«استراتيجية الاستنزاف»... عمليات شكلية لـ«خلايا داعش»

عبر التخفي وزرع العبوات الناسفة والهجمات الخاطفة

عناصر «داعش» (من أحد المواقع التابعة للتنظيم)
عناصر «داعش» (من أحد المواقع التابعة للتنظيم)
TT

«استراتيجية الاستنزاف»... عمليات شكلية لـ«خلايا داعش»

عناصر «داعش» (من أحد المواقع التابعة للتنظيم)
عناصر «داعش» (من أحد المواقع التابعة للتنظيم)

هزائم «داعش» الإرهابي، هل ستدفعه لـ«استراتيجية الاستنزاف» كرهان على العمليات الخاطفة؟ سؤال ما زال يطرحه المشهد مع ازدياد تهاوي أركان التنظيم. فملامح الإجابة عن هذا التساؤل بدأت تظهر في أعقاب ما أعلنته مؤسسة «البتار» الإعلامية التابعة للتنظيم، عن انطلاق ما يعرف بـ«غزوات الاستنزاف» في الأول من يونيو (حزيران) الجاري، وهو ما يعد ترجمة لحديث أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش»، الأخير، حينما دعا عناصره عبر شبكة «الفرقان» لمواصلة القتال، وإضعاف الدول، عبر استنزاف قواتها الأمنية.
واعتبر مراقبون أن تحريض البغدادي بداية مرحلة تحول جديدة في التنظيم، ترتكز على منهجية «الخلايا النائمة»، يتصدر مشهدها «الذئاب المنفردة»، بعيداً عن الوجود الميداني على الأرض.
مختصون وباحثون مصريون أكدوا أن «هزائم التنظيم سوف تدفعه إلى (ضربات خاطفة) قد تكون غير مؤثرة؛ لكنها ستؤكد أنه موجود». وقال الباحثون والمختصون لـ«الشرق الأوسط»، إن «(استراتيجية الاستنزاف) تشبه استراتيجية (النكاية والإنهاك) التي نفذها التنظيم من قبل خلال فترات نفوذه، معتمداً على الهجمات الخاطفة»، لافتين إلى أن «التنظيم يُحاول الانتشار في ساحات أخرى جديدة، ليس فقط لتنفيذ عمليات إرهابية؛ بل لتجنيد مُقاتلين جُدد، وهو الأمر الذي دفعه إلى (حرب العصابات) المتعددة الأشكال».
ما قاله المختصون اتسق مع دراسة لـ«مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة»، التابع لدار الإفتاء المصرية، حذرت من أن «(داعش) لجأ في الآونة الأخيرة إلى استراتيجية تسمى (غزوات الاستنزاف)». وقالت إن التنظيم بات عاجزاً، مما أدى إلى دخوله في مرحلة من الارتباك وعدم القدرة على التماسك، وهو الأمر الذي دفعه لتبني «استراتيجية الاستنزاف»؛ خصوصاً في مواجهة القوات الأمنية للدول.

حيل قديمة

وذكرت دراسة «الإفتاء» التي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، أن «داعش» نفذ هجومي العريش المصرية ودرنة الليبية بالاعتماد على هذه الاستراتيجية؛ حيث استهدف القوات الأمنية، بالإضافة إلى الهجمات الأخرى التي ضربت مواقع عسكرية في سوريا والعراق.
وتبنى «داعش» مطلع يونيو الجاري، هجوماً استهدف حاجزاً أمنياً تابعاً لقوات الشرطة في مصر، يُعرف باسم حاجز (14 بطل) في العريش بسيناء، ما أسفر عن مقتل 8 أفراد من الشرطة، تبع ذلك مقتل أكثر من 27 من منفذي الهجوم الإرهابي. كما أعلن التنظيم مطلع هذا الشهر أيضاً مسؤوليته عن تفجير سيارتين ملغومتين في وحدة عسكرية تابعة لقوات الجيش الوطني الليبي في درنة، ما أدى إلى إصابة 18 شخصاً.
وأوضحت دراسة «الإفتاء» أن استراتيجية «غزوات الاستنزاف» ليست بجديدة، فقد سبق للتنظيم اتباعها تحت اسم «النكاية والإنهاك» في المناطق التي لا يستطيع التنظيم أن يُسيطر فيها على الأرض بشكل كامل، نظراً لوجود قوات مُسلحة قوية وقادرة على إلحاق الهزيمة بعناصره. فعوضاً عن السيطرة على الأرض، يقوم التنظيم بعمليات متنوعة باستهداف قطاعات مختلفة على مساحات واسعة، معتمداً على أسلوب الهجمات الخاطفة، والاختفاء في الصحراء؛ الأمر الذي يُنهك قوى الجيوش والدول التي تتعرض لتلك الأساليب.
وتعتمد استراتيجية «غزوات الاستنزاف» لدى التنظيم، بحسب الدراسة المصرية، على عدة وسائل، أهمها، تسلل «الانتحاريين» بين صفوف القوات النظامية، وزرع العبوات الناسفة على الطرق وبالقرب من المناطق المستهدفة، فضلاً عن الهجمات الخاطفة على نقاط أمنية محددة، ثم الانسحاب والتخفي بين المدنيين، أو في الظهير الصحراوي والجبلي، لافتة إلى أنه «يقوم بتلك الأعمال (خلايا عنقودية) صغيرة يرأسها أحد عناصر التنظيم، ويكون على اتصال مباشر بقادة التنظيم، لتحديد الأهداف المتوقعة والطرق الملائمة للهجوم عليها».

