الاستراتيجية الدولية والإرهاب في الساحل الأفريقي

صراع إرادات وتوسع في جغرافية القتال

رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو  مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)
رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)
TT

الاستراتيجية الدولية والإرهاب في الساحل الأفريقي

رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو  مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)
رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)

استطاع تنظيم «داعش» الإرهابي بالساحل الأفريقي توسيع عملياته في النصف الأول من سنة 2019، لتشمل 7 دول بالساحل، وصولاً إلى بحيرة تشاد. ويأتي هذا التمدد العنيف رغم الجهود الدولية والإقليمية التي تقودها فرنسا، والتي تضم 20 دولة، بالإضافة لنشاط القوات الخاصة الأميركية بالنيجر، وبعثة الأمم المتحدة المكونة من 15 ألف جندي.
وفي إطار المواجهة المفتوحة مع المجموعات الإرهابية، تسارع دول الساحل من خطواتها وجهودها الكبيرة لتطوير تنسيقها الأمني، والتعاون مع نظيراتها بغرب أفريقيا. وفي هذا السياق، استطاعت قوات عسكرية مشتركة من دول بغرب أفريقيا شن هجوم لها يوم 23 يونيو (حزيران) الماضي، قتل فيه 42 من مقاتلي «داعش» في منطقة بحيرة تشاد، مما يشكل ضربة قوية للتنظيم الذي ينشط بشكل مطرد في نيجيريا وتشاد والنيجر والكاميرون وبوركينا فاسو.
وتأتي هذه العملية في الوقت الذي نشر فيه فرع «داعش» بالساحل والصحراء بمجلته (النبأ)، بتاريخ 20 يونيو (حزيران) الماضي ما اعتبره هجمات كثيرة بمنطقة الساحل الأفريقي، منها إسقاط مروحية تابعة لقوات فرنسية على الحدود بين مالي والنيجر، ومقتل عدد من أفراد جيش مالي ومرافقيهم الأجانب، كما أشار التنظيم إلى أنه قتل جنديين أميركيين، ودمر آلية تابعة لقواتهما في دولة النيجر. أما في مالي، فقد ذكرت «النبأ» أن «داعش» قتل أحد قادة الحركة الوطنية لتحرير أزواد.
ومن جهته، أعلن الجيش الفرنسي أن 3 من جنوده أصيبوا في شمال شرقي مَالي يوم الجمعة منتصف الشهر الماضي، خلال الهبوط الاضطراري لطائرتهم الهليكوبتر في أثناء عملية هجومية مع الجيش المالي على معقل للجماعات الإرهابية بالمنطقة. وقد أسفرت هذه العملية التي استمرت يومي 13 و14 يونيو (حزيران) عن مقتل 20 من الإرهابيين.
ويبدو أن المواجهة المريرة مع التنظيمات الإرهابية المتنوعة، بمنطقة الساحل وبحيرة تشاد، تأخذ منعطفاً جديداً، يتمثل في قدرة «داعش» وتنظيمات أخرى على الوصول لمناطق ظلت محتكرة من طرف جماعة «بوكو حرام».
ويظهر هذا التوسع والتمدد الجغرافي أن التنظيمات المتطرفة بالساحل والصحراء تتمتع بدينامية، وقدرة على الاستقطاب، في مجتمعات محلية مثخنة بالصراعات الإثنية والقبلية. كما أن المساحات والعنصر البشري يعبر من جهة عن قدرة «داعشية» فائقة على التكيف مع الوضع الجديد الذي استحدثه التحالف الدولي منذ 2015 بالمنطقة. ومن جهة ثانية، يظهر التوسع أن أنصار البغدادي بالساحل استفادوا من حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي تعيشها المنطقة الممتدة من ليبيا شمالاً إلى الصومال شرقاً، مروراً بالسودان.
ربما هذا ما يفسر تزايد هجمات المجموعات المتطرفة في دول الساحل، خصوصاً بمالي والنيجر وبوركينا فسو، فقد أصبحت الهجمات شبه يومية في جغرافية واسعة جداً، مما أظهر محدودية الجهود الدولية الهادفة إلى القضاء على الإرهاب التي تقودها الأمم المتحدة والقوات الفرنسية في المنطقة.
فقد شهدت المنطقة هجمات متكررة راح ضحيتها عشرات الأشخاص من المدنيين، آخرها هجوم نفذته مجموعة إرهابية ضد مدنيين في قريتي ساغو وتويكودوغو، شمال بوركينا فاسو، يوم 22 يونيو (حزيران) الماضي، أسفرت عن مقتل نحو 15 شخصاً.

