المخابرات الفرنسية في حروبها {الصامتة} ضد التنظيمات الإرهابية

«ألكس جوردانوف» يكشف مهامها وعملياتها السرية في كتابه الجديد

المخابرات الفرنسية في حروبها {الصامتة} ضد التنظيمات الإرهابية
TT

المخابرات الفرنسية في حروبها {الصامتة} ضد التنظيمات الإرهابية

المخابرات الفرنسية في حروبها {الصامتة} ضد التنظيمات الإرهابية

في سابقة هي الأولى من نوعها، يُطل علينا رجال الإدارة العامة للأمن الداخلي، التابعة لجهاز الاستخبارات الفرنسية، عبر صفحات كتاب «حروب الظل للإدارة العامة للأمن الداخلي»، الصادر مؤخراً عن دار النشر الفرنسية «لونوفو موند إديسيون» في 294 صفحة من القطع المتوسط، ليكشفوا لنا النقاب، وبصراحة بالغة، عن طبيعة عملهم الميداني، خصوصاً فيما يتعلق بمراقبتهم ومتابعتهم للعناصر الإرهابية، وكذلك تجنيد مصادر معلوماتهم، وسبل وآليات تفكيك الشبكات الإرهابية، وهي مهام تتم أمام أعيننا بشكل يومي، ولكن دون أن نراها أو نلاحظها.
بهذه المكاشفة، يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة، ليس فقط لحساسية الموضوعات التي تعرض لها، ولكن أيضاً لأن مؤلفه هو الصحافي الفرنسي «ألكس جوردانوف» المتخصص في التحقيقات والتوثيق بـ«قناة بلس» الفرنسية، الذي استمر في جمع وتدقيق معلوماته لأكثر من 5 سنوات، ليقدم لنا النجاحات غير المسبوقة للإدارة العامة للأمن الداخلي بالمخابرات الفرنسية، إضافة إلى خضوع الكتاب لعمليات مراجعة كثيرة قبل النشر، من جانب متخصصين بالإدارة العامة للأمن الداخلي، بل وصل الأمر إلى حذف فصول كاملة منه قبل النشر، لما تضمنته من معلومات لا تتسق مع طبيعة النشر، لخصوصيتها وطبيعتها الأمنية الخاصة.
ويشير جوردانوف إلى أنه بفضل الإدارة العامة للأمن الداخلي، وجهود عناصرها، نجحت فرنسا في تجنب حدوث عملية إرهابية كيميائية أشد خطورة وتدميراً من عمليات 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 الإرهابية. كما تعرض المؤلف كذلك لمرور عناصر فاعلة من منظمات الإرهاب الدولي بين يدي شبكة الأمن الفرنسية، إلا أنه في ظل إعادة ترتيب دولاب العمل داخل الجهاز الأمني الفرنسي، باءت بعض العمليات بالفشل، ولم يكتب لها النجاح، رغم حُسن الإعداد لها.
ويتعرض المؤلف لطبيعة عمل الجهاز الأمني الداخلي، وما تجابهه عناصره من عراقيل. فخلال العمل الميداني، يصطدم عناصره بعناصر أخرى تابعة لجهاز أمن منافس أو صديق، مثل الموساد أو «سي آي إيه»، هذا بالإضافة إلى رصد مساعي عناصر أمن تابعة للاستخبارات الصينية وأخرى روسية، بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى حدوث ما يسمى «الحرب المكتومة» بين جهاز المخابرات الفرنسية وبعض الأجهزة الأخرى، خصوصاً فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب. ولذلك يغوص بنا جوردانوف بين جنبات عالم غريب لم نعرفه من قبل، كونه يعتمد على حيل قذرة، وأوامر صادرة أحياناً من جهات عليا ذات طابع سياسي، وعمليات نصب كبرى وتزوير باسم الدولة.

عملية خشب الجميز

من المؤكد أن اسم «خشب الجميز» لا يعني شيئاً بالنسبة للفرد العادي، إلا أنه يمثل في الواقع أهمية كبرى، كونه اسماً حركياً لواحدة من أهم حروب الظل الكبرى التي كان يكمن هدفها الأساسي في قلب نظام بشار الأسد في خريف 2011، إلا أنها توقفت في صيف 2017، ولم تعرها وسائل الإعلام الغربية اهتماماً كبيراً، رغم كلفتها الباهظة التي تجاوزت العديد من مليارات الدولارات، وعشرات آلاف الأطنان من الأسلحة والذخيرة التي ساعدت كثيراً قوى التمرد الفاعلة التي يرتبط بعضها بتنظيم «القاعدة»، أو تلك التي تمثل جزءاً منها، وتعد أهم عملية تهريب أسلحة في التاريخ، لتشمل 17 حكومة على الأقل لنقل الأسلحة إلى التنظيمات المتمردة أو المتطرفة بواسطة إحدى شركات الطيران (من أذربيجان)، ويقود الأنشطة العسكرية للعملية جنرال قاد جهازاً من أجهزة المخابرات الأميركية.