تجنيد عناصر

وأضافت دراسة مرصد «الإفتاء»، أن «جزءاً من تطبيق استراتيجية (غزوات الاستنزاف) يقوم على أساس التشتيت، من خلال تنفيذ عمليات شكلية على مواقع متعددة، في حين يقوم الفريق الأكبر بالهجوم على الموقع المُستهدف، وهو ما أفصح عنه التنظيم في صحيفته الناطقة باسمه (النبأ)، وهو تكتيك يكشف خطورة (الخلايا النائمة)».
وقال الدكتور إبراهيم نجم، مدير «مرصد دار الإفتاء» في مصر، إن «(داعش) عمل على استراتيجية الانسحاب الممنهج من أماكن مُعينة لصالح مُحاولة التمدد في مناطق أخرى، وتبنى أنماطاً جديدة من الأساليب الإرهابية، ويسعى للانتشار في مساحات أخرى، ليس فقط لتنفيذ عمليات إرهابية؛ بل لتجنيد مُقاتلين جُدد، وهو الأمر الذي دفعه إلى أساليب (حرب العصابات) المتعددة الأشكال، والتي من بينها (استنزاف الجيوش)، ويطلق عليها (غزوات الاستنزاف)».
في حين أكد باحثون في دار الإفتاء، أنه من المعروف أن «داعش» والتنظيمات الأخرى التي على إطاره الفكري نفسه تمتلك أساليب «حرب العصابات»، وهذا النمط يُستخدم كمحاولة للتصدي للعمليات العسكرية والقدرات العالية التي تمتلكها الجيوش، خصوصاً أنه يقوم على أساليب وعمليات خاطفة تعتمد على سرعة الكر والفر.
ويرى المراقبون أن تبني استراتيجية «غزوات الاستنزاف» تقوم على مقولة مفادها أن «الجيوش إذا انتشرت فقدت الفاعلية، وإذا تمركزت فقدت السيطرة»، ولذلك تقوم التنظيمات الموالية لـ«داعش» بإنهاك الجيوش والقوات الأمنية بضربات متلاحقة بغرض التشتيت.
وعن سمات استراتيجية «غزوات الاستنزاف»، قال نجم: «تعتبر هي محور العمل بالنسبة للتنظيم؛ حيث تجمع ذلك عبر استخدام مزيج من العمليات والأساليب الإرهابية، وتقوم على المشاغلة؛ إذ تعتمد على الهجوم على مواقع عسكرية أقل أهمية في وقت واحد، بهدف إشغال القوات الأمنية عن الهدف الأساسي للهجوم، وهو ما أشارت إليه صحيفة (النبأ)، وهو تكتيك يكشف خطورة (الانتحاريين)».