أسلوب المواجهة
وتأتي هذه الموجة القاسية من الهجمات الإرهابية لتطرح تساؤلات كثيرة على سياسة مواجهة الإرهاب بالساحل. فرغم أن هذه الجهود تمكنت في شهر مايو 2019 من إطلاق سراح الرهائن المختطفين في بوركينا فاسو (فرنسيان وأميركي وكوري جنوبي)، فمن المؤكد أن تصاعد وتيرة أنشطة الجماعات الإرهابية أصبح حقيقة واقعية متزايدة الخطورة، ولم تنجح حتى الآن جهود قوات «برخان»، ولا جيوش منطقة الساحل السبعة، في هزيمة الإرهاب أو إضعافه في المنطقة، بل على العكس من ذلك، فإن تكرار اختطاف الرهائن والهجمات شبه اليومية، وما يصاحبه من استقطاب حاد لشباب القبائل من طرف الجماعات الإرهابية، كل ذلك يؤكد أن هذه التنظيمات المتطرفة متجذرة بشكل جيد في النسيج الاجتماعي، وقادرة على تنفيذ هجماتها في كل بلدان منطقة الساحل الأفريقي. ففي مايو 2019، قتل 28 من جنود النيجر، في مواجهة مع مجموعة إرهابية تابعة لتنظيم «القاعدة»، بل إن العمليات الإرهابية واصلت توسعها وصولاً إلى خليج غينيا. لقد كان من المفترض أيضاً أن يكون «جيش الساحل لمحاربة الإرهاب» جاهزاً لهذه المهمة.
ورغم الدعم المالي الكبير، وفتح فرنسا لمعسكرات للتدريب في كل من مالي وبوركينا فاسو سنة 2018، فإن دول الساحل (موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد) ما زالت غير قادرة على تسلم مهام قوات «برخان»، في قيادة الحرب على الإرهاب التي أعلن أنها مؤقتة وتهدف لتأهيل جيوش مجموعة «جي 5».
كما أن هذه الصعوبات تنعكس على الدور المفترض الذي يجب أن يقوم به مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، والآليات الأمنية التي تضم 11 دولة أفريقية في تحالف ضد الإرهاب، يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى خليج غينيا، وصولاً إلى غرب أفريقيا.
ومن جانب آخر، تواجه الدول الخمس للساحل والمساعي الدولية صعوبات تتعلق بطبيعة الجغرافية السياسية والبشرية للمنطقة الممتدة من خليج غينيا إلى الساحل والصحراء، ذلك أن التعقيدات الإثنية وانقساماتها القبلية الواسعة تنعكس على الوضع السياسي والأمني، وتصبح أكثر عمقاً وعنفاً، كلما سيطرت إثنية معينة على السلطة، وفشلت في تحقيق العدالة المجالية وإشراك الإثنيات الأخرى في السلطة. ومن الناحية التاريخية، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن منطقة الساحل هي منطقة مترابطة ومتداخلة سكانياً وسياسياً وجغرافياً، وبالتالي يجب وضع سياسة مندمجة وفعالة تعي عمق الترابط الأمني القائم تاريخياً بالمنطقة. إن هذا التشابك والترابط التاريخي هو واحد من العوامل الأساسية المفسرة للتقدم المقلق والسريع للجماعات الإرهابية، مثل جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» التي تكونت في مارس (آذار) 2017، بقيادة إياد أغ غالي، أو تنظيم «داعش» الذي استطاع في زمن قياسي الوصول لدولة توغو وكوت ديفوار وبنين، وإعلان هذا التنظيم الإرهابي عن مسؤوليته عن عملية إرهابية بداية الأسبوع الأخير من يونيو (حزيران) 2019. ومن جهة أخرى، تعاني منطقة الساحل والصحراء من ثقل وانعكاسات الصراع المسلح بليبيا، والاضطرابات السياسية بالسودان، ويبدو أن القيادات السياسية لدول الساحل واعية بخطورة عدم استقرار محيطها الإقليمي، خصوصاً في الشمال والجنوب، وهذا ما دفع قادة دول الساحل الخمس، في الاجتماع الطارئ الذي عقد مؤخراً بتشاد، إلى إصدار بيان ختامي للقمة يوم 13 أبريل (نيسان) 2019 يؤكد ضرورة إيجاد حل سلمي وسريع للملفين الليبي والسوداني.

