مصر تلوح بمقاضاة دار «كريستيز» بعد بيعها تمثالاً لـ«توت عنخ آمون»

مصر تلوح بمقاضاة دار «كريستيز» بعد بيعها تمثالاً لـ«توت عنخ آمون»
TT

مصر تلوح بمقاضاة دار «كريستيز» بعد بيعها تمثالاً لـ«توت عنخ آمون»

مصر تلوح بمقاضاة دار «كريستيز» بعد بيعها تمثالاً لـ«توت عنخ آمون»

تعقد وزارة الآثار المصرية اجتماعاً طارئاً، يوم الاثنين المقبل، للجنة القومية للآثار المستردة، لبحث الإجراءات القانونية التي يمكن اتخاذها في أعقاب بيع قطع آثار مصرية بدار «كريستيز» للمزادات بلندن، يومي 3 و4 يوليو (تموز) الجاري، من بينها تمثال رأسي للإله آمون على هيئة الملك توت عنخ آمون، تم بيعه بـ4.746.250 جنيه إسترليني.
وفور إعلان «كريستيز» عن بيع تمثال توت عنخ آمون الذي طالبت مصر بوقف بيعه طوال الشهر الماضي، دعا الدكتور خالد العناني، وزير الآثار المصري، إلى اجتماع طارئ للجنة القومية ‏للآثار المستردة، برئاسته، وبحضور الدكتور زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق، وقيادات من وزارات الخارجية، والداخلية، والعدل، والنيابة العامة، وهيئة قضايا الدولة، والجهات الأمنية، والرقابية، والسيادية ‏بالدولة، لبحث الإجراءات القانونية التي يمكن اتخاذها في أعقاب إتمام عملية البيع، والجهود الدبلوماسية لاسترداد القطع الأثرية المبيعة. وحول هذا الاجتماع المرتقب، قال الدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «سنركز على سبل متابعة القضية، ولن نتركها، وسنلاحق الجميع عن طريق (اليونيسكو)، ولن يكون مشتري التمثال المنسوب لتوت عنخ آمون، وغيره من القطع المصرية، بمأمن، فما بني على باطل فهو باطل»، مشيراً إلى أن «دار (كريستيز) للمزادات ضربت عرض الحائط بكل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية».
وحول الإجراءات القانونية التي يمكن اتخاذها ضد «كريستيز» بعد إتمام بيع التمثال، قال وزيري إن «هذا الأمر متروك للجنة القومية للآثار المستردة، وسيتم الاتفاق عليه في الاجتماع». بينما قال الدكتور زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق، لـ«الشرق الأوسط»، وهو عضو في اللجنة، إن «الحل الوحيد المتاح الآن هو العثور على محامي مصري في لندن، أو شخص يتكفل بمصاريف مقاضاة دار (كريستيز) للمزادات أمام القضاء البريطاني»، وأضاف: «بالتأكيد سنجد هذا الشخص».
