الاستراتيجية الدولية والإرهاب في الساحل الأفريقي

صراع إرادات وتوسع في جغرافية القتال

رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو  مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)
رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)
TT

الاستراتيجية الدولية والإرهاب في الساحل الأفريقي

رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو  مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)
رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)

استطاع تنظيم «داعش» الإرهابي بالساحل الأفريقي توسيع عملياته في النصف الأول من سنة 2019، لتشمل 7 دول بالساحل، وصولاً إلى بحيرة تشاد. ويأتي هذا التمدد العنيف رغم الجهود الدولية والإقليمية التي تقودها فرنسا، والتي تضم 20 دولة، بالإضافة لنشاط القوات الخاصة الأميركية بالنيجر، وبعثة الأمم المتحدة المكونة من 15 ألف جندي.
وفي إطار المواجهة المفتوحة مع المجموعات الإرهابية، تسارع دول الساحل من خطواتها وجهودها الكبيرة لتطوير تنسيقها الأمني، والتعاون مع نظيراتها بغرب أفريقيا. وفي هذا السياق، استطاعت قوات عسكرية مشتركة من دول بغرب أفريقيا شن هجوم لها يوم 23 يونيو (حزيران) الماضي، قتل فيه 42 من مقاتلي «داعش» في منطقة بحيرة تشاد، مما يشكل ضربة قوية للتنظيم الذي ينشط بشكل مطرد في نيجيريا وتشاد والنيجر والكاميرون وبوركينا فاسو.
وتأتي هذه العملية في الوقت الذي نشر فيه فرع «داعش» بالساحل والصحراء بمجلته (النبأ)، بتاريخ 20 يونيو (حزيران) الماضي ما اعتبره هجمات كثيرة بمنطقة الساحل الأفريقي، منها إسقاط مروحية تابعة لقوات فرنسية على الحدود بين مالي والنيجر، ومقتل عدد من أفراد جيش مالي ومرافقيهم الأجانب، كما أشار التنظيم إلى أنه قتل جنديين أميركيين، ودمر آلية تابعة لقواتهما في دولة النيجر. أما في مالي، فقد ذكرت «النبأ» أن «داعش» قتل أحد قادة الحركة الوطنية لتحرير أزواد.
ومن جهته، أعلن الجيش الفرنسي أن 3 من جنوده أصيبوا في شمال شرقي مَالي يوم الجمعة منتصف الشهر الماضي، خلال الهبوط الاضطراري لطائرتهم الهليكوبتر في أثناء عملية هجومية مع الجيش المالي على معقل للجماعات الإرهابية بالمنطقة. وقد أسفرت هذه العملية التي استمرت يومي 13 و14 يونيو (حزيران) عن مقتل 20 من الإرهابيين.
ويبدو أن المواجهة المريرة مع التنظيمات الإرهابية المتنوعة، بمنطقة الساحل وبحيرة تشاد، تأخذ منعطفاً جديداً، يتمثل في قدرة «داعش» وتنظيمات أخرى على الوصول لمناطق ظلت محتكرة من طرف جماعة «بوكو حرام».
ويظهر هذا التوسع والتمدد الجغرافي أن التنظيمات المتطرفة بالساحل والصحراء تتمتع بدينامية، وقدرة على الاستقطاب، في مجتمعات محلية مثخنة بالصراعات الإثنية والقبلية. كما أن المساحات والعنصر البشري يعبر من جهة عن قدرة «داعشية» فائقة على التكيف مع الوضع الجديد الذي استحدثه التحالف الدولي منذ 2015 بالمنطقة. ومن جهة ثانية، يظهر التوسع أن أنصار البغدادي بالساحل استفادوا من حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي تعيشها المنطقة الممتدة من ليبيا شمالاً إلى الصومال شرقاً، مروراً بالسودان.
ربما هذا ما يفسر تزايد هجمات المجموعات المتطرفة في دول الساحل، خصوصاً بمالي والنيجر وبوركينا فسو، فقد أصبحت الهجمات شبه يومية في جغرافية واسعة جداً، مما أظهر محدودية الجهود الدولية الهادفة إلى القضاء على الإرهاب التي تقودها الأمم المتحدة والقوات الفرنسية في المنطقة.
فقد شهدت المنطقة هجمات متكررة راح ضحيتها عشرات الأشخاص من المدنيين، آخرها هجوم نفذته مجموعة إرهابية ضد مدنيين في قريتي ساغو وتويكودوغو، شمال بوركينا فاسو، يوم 22 يونيو (حزيران) الماضي، أسفرت عن مقتل نحو 15 شخصاً.

