونان وأوروبا مؤمنين بأن هناك طريقاً بديلاً ممكناً لمقاومة الرأسمالية. وكان «سيريزا» وقتها يحمل آيديولوجيا اليسار الراديكالي ويطرح خطاباً ضد «إذلال» اليونان بسبب ديونها من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد. لكن بعد أربع سنوات بهتت صورة الحزب البراقة، وبات مثالاً لما يحدث حينما يتخلى الراديكاليون عن راديكاليتهم، ويعترف تسيبراس بهذا. ويبرّره بأنه تخلى عن أفكاره في مقابل إنقاذ اليونان، ولو أنه دفع الثمن غاليا.
من الجانب الآخر، على رأس «الديمقراطية الجديدة» استعاد اليمين المحافظ الحكم في اليونان بزعامة كيرياكوس ميتسوتاكيس، رجل الأعمال الذي تعهد بأن أولوياته «إنهاض» اليونان وإحياء الاقتصاد بعد مرحلة مؤلمة عاشتها البلاد خلال عهد حكومة اليسار الراديكالي. ولقد وعد ميتسوتاكيس بتأمين وظائف «أفضل» من خلال النمو والاستثمار الأجنبي والاقتطاعات الضريبية وتذليل العقبات أمام الشركات ومجتمع الأعمال.
وحقاً، بعدما عاشت اليونان أزمة مالية طاحنة منذ عام 2010 احتاجت معها لدعم مالي من شركائها بالاتحاد الأوروبي ثلاث مرات، يتطلع ميتسوتاكيس إلى أن يعيد الازدهار للشعب بجعل الحياة أفضل من خلال فتح آفاق جديدة تساهم في تحقيق النمو وإعادة 400 ألف مهاجر إلى حضن اليونان. ولكن على رئيس الوزراء الجديد التحرك بسرعة لمعالجة مجموعة كبيرة من المشكلات الاقتصادية العالقة. ذلك أنه في حين يتوقع المستثمرون من ميتسوتاكيس إثبات أن سمعته الصديقة للأعمال ستدعم النمو، يرى مراقبون أنه سيحتاج إلى الوفاء بتعهداته لمعالجة القضايا الشائكة، بما في ذلك المالية الحكومية والقروض المتعثرة والبيروقراطية في ظل القيود المالية المشدّدة التي وضعها الدائنون على البلاد.
من جهة ثانية، مع أن ميتسوتاكيس ورث اقتصاداً في حالة تحسّن، وارتفاعاً في البورصة، ينبغي عليه ضمان أن تتمكن اليونان من جذب الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها، وخلق فرص عمل في وقت تتخلص من أزمة مالية استمرت أكثر من عقد من الزمن وأثرت على مستويات المعيشة. وكل هذا يأتي ذلك في الوقت الذي أكد ميتسوتاكيس «أن عبء المسؤولية ثقيل لكنني على وعي تام بالوضع في البلاد». وبالفعل، يخطط رئيس الوزراء الجديد، لسن تشريع سريع للتخفيضات الضريبية التي ستدخل حيز التنفيذ اعتباراً من عام 2020 لتحفيز النشاط الاقتصادي وإظهار المستثمرين أن اليونان تخلق بيئة أكثر أماناً للمستثمرين. ويبقى أن نرى كيف سيكون رد فعل الدائنين، بالنظر إلى أنهم يريدون حماية الإنجازات التي تحققت حتى الآن بشأن الأهداف المالية.
كذلك يسعى رئيس الوزراء الجديد إلى مضاعفة معدل النمو في اليونان إلى 4 في المائة عام 2020. ومن أجل تحقيق ذلك يحتاج إلى الاستثمارات، لإقناع المستثمرين أنه بإمكانهم الوثوق بالبلد مرة أخرى. ولذلك يرغب في المضي قدماً بالمشروع الاستثماري «إلينيكو» في أرض مطار أثينا السابق الذي طال انتظاره. إلا أن هذا لن يكون كافيا، إذ سيتوجب على الحكومة الجديدة التعامل مع الروتين والنظام القضائي البطيء والفساد، وكذلك تسريع عمليات الخصخصة، خاصة في قطاع الطاقة.