بدأت الأزمة أوائل يونيو (حزيران) الماضي، عندما أعلنت دار «كريستيز» للمزادات عن نيتها بيع تمثال رأسي من حجر الكوارتزيت للإله آمون، على هيئة الملك توت عنخ آمون، لتصدر مصر ممثلة بوزارة الآثار المصرية بياناً يوم 5 يونيو الماضي، تطالب فيه بوقف بيع التمثال، وإرسال كافة المستندات والوثائق التي تثبت ملكية التمثال، وكيفية خروجه من مصر، ونتيجة لعدم استجابة «كريستيز»، صعدت مصر إجراءاتها وأصدرت وزارتا الخارجية والآثار بياناً مشتركاً للمطالبة بوقف بيع التمثال، وعدد 31 قطعة أثرية مصرية أخرى معروضة للبيع، وإعادة جميع القطع إلى مصر، وأرسلت خطابات رسمية بهذا الشأن لوزارة الخارجية البريطانية، ومنظمة اليونيسكو، وتوالى التصعيد ليصل إلى إرسال مساعدة قضائية إلى لندن لبحث الأمر، لكن دار «كريستيز» واصلت إجراءات البيع، مؤكدة في ردها على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عبر البريد الإلكتروني، إنها «لن تقدم على بيع أي قطعة أثرية تشك في مستندات ملكيتها، وأنها تواصلت مع السلطات المصرية وأرسلت لهم كافة المستندات».
لكن وزيري أكد أن «دار (كريستيز) لم ترسل أي مستندات لمصر، ولم تستجب لأي من خطاباتنا أو مطالباتنا»، مشيراً إلى أن «دار (كريستيز) أتمت عملية البيع على مدار يومين، وباعت قطع آثار مصرية يومي 3 و4 يوليو الجاري، متجاهلة كل المطالبات المصرية الرسمية».
وشكك آثاريون في كيفية خروج التمثال من مصر؛ حيث لم توضح «كريستيز» ذلك، ولا يعرف كيف حصل عليه مقتني الآثار الألماني كما تدعي في الستينات، خصوصاً بعد تحقيق نشرته مجلة «لايف ساينس» نسبت فيه إلى ابنة مقتني الآثار الألماني وعائلته قولهم إن «التمثال لم يكن بحوزتهم». ويرجح آثاريون مصريون أن يكون التمثال قد سرق من مصر في سبعينات القرن الماضي، وأنه ربما كان جزءاً من معابد الكرنك، خصوصاً أنه غير مسجل في سجلات الآثار المصرية، مما يؤكد أنه نتيجة حفائر غير شرعية.
وأثارت قضية التمثال الجدل في مصر منذ بداياتها، ومع إعلان إتمام عملية بيع التمثال المنسوب لتوت عنخ آمون، طالب أثريون مصريون باتخاذ خطوات تصعيدية تصل إلى حد وقف التعامل مع بريطانيا في مجال الآثار، ووقف جميع البعثات الأثرية الإنجليزية في مصر، ووصلت ردود الفعل الغاضبة إلى حد المطالبة بتعديل اتفاقية «اليونيسكو»، أو حتى الانسحاب منها؛ لأنها تضع قيوداً على استرداد الآثار، وتطلب من الدولة صاحبة الحق إثبات ملكيتها للأثر، بينما لا تطلب ذلك من الجهة الأخرى أو «اللصوص» على حد تعبيرهم.