أسلوب المواجهة
وتأتي هذه الموجة القاسية من الهجمات الإرهابية لتطرح تساؤلات كثيرة على سياسة مواجهة الإرهاب بالساحل. فرغم أن هذه الجهود تمكنت في شهر مايو 2019 من إطلاق سراح الرهائن المختطفين في بوركينا فاسو (فرنسيان وأميركي وكوري جنوبي)، فمن المؤكد أن تصاعد وتيرة أنشطة الجماعات الإرهابية أصبح حقيقة واقعية متزايدة الخطورة، ولم تنجح حتى الآن جهود قوات «برخان»، ولا جيوش منطقة الساحل السبعة، في هزيمة الإرهاب أو إضعافه في المنطقة، بل على العكس من ذلك، فإن تكرار اختطاف الرهائن والهجمات شبه اليومية، وما يصاحبه من استقطاب حاد لشباب القبائل من طرف الجماعات الإرهابية، كل ذلك يؤكد أن هذه التنظيمات المتطرفة متجذرة بشكل جيد في النسيج الاجتماعي، وقادرة على تنفيذ هجماتها في كل بلدان منطقة الساحل الأفريقي. ففي مايو 2019، قتل 28 من جنود النيجر، في مواجهة مع مجموعة إرهابية تابعة لتنظيم «القاعدة»، بل إن العمليات الإرهابية واصلت توسعها وصولاً إلى خليج غينيا. لقد كان من المفترض أيضاً أن يكون «جيش الساحل لمحاربة الإرهاب» جاهزاً لهذه المهمة.
ورغم الدعم المالي الكبير، وفتح فرنسا لمعسكرات للتدريب في كل من مالي وبوركينا فاسو سنة 2018، فإن دول الساحل (موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد) ما زالت غير قادرة على تسلم مهام قوات «برخان»، في قيادة الحرب على الإرهاب التي أعلن أنها مؤقتة وتهدف لتأهيل جيوش مجموعة «جي 5».
كما أن هذه الصعوبات تنعكس على الدور المفترض الذي يجب أن يقوم به مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، والآليات الأمنية التي تضم 11 دولة أفريقية في تحالف ضد الإرهاب، يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى خليج غينيا، وصولاً إلى غرب أفريقيا.
ومن جانب آخر، تواجه الدول الخمس للساحل والمساعي الدولية صعوبات تتعلق بطبيعة الجغرافية السياسية والبشرية للمنطقة الممتدة من خليج غينيا إلى الساحل والصحراء، ذلك أن التعقيدات الإثنية وانقساماتها القبلية الواسعة تنعكس على الوضع السياسي والأمني، وتصبح أكثر عمقاً وعنفاً، كلما سيطرت إثنية معينة على السلطة، وفشلت في تحقيق العدالة المجالية وإشراك الإثنيات الأخرى في السلطة. ومن الناحية التاريخية، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن منطقة الساحل هي منطقة مترابطة ومتداخلة سكانياً وسياسياً وجغرافياً، وبالتالي يجب وضع سياسة مندمجة وفعالة تعي عمق الترابط الأمني القائم تاريخياً بالمنطقة. إن هذا التشابك والترابط التاريخي هو واحد من العوامل الأساسية المفسرة للتقدم المقلق والسريع للجماعات الإرهابية، مثل جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» التي تكونت في مارس (آذار) 2017، بقيادة إياد أغ غالي، أو تنظيم «داعش» الذي استطاع في زمن قياسي الوصول لدولة توغو وكوت ديفوار وبنين، وإعلان هذا التنظيم الإرهابي عن مسؤوليته عن عملية إرهابية بداية الأسبوع الأخير من يونيو (حزيران) 2019. ومن جهة أخرى، تعاني منطقة الساحل والصحراء من ثقل وانعكاسات الصراع المسلح بليبيا، والاضطرابات السياسية بالسودان، ويبدو أن القيادات السياسية لدول الساحل واعية بخطورة عدم استقرار محيطها الإقليمي، خصوصاً في الشمال والجنوب، وهذا ما دفع قادة دول الساحل الخمس، في الاجتماع الطارئ الذي عقد مؤخراً بتشاد، إلى إصدار بيان ختامي للقمة يوم 13 أبريل (نيسان) 2019 يؤكد ضرورة إيجاد حل سلمي وسريع للملفين الليبي والسوداني.