وأيضاً يسعى ميتسوتاكيس للسيطرة على مشاكل شركة الكهرباء العامة المسؤولة عن توليد ثلثي الطاقة، وإمداد كل البلاد تقريبا بالكهرباء، بعدما تساءل مدققو الحسابات في أبريل (نيسان) الماضي عن قدرة الشركة الحكومية على مواصلة عملياتها إثر خسارتها التي تجاوزت 500 مليون يورو خلال العام الماضي 2018. وللعلم، أعلن رئيس الوزراء اليوناني الجديد في أول اجتماع لحكومته عن خطط إصلاحات واسعة النطاق، وسلم الوزراء ملفات تتضمن المطلوب منهم خلال الفترة المقبلة. إذ قال ميتسوتاكيس في أول اجتماع لحكومته «نحن مستعدون للعمل الجاد ولقد بدأنا العمل بالفعل»، معلنا عن خطط لتنفيذ إصلاحات واسعة النطاق تشمل رقمنة أجهزة الدولة وخفض الضرائب لدفع عجلة الاقتصاد وتعزيز النمو وتوفير فرص العمل وإعادة الكرامة للشعب اليوناني الذي عانى سنوات طويلة تحت وطأة تدابير التقشف جراء الأزمة المالية. ثم أضاف – أمام أعضاء مجلس الوزراء - بعد يوم من أداء اليمين الدستورية وبعد ثلاثة أيام من كسب الانتخابات، أنه يريد أن تجذب الإصلاحات استثمارات وتزيد النمو الاقتصادي والتوظيف، لتحسن في النهاية جودة الحياة التي تدهورت خلال العقد الذي شهد الأزمة. وبحسب خطة رئيس الوزراء، يجب أن تقنع الإصلاحات الدائنين الدوليين بقبول شروط أقل شدة لسداد الديون الملتزمة بها أثينا.

رئيس الوزراء الجديد في سطور
> كيرياكوس ميتسوتاكيس، ولد في 4 مارس (آذار) عام 1968 في أثينا، وهو متزوج وأب لثلاثة أطفال، وهو نجل قسطنطين ميتسوتاكيس رئيس وزراء اليونان الأسبق من عام 1990 حتى عام 1993. كما أن شقيقته الكبرى هي دورا باكوياني وزيرة الخارجية السابقة وعمدة أثينا، وهو أيضا خال عمدة أثينا الجديد كوستاس باكويانيس (ابن دورا).
أنهى تعليمه الثانوي في «كلية أثينا» عام 1986 وهي مدرسة أميركية – يونانية خاصة راقية يدرس فيها أبناء النخبة في اليونان. ثم اتجه إلى الولايات المتحدة حيث درس السياسة والعلوم الاقتصادية وتخرّج ببكالوريوس آداب في الدراسات الاجتماعية من جامعة هارفارد عام 1990. ثم حاز على الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة ستانفورد عام 1993، ثم عاد إلى هارفارد وحصل منها على درجة الماجستير في إدارة الأعمال عام 1995.
انتخب كيرياكوس ميتسوتاكيس رئيسا لحزب الديمقراطية الجديدة في الجولة الثانية في الانتخابات الحزبية يوم 10 يناير (كانون الثاني) 2016. وتولى حقيبة وزارة الإصلاح الإداري والحكومة الإلكترونية بين عامي 2013 و2015 في حكومة أندونيس ساماراس. وهو نائب عن الدائرة البرلمانية الثانية للعاصمة أثينا منذ عام 2004. وأعيد انتخابه في فبراير (شباط) 2015 للمرة الخامسة على التوالي بأربعة أضعاف الأصوات التي حاز عليها في الانتخابات الوطنية في مايو (أيار) 2012.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.