معركة استراتيجية
ونظراً لجسامة المهمة، وما تواجهه من صعوبات، فإن دول الساحل والمجموعة الدولية تقتسمان الإيمان بضرورة استمرار التعاون والتحالف لهزيمة المجموعات الإرهابية. ورغم أن أهداف القوى الكبرى تخلط بين مواجهة الإرهاب وتثبيت مصالحها الاستراتيجية بمنطقة الساحل الغنية بالنفط واليورانيوم والذهب وغيرها من الموارد المهمة، فإن خطورة الجماعات الإرهابية على الدول الهشة بالمنطقة دفعتها لفتح أراضيها منذ سنوات أمام القواعد العسكرية الفرنسية والأميركية والصينية، وإن كانت هذه القواعد تتمركز أساساً في مالي والنيجر وكوت ديفوار وبوركينا فاسو وتشاد.
ويبدو أن هذا الانتشار الكبير للقواعد العسكرية لا يشكل تحدياً جدياً ضد المجموعات الإرهابية، حيث تشير الدراسات البحثية في هذا المجال إلى أن تزايد القواعد العسكرية بالمنطقة لا يعني بالضرورة تراجع النشاط الإرهابي، ولا إضعاف المجموعات المسلحة المتطرفة. وفي الوقت نفسه، يثير الوجود العسكري الأجنبي صراعات استراتيجية بين بعض الدول، خصوصاً فرنسا وأميركا وروسيا. رغم أن الوجود الروسي بالساحل ضعيف، ويركز على موزمبيق وناميبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، حتى أنه يمكن القول فعلاً إن تنامي الإرهاب بدول الساحل فتح حرب نفوذ شرسة بين القوى الغربية، وكذلك القوى الناشئة، مثل الهند والبرازيل والصين.
ومن الناحية التاريخية، يمكن اعتبار تنامي الجماعات الإرهابية بالساحل والصحراء الأفريقية ظاهرة معاصرة، بدأت بأحداث العشرية السوداء بالجزائر، بدايات تسعينات القرن الـ20، لتشهد تطوراً لافتاً بعد إعادة انتشار المقاتلين الأفغان بشمال أفريقيا والساحل. أما المرحلة الثالثة التي نعيشها، فتستمد جذورها من غزو أميركا للعراق سنة 2003. ومن سوء حظ منطقة الساحل أن موجة التطرف العالمي التي كانت «القاعدة» تقودها سرعان ما أنتجت بعد «الحراك العربي» لسنة 2011 موجة جديدة وحشية من الإرهاب، وصل بعض قادتها لدول الساحل، أو تدرب قادة التنظيمات المحلية بالعراق وسوريا على يد تنظيم أبي بكر البغدادي. ومما يعقد من أزمة الساحل أن دوله هشة وغير قادرة على حماية حدودها، ولا تملك قوة عسكرية ولا أمنية محترفة، ولا مؤسسات دولة تسودها الحوكمة، كما أن موقع المنطقة الجيوستراتيجي، وتوفر المنطقة على موارد مهمة، يجعل منها منطقة صراع للقوى الدولية من جهة، ومحط صراع بين الدولة والجماعات الإرهابية من جهة ثانية، دون أن يعني ذلك حيادية الصراع الإثني الذي تستعمله الجماعات الإرهابية لبسط نفوذها في المنطقة.
ويرى بعض الخبراء والمتخصصين في منطقة الساحل أن المعركة مع الجماعات الإرهابية يجب أن تنتقل إلى إنتاج استراتيجية محلية من دول المنطقة، وليس الانجرار وراء سياسة تقودها القوى الأجنبية. وفي الوقت نفسه، إعطاء البلدان الأفريقية بشكل عام وسائل دعم دولي حقيقي لمكافحة الإرهاب؛ ذلك أن الحرب على الإرهاب تشتبك بالمصالح الاقتصادية الهائلة التي تتوفر عليها القارة الأفريقية. مما يحول معركة محاربة الإرهاب إلى معركة سياسية استراتيجية، تتضارب فيها مصالح دول الساحل التي تعتبر أضعف حلقات القارة السمراء مع مصالح القوى العالمية التي تنظر للجماعات المتطرفة باعتبارها تهديداً لمصالحها الاستراتيجية والقومية.
وعلى كل، فإن تنامي المجموعات الإرهابية على الساحل أغرى القوى الأجنبية بزيادة وجودها العسكري بالمنطقة. وهذا التوجه دفع بعض الدراسات والأبحاث في الشأن الأمني الأفريقي إلى انتقاد الاستراتيجية العسكرية والأمنية المتبعة حالياً، وطرح ضرورة إجراء تعديلات جذرية على الاستراتيجية الدولية، حتى لا تتهم بأنها مدخل للسيطرة على كامل منطقة الساحل، من البحر الأحمر إلى ساحل المحيط الأطلسي، دون أن تسفر هذه السيطرة عن دحر قريب تام للمجموعات الإرهابية المتعددة بالمنطقة.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».