«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
TT

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

أعقاب سجائر يصل عددها إلى 4213، مَمالح لا تُحصى، عبوات مشروبات غازية، فناجين قهوة تجمّدَ فيها البنّ والزمن... هذا بعضٌ ممّا يجدُه الزائر في «متحف البراءة» في إسطنبول. المكان الذي أسسه الكاتب التركي أورهان باموك، خارجٌ عمّا هو مألوف في عالم المَتاحف. هنا، لا لوحات ولا منحوتات ولا أزياء تراثيّة، بل تأريخٌ للحياة اليوميّة العاديّة في إسطنبول ما بين سبعينات وتسعينات القرن الماضي.

لا بدّ للآتي إلى هذا المكان أن يكون قد قرأ رواية «متحف البراءة» لباموك، أو على الأقل سمع عنها. ففي زقاق شوكوركوما المتواضع الواقع في منطقة بيوغلو، لا شيء يوحي بأنّ ذلك المبنى الصغير المطليّ بالأحمر هو في الواقع متحفٌ يخبّئ في طبقاته الـ4، الكثير من تفاصيل حياة الأتراك على مدى 3 عقود.

يقع متحف البراءة في منطقة بيوغلو في إسطنبول (الشرق الأوسط)

فراشة تستقبل الزائرين

يكفي أن يحمل الزائر نسخةً من الرواية حتى يجول مجاناً في المتحف. حرُصَ باموك على أن تضمّ إحدى صفحات الكتاب بطاقة دخول للقارئ، موجّهاً إليه بذلك دعوةً لزيارة المتحف إذا حطّت به الرحال في إسطنبول. بخَتمٍ يحمل رسمَ فراشة تُدمَغ البطاقة، لتبدأ الجولة بأول غرضٍ معروض وهو قرط أذن على شكل فراشة. يقفز إلى الذاكرة فوراً الفصل الأول من الرواية، يوم أضاعت المحبوبة «فوزون» أحد أقراطها عند بطل القصة «كمال»، فاحتفظ به كما لو كان كنزاً، مثلما فعل لاحقاً مع كل غرضٍ لمسَ «فوزون» أو وقع في مرمى نظرها.

صفحة من رواية «متحف البراءة» تمنح الزائر بطاقة دخول إلى المتحف (الشرق الأوسط)

في متحف الحب

تتوالى الواجهات الزجاجية الـ83 بمنمنماتها وأغراضها، لتعكسَ كلُ واحدة منها فصلاً من فصول الرواية. لا يكتفي المتحف بتوثيق أنثروبولوجيا إسطنبول فحسب، بل يؤرّخ لحكاية الحب الأسطورية التي جمعت بين الرجل الأرستقراطي صاحب المال وقريبته الشابة المنتمية إلى الطبقة الفقيرة.

لعلّ ذلك الحب الجارف بين «كمال» و«فوزون» هو أبرز ما يدفع بالزوّار من حول العالم إلى أن يقصدوا المكان يومياً بالعشرات. يصعدون السلالم الخشبية، يجولون بين الطبقات الضيّقة، يتوقّفون طويلاً أمام الواجهات الزجاجية الصغيرة التي تحوي ذكريات المدينة وإحدى أجمل حكاياتها. منهم مَن أتى من الصين، ومنهم مَن قصد المكان ليُعدّ بحثاً جامعياً عنه، وما بينهما شابة مولَعة بالرواية تصرّ على التقاط صورة في كل زاوية من زوايا المتحف.

في المتحف 83 واجهة زجاجية تختصر كل منها فصلاً من الرواية (الشرق الأوسط)

رواية في متحف ومتحف في رواية

لمعت الفكرة في رأس أورهان باموك في منتصف التسعينات. قرر أن يجمع أغراضاً ليبني منها رواية تصلح أن تتحوّل متحفاً. سار المشروعان التوثيقي والأدبي بالتوازي، فأبصرت الرواية النور عام 2008، أما المتحف فافتُتح عام 2012 نظراً للوقت الذي استغرقه إعداده. ليس كل ما في المكان مقتنيات خاصة اشتراها باموك من محال التحَف العتيقة في إسطنبول وحول العالم، فبعض ما تُبصره العين في المتحف الذي يفوق عدد معروضاته الألف، استقدمَه الكاتب من منازل أقرباء وأصدقاء له.

استقدم باموك بعض الأغراض المعروضة من بيوت أقرباء وأصدقاء له (الشرق الأوسط)

استثمر الأديب التركي الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2006، ماله ووقته في مشروعه، وهو أول متحفٍ في العالم خاص برواية. في المرحلة الأولى، بدأ بتجميع الأغراض. ثم ابتاعَ مبنى صغيراً مؤلفاً من 4 طبقات وعائداً إلى القرن الـ19.

بالموازاة، كانت مخطوطة «متحف البراءة» قد بدأت سلوك الخط الروائي الذي قرره لها باموك، أي الدوَران حول شخصيتَيها الأساسيتَين الطالعتَين من بنات أفكاره. في القصة المتخيّلة، يدعو البطل «كمال» الكاتب أورهان باموك إلى تدوين سيرته. يخبره كيف أنه جمع كل غرض يذكّره بـ«فوزون»، كما كان يسرق بعض مقتنياتها كأمشاط الشعر والحليّ وقطع الملابس وغيرها من الأغراض الشخصية. في الرواية، وبعد أن يخسر «فوزون» إلى الأبد، يشتري «كمال» المنزل الذي قطنت فيه المحبوبة مع والدَيها، ليقيم فيه ويحوّله إلى متحفٍ يحيي ذكراها.