لقاءات مهمة

يعد ضباط الإدارة العامة للأمن الداخلي بالمخابرات الفرنسية أحد أهم مصادر المعلومات الواردة في الكتاب، إذ التقى المؤلف كثيراً منهم، بين ضباط رجال ونساء، ليتحدثوا له عن مهام كثيرة سبق أن نفذوها، مع تأكيدهم الحفاظ على هويتهم، خشية معرفة الإدارة التابعين لها، وما يترتب على ذلك من نتائج وخيمة تنعكس سلباً عليهم، قد تؤدى إلى فصلهم من العمل، وفقاً لما أكده المؤلف، ولذلك تظهر الشخصيات بأسماء حركية، مثل لقاءاته الشاب حاتم بأحد مكاتب المحاماة، وهو أحد الضباط بالإدارة العامة للأمن الداخلي الذي سبق أن خدم في الشرطة الفرنسية لمدة 12 عاماً، ثم تنقل بعد ذلك بين إدارات مختلفة تابعة للأمن الداخلي، وقضى سنوات كثيرة في التنكر كعنصر إسلامي يرتاد المساجد شديدة الأصولية والخطورة في فرنسا، كما صاحب السلفيين، وتعرف على طقوسهم وحياتهم الخاصة وأدق أسرارهم، حتى نجح في اختراق هذا المجتمع، منتحلاً صفة مدرس تاريخ، الأمر الذي مكنه من إحباط عمليات إرهابية كثيرة كادت تلقى بظلالها على المجتمع الفرنسي بأكمله.

أولويات الأجندة

يسوق لنا المؤلف بعض الأرقام المهمة، إذ لقي أكثر من 400 فرنسي و2000 أوروبي حتفهم منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 حتى الآن، على خلفية العمليات الإرهابية المختلفة، لافتاً إلى أن الإسلام الأصولي يمثل جوهر وأساس مهام المخابرات الفرنسية خلال السنوات المقبلة، نظراً لأهمية الملف سياسياً واجتماعياً، هذا بالإضافة إلى ضرورة مجابهة النشاط المخابراتي الروسي والصيني والأميركي، دون هوادة، حتى لا يمتد إلى العبث بالملف الاقتصادي.
ويشير الكتاب هنا إلى أن الروس نجحوا في تجنيد مصادر لهم في قلب السلطة الفرنسية، بالإضافة إلى النافذة الكبرى التي يفتحها الأميركيون على المخابرات الفرنسية، خصوصاً إدارة الأمن الداخلي، وتطبيقات شركة «إيرباص» الخاصة بـ«البيانات الضخمة»، ونقلها إلى شركة «بالانتير» الممولة من قبل المخابرات المركزية الأميركية. ولذلك، وفي مواجهة الأخطار الجمة المحدقة بها، فقد ضاعفت المخابرات الفرنسية من جهودها خلال السنوات العشر الأخيرة، سواء على مسار التحديات أو المهام، من خلال عناصر متنوعة، مثل الشاب حاتم أو بيير أو ماري، وهم يمثلون نماذج لا تعدو كونها تمثل أدوات لشن حرب غير منظورة، بلا هوادة أو رحمة.

اهتمامات خاصة

في إطار التحديات الكبيرة التي تجابهها الإدارة العامة للأمن الداخلي التابعة لجهاز المخابرات الفرنسي، تولي الإدارة، حسب الكتاب، أهمية بالغة إلى بعض الملفات والمناطق المهمة على النحو التالي:
أولاً: على مسار الأفكار
الاهتمام بمتابعة اليمين واليسار المتطرف، وكذلك الإسلام الراديكالي.
ثانياً: على مسار التحليل
تهتم وحدة «إتش 2» (H2) بالدول الآسيوية، إلا أن 95 في المائة من هذا الاهتمام يتوجه نحو الصين، بينما يتعلق نشاط الوحدة «إتش 3» (H3) بمتابعة الدول الأفريقية، خصوصاً أنغولا ورواندا وجنوب أفريقيا والسودان ومصر، بينما يقع عاتق متابعة باقي القارة الأفريقية على عاتق الوحدة المسماة «تي» (T)، فيما تتولى الوحدة المسماة «إتش 4» (H4) متابعة النشاط الروسي فقط. وعلى مسار الرقابة، فإن وحدة كاملة تتولى التجسس الكلاسيكي المضاد، والانتشار النووي، ومجابهة التجسس الصناعي الذي انتشر مؤخراً.
هكذا، يمكن أن نخلص إلى أننا أمام كتاب نادر من نوعه، تطرق لملفات كثيرة حساسة للغاية تكشف النقاب عن أولويات المخابرات الفرنسية، وطبيعة عملها.


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة