«هرقليون»... زوال مدينة قديمة يشير لخطر خفي وراء ارتفاع منسوب البحر

في وقت ما خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ضرب زلزال شرق البحر الأبيض المتوسط في ثونيس هيرقليون، الذي لا يزال واحدا من أكبر الموانئ في مصر، على الرّغم من أفول أيام مجده. فبدأت الأرض بالاهتزاز، والتربة بالتفكك. وكانت المدينة قد شُيّدت على جزر منخفضة المستوى تكونت من الطمي الناتج عن فيضانات نهر النيل خلال فصل الصيف، وكانت المعابد مشيدة أعلى المدينة، ويصنع كهنتها في كل عام تكوينا يمثل أوزوريس، إله الحياة الأخرى والبعث، من الذهب وحبوب الشعير ومياه النهر. وفي أقل من ثانية تحول الطين الذي شيدت المدينة فوقه إلى سائل، وانهار المعبد الكبير المخصص لعبادة الإله آمون، وسقط في البحر.
لم تختف المدينة تماما في ذلك اليوم، لكنّ انهيار معابدها جعلها تفقد معنى وجودها وجوهره. وبحلول القرن الثامن الميلادي، ابتلعت الأمواج آخر جزيرة من تلك الجزر حيث تغير مجرى النهر وارتفع مستوى البحر، ومنذ ذلك الحين دخلت المدينة عالم الإشاعات والأساطير. وعنها كتب المؤرخ اليوناني هيرودوت قائلا إن هيلين وباريس قد زارا المدينة قبل إبحارهما إلى طروادة، وأشارت إليها المسلة المدفون نصفها أعلى نهر النيل. كذلك جاء في مخطوطة، عُثر عليها في الجنوب، ذكر للسجلات الضريبية بها. لقد كانت المدينة أشبه بعالم قديم راسخ الذكر في التاريخ بقدر أكبر من مدينة أطلانطس، التي لم يكن يعرف أحد مكانها.
في عام 1933 حلقت طائرة تابعة لسلاح الجو الملكي أعلى الخليج عند نقطة التقاء نهر النيل في البحر الأبيض المتوسط. ورأى الطيّار حين نظر من قمرة القيادة أشكالا في موقع لم يكن من المفترض أن تكون به أشكال، وكانت عبارة عن معالم ضبابية لصخور ضخمة، وتماثيل مقلوبة رأسا على عقب تبعد أربعة أميال عن الشاطئ. ولم تُكتشف المدينة إلّا بعد مرور 66 سنة من ذلك اليوم. كانت ثونيس هيرقليون ضحية تميع التربة، فقد كان هذا ما حدث حقا، حيث تحولت التربة، التي كانت تبدو صلبة، إلى بحر من السائل العكر الذي يشبه الماء كثيرا. كانت المدينة تحمل في تكوينها ذلك الخطر الكبير لحدوث مثل هذه الكارثة، حيث بُنيت على تربة غير متماسكة جيدًا، وكانت مشبعة بالرطوبة بدرجة كبيرة نتيجة ارتفاع منسوب المياه الجوفية والفيضانات. وفي أعلى تلك التربة شُيّدت مبانٍ ضخمة. كانت المنطقة صاخبة بالأنشطة ومتاخمة لقوس هيلين، وهي منطقة اندساس حيث يلتقي البحر الأبيض ببحر إيجة. وتوجد اليوم بعض الأماكن القليلة المعرضة للكوارث، لكن يكمن بكثير منها العوامل المؤدية إلى حدوث تلك الكوارث.
وتُظهر مقاطع مصورة مباني وكأنها تنزلق، وأرضا تنهار، وتتحول البنايات الهائلة الضخمة، التي كانت راسخة يوما ما، إلى مستنقع. رغم ذلك فإنّ التفسير العلمي لهذه الظاهرة واضح، حيث تميل التربة إلى الانحلال والتفكك، خاصة في المناطق الغنية بالطمي القريبة من الأنهار، والموانئ الممتلئة الفراغات، والأرض المستصلحة، والمناطق الوحلة، المشبعة بالكامل نتيجة ظروف التصريف السيئة في أكثر الأحوال. ويزداد العبء على تلك المناطق والأراضي نتيجة تشييد مبان كبيرة وطرق بحيث تتحرك بشكل مفاجئ على نحو لا يريده أي مهندس أو حتى أي شخص.
مع ذلك لن يحدث شيء في أكثر الأحوال، حيث ستتحمل الأراضي المشبّعة الوزن، وستظل التربة متماسكة وتستمر الحياة، لكن عندما يحدث ضغط مفاجئ على التربة، إضافة إلى وزن البنايات الضخم، لن تستمر الأرض بالتمتع بخصائص المادة الصلبة، بل يصبح لها خصائص المادة السائلة. العامل الأكثر شيوعا المسؤول عن هذا النوع من الضغط هو حدوث هزّة أرضية مثل الزلزال، التي تُحدث حركة أمامية وخلفية لازمة لرفع ضغط المياه في الأرض مما يجعل وزن المباني والطرق المشيدة محملا على المياه التي لا تستطيع دعم وحمل المباني الضخمة مما يؤدي إلى انهيار فوري بشكل أساسي.
يقول دان أندر، نائب رئيس شركة «واشنطن سيرفينغ أند ريتينغ بيرو» للتصنيفات الائتمانية: «الناس غير مستعدة كما ينبغي». ويضيف: «لا أعرف ما إذا كان الناس يفهمون ماهية الانحلال أو التميّع. إنّهم يفهمون الضرر الناتج عن الزلزال، لكن لا أعرف ما إذا كانوا يدركون كيف يحدث هذا الضرر تحديدا».
يمكن أن تصبح عوامل الخطر، التي تؤدي إلى حدوث تلك الحالة، مركّبة بقدر أكبر، حيث يؤدي التغير المناخي إلى ارتفاع منسوب البحر. كذلك يصبح احتمال التميع كبيرا عندما تصبح التربة أكثر تشبعا، لذا سوف يؤدي ارتفاع مستوى البحر حتما إلى زيادة المناطق المعرضة لتلك الأخطار الطبيعية، بل وتعريض نقاط داخلية كانت آمنة إلى الخطر هي الأخرى.
وكانت مدينة ثونيس هيرقليون قد تعرضت إلى فيضانات قبل حدوث هذا الانهيار في التربة، وربما كان من أسباب ذلك حدوث تغيرات صغيرة نسبيا في البحر الأبيض المتوسط، أدت بدورها إلى زيادة منسوب البحر منذ العصر الجليدي الأخير. كذلك يقول بيتر كامبيل، عالم الآثار الغارقة: «إذا ارتفع منسوب البحر يزداد الضغط في المياه حتى العمق. وبالتالي نتّجه إلى خفض إجهاد التماس بين الجزيئات بحيث يكون الهامش أقل في حال حدوث ضغط زائد من جرّاء الزلزال».
اليونانيون والمصريون القدماء أيضا أدركوا حاجتهم إلى تغيير شيء ما في المدينة، رغم أنّه من غير المرجح أن يكونوا قد فهموا جيدا المخاطر الجيولوجية في هذا الموقع. عندما كان الإسكندر الأكبر على وشك بناء ميناء جديد عام 331 قبل الميلاد، وهو القرن السابق لحدوث الزلزال وتميع التربة القريب، اختار هو وجيوشه بروزا صخريا فوق سطح الأرض بعيدا عن دلتا النيل بحيث يكون من غير المرجح تحركه. وكان الفريق، الذي وجد المدينة بقيادة فرانك غوديو، المستكشف وعالم الآثار الفرنسي، الذي يعرف باكتشافه للمدن القديمة وحطام السفن التي يعود تاريخها إلى بداية العصر الحديث.
- خدمات «تريبيون ميديا»