أمشاط الشعر العائدة إلى بطلة الرواية «فوزون» (الشرق الأوسط)

مؤثرات بصريّة وصوتيّة

من قصاصات الصحف إلى أواني المطبخ، مروراً بالصور القديمة، وساعات اليد، وقوارير العطر، والمفاتيح، وأوراق اليانصيب، وبطاقات الطيران، يتيح المتحف أمام الزائر أن يدخل في الرواية. كما يسمح له بمعاينة قريبة لأسلوب عيش أهل إسطنبول على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ما بين 1975 ومطلع الألفية الثالثة. في «متحف البراءة» يتداخل الخيال بالواقع، ويصبح المتجوّل في الأرجاء جزءاً من اللعبة التي اخترعها أورهان باموك.

يتجاوز عدد المعروضات في متحف البراءة ألف قطعة (الشرق الأوسط)

تخرق صمتَ الزائرين وصوتَ الراوي، مؤثّراتٌ خاصة من بينها فيديوهات معروضة على الجدران تعكس الحقبة التاريخية، وأصوات خرير مياه ونعيق غربان إسطنبول ونَورس البوسفور.

السيّد باموك... مدير المتحف

ليس طَيفا «فوزون» و«كمال» وحدهما المخيّمَين على المكان، فباموك حاضرٌ كذلك من خلال ترجمات الكتاب المعروضة في الطابق السفليّ، وكذلك عبر نبرة الراوي في الجهاز الصوتيّ، الذي يتقمّص شخصية الكاتب. مع العلم بأنّ باموك أشرف شخصياً على تفاصيل المتحف، وحتى اليوم بعض الواجهات الزجاجية فارغة «لأني ما زلت أعمل عليها»، وفق ما يقول الراوي. أما إن سألت موظفة الاستقبال عن هوية مدير المتحف، فستجيب: «السيّد باموك». كيف لا، وهو الذي أنفق 1.5 مليون دولار على تحفته الصغيرة، من بينها جائزة المليون دولار التي حصل عليها من مؤسسة نوبل.

وصلت تكلفة المتحف إلى 1.5 مليون دولار سدّدها باموك من ماله الخاص (الشرق الأوسط)

في غرفة «كمال»

يقول «كمال» في الكتاب: «أذكر كيف كان البرجوازيون في إسطنبول يدوسون فوق بعضهم كي يكونوا أوّل مَن يمتلك آلة حلاقة كهربائية أو فتّاحة معلّبات، أو أي ابتكار جديد آتٍ من الغرب. ثم يجرحون أيديهم ووجوههم وهم يصارعون من أجل تعلّم استخدامها». هذه الطبقيّة ذاتها والفوارق الاجتماعية التي تخيّم على خلفيّة الرواية، هي التي جعلت قصة حب «كمال» و«فوزون» تتأرجح بين الممكن والمستحيل.

الرواية كما المتحف يجمعان السرديّتَين العاطفية والاجتماعية (الشرق الأوسط)

تنتهي الزيارة في الطبقة الرابعة، أو بالأحرى في العلّيّة حيث أمضى «كمال» السنوات الأخيرة من حياته ما بين 2000 و2007، وفق الرواية. هنا، على سريرٍ حديديّ ضيّق كان يستلقي البطل العاشق ويروي الحكاية لأورهان باموك الجالس قبالته على مقعدٍ خشبيّ. لا يضيع شيءٌ من تفاصيل الخاتمة؛ لا ثياب نوم «كمال»، ولا فرشاة أسنانه، ولا الدرّاجة التي أهداها إلى «فوزون» وهي طفلة.

غرفة «كمال» بطل الرواية حيث أمضى السنوات الـ7 الأخيرة من حياته (الشرق الأوسط)

على براءتها وبساطتها، تروي أغراض «متحف البراءة» إحدى أجمل قصص الحب التي أزهرت بين سطور أورهان باموك، وخلّدت في قلب إسطنبول النابض.