دستور الإنهاك

وجدير بالذكر أن «داعش» روج لتلك الآلية في كتاب «إدارة التوحش» لأبو بكر ناجي، أحد أبرز مرجعيات التنظيم، إذ تناول الكتاب هذا الجزء تحت اسم «النكاية والإرهاب»، والتي تقوم على أساس إدخال الجيوش في معركة استنزاف طويلة المدى، عبر أساليب كالاغتيالات، وزرع المتفجرات، والعميات الانتحارية، وغيرها.
ويوضح كتاب «إدارة التوحش» في فصله السابع، بحسب المؤلف، أنه «في مرحلة شوكة (النكاية والإنهاك) نحتاج لاستقطاب الشباب، وأفضل وسيلة هي العمليات المبررة شرعاً وعقلاً... وأعلى درجات التبرير هو تبرير العملية نفسها بنفسها».
وقال خالد الزعفراني، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية في مصر، إن «(داعش) سوف يُعيد ما أخذه من كتاب (إدارة التوحش)، وهو بث الرعب في الطرف الآخر، وإحياء دستور إنهاك العالم، عبر ضربات خاطفة، قد تكون غير مؤثرة عالمياً؛ لكنها سوف تُعزز لدى عناصره أنه موجود»، مؤكداً أن «(النكاية والإنهاك) تعتمد على توسيع ساحة الصراع وفتح بؤر جديدة، وتحويل أنظار التحالفات الدولية الموجهة ضده إلى أماكن مختلفة من العالم، وسبق أن نفذ التنظيم كثيراً من العمليات في عدد من الدول العربية والأفريقية والأوروبية والآسيوية، وبشكل متزامن».
من جهته، قال نجم: «ازداد في الآونة الأخيرة الحديث عن انتشار (خلايا نائمة) تابعة للتنظيم في سوريا والعراق وليبيا ومناطق أخرى حول العالم، وخصوصاً تلك التي تشهد صراعات. ويرجع السبب في ذلك إلى أن التنظيم يرى في (خلاياه النائمة) أنها ستكون نقطة انطلاق نحو تنفيذ عمليات إرهابية جديدة. فقد عمل التنظيم على تقسيم عناصره إلى مجموعات قتالية تنتشر في القرى والمدن، وفقاً لطريقة قيادة غير مركزية، يكون على كل مجموعة قيادة تتولى التعليمات والتخطيط، وفقاً لقواعد متفق عليها لتنفيذ عمليات إرهابية محددة الأهداف».
وفي مايو (أيار) الماضي، نشرت صحيفة «النبأ» أساليب «الحرب غير النظامية» التي يستهدف التنظيم عبرها توسيع نطاق نشاطه. وقال مراقبون إن الصحيفة شجعت أتباع التنظيم على تبني طرق خاصة بـ«الحروب غير النظامية»، ونشرت تعليمات تفصيلية حول كيفية تنفيذ العمليات.
وأكد أحمد زغلول، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية بمصر، أن «(حرب العصابات) تحقق للتنظيم رصيد أنه موجود على أرض الواقع، فهي تحدث خلال فترة زمنية قصيرة، وتُسهل على التنظيم أن يُنفذ تفجيرات أو خطفاً أو هجمات على الأكمنة الأمنية، وغيرها من العمليات الخاطفة التي تستهدف الدول».
وقال الباحثون في «الإفتاء»: «من المُرجح أن (داعش) سيخوض معارك طويلة الأمد بالاعتماد على هذه الاستراتيجية، وغيرها من الاستراتيجيات، كـ(خلايا التماسيح)، و(حرب إسقاط المدن) التي هي جزء أساسي من استراتيجية (غزوات الاستنزاف)... فالتنظيم عبر هذه الاستراتيجية استغل الأحداث التي تمر بها ليبيا في شن حروب ضد مواقع عسكرية ومدن في الجنوب، يتبع كل هذه العمليات تغطيات إعلامية في مواقعه، لرفع معنويات عناصره و(خلاياه النائمة)».
وحول أساليب مواجهة استراتيجية «داعش»، قال الدكتور إبراهيم نجم، إن التصدي لهذه الاستراتيجية، وما يُمكن أن يفعله التنظيم من تكتيكات جديدة، يكون بدراسة الخطط المستقبلية لـ«داعش» وعلاقاتها بالآيديولوجية الفكرية للتنظيم، فالتنظيم عادة ما ينشر أفكاره أولاً، ثم يجند الأشخاص، ويرشدهم بعد ذلك نحو العمليات الإرهابية، سواء انتحارية أو ضد أهداف بعينها، أو عمليات عشوائية، مضيفاً: «فضلاً عن ضرورة تكثيف العمليات المعلوماتية للتخلص من (الخلايا النائمة) التي تعتبر هي الركيزة الأساسية في استراتيجية (غزوات الاستنزاف) التي يعتمد عليها التنظيم، فلا تزال بعض خلاياه منتشرة في دول عدة كان قد ضربها التنظيم، ومن الواضح أنه سيعتمد عليها في شن عملياته الإرهابية، وهو ما يُمكن قراءته من حديث البغدادي الأخير، الذي ازدادت بعده عمليات استهداف قوات الأمن في الدول. وأيضاً قد ينتقل التنظيم للاعتماد على أساليب تنظيم (القاعدة) الهجومية، خصوصاً أن هناك جزءاً من عناصر التنظيم، كانوا على انتماء فكري لـ(القاعدة)، وعلى دراية بأساليبه الإرهابية».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.