معركة استراتيجية
ونظراً لجسامة المهمة، وما تواجهه من صعوبات، فإن دول الساحل والمجموعة الدولية تقتسمان الإيمان بضرورة استمرار التعاون والتحالف لهزيمة المجموعات الإرهابية. ورغم أن أهداف القوى الكبرى تخلط بين مواجهة الإرهاب وتثبيت مصالحها الاستراتيجية بمنطقة الساحل الغنية بالنفط واليورانيوم والذهب وغيرها من الموارد المهمة، فإن خطورة الجماعات الإرهابية على الدول الهشة بالمنطقة دفعتها لفتح أراضيها منذ سنوات أمام القواعد العسكرية الفرنسية والأميركية والصينية، وإن كانت هذه القواعد تتمركز أساساً في مالي والنيجر وكوت ديفوار وبوركينا فاسو وتشاد.
ويبدو أن هذا الانتشار الكبير للقواعد العسكرية لا يشكل تحدياً جدياً ضد المجموعات الإرهابية، حيث تشير الدراسات البحثية في هذا المجال إلى أن تزايد القواعد العسكرية بالمنطقة لا يعني بالضرورة تراجع النشاط الإرهابي، ولا إضعاف المجموعات المسلحة المتطرفة. وفي الوقت نفسه، يثير الوجود العسكري الأجنبي صراعات استراتيجية بين بعض الدول، خصوصاً فرنسا وأميركا وروسيا. رغم أن الوجود الروسي بالساحل ضعيف، ويركز على موزمبيق وناميبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، حتى أنه يمكن القول فعلاً إن تنامي الإرهاب بدول الساحل فتح حرب نفوذ شرسة بين القوى الغربية، وكذلك القوى الناشئة، مثل الهند والبرازيل والصين.
ومن الناحية التاريخية، يمكن اعتبار تنامي الجماعات الإرهابية بالساحل والصحراء الأفريقية ظاهرة معاصرة، بدأت بأحداث العشرية السوداء بالجزائر، بدايات تسعينات القرن الـ20، لتشهد تطوراً لافتاً بعد إعادة انتشار المقاتلين الأفغان بشمال أفريقيا والساحل. أما المرحلة الثالثة التي نعيشها، فتستمد جذورها من غزو أميركا للعراق سنة 2003. ومن سوء حظ منطقة الساحل أن موجة التطرف العالمي التي كانت «القاعدة» تقودها سرعان ما أنتجت بعد «الحراك العربي» لسنة 2011 موجة جديدة وحشية من الإرهاب، وصل بعض قادتها لدول الساحل، أو تدرب قادة التنظيمات المحلية بالعراق وسوريا على يد تنظيم أبي بكر البغدادي. ومما يعقد من أزمة الساحل أن دوله هشة وغير قادرة على حماية حدودها، ولا تملك قوة عسكرية ولا أمنية محترفة، ولا مؤسسات دولة تسودها الحوكمة، كما أن موقع المنطقة الجيوستراتيجي، وتوفر المنطقة على موارد مهمة، يجعل منها منطقة صراع للقوى الدولية من جهة، ومحط صراع بين الدولة والجماعات الإرهابية من جهة ثانية، دون أن يعني ذلك حيادية الصراع الإثني الذي تستعمله الجماعات الإرهابية لبسط نفوذها في المنطقة.
ويرى بعض الخبراء والمتخصصين في منطقة الساحل أن المعركة مع الجماعات الإرهابية يجب أن تنتقل إلى إنتاج استراتيجية محلية من دول المنطقة، وليس الانجرار وراء سياسة تقودها القوى الأجنبية. وفي الوقت نفسه، إعطاء البلدان الأفريقية بشكل عام وسائل دعم دولي حقيقي لمكافحة الإرهاب؛ ذلك أن الحرب على الإرهاب تشتبك بالمصالح الاقتصادية الهائلة التي تتوفر عليها القارة الأفريقية. مما يحول معركة محاربة الإرهاب إلى معركة سياسية استراتيجية، تتضارب فيها مصالح دول الساحل التي تعتبر أضعف حلقات القارة السمراء مع مصالح القوى العالمية التي تنظر للجماعات المتطرفة باعتبارها تهديداً لمصالحها الاستراتيجية والقومية.
وعلى كل، فإن تنامي المجموعات الإرهابية على الساحل أغرى القوى الأجنبية بزيادة وجودها العسكري بالمنطقة. وهذا التوجه دفع بعض الدراسات والأبحاث في الشأن الأمني الأفريقي إلى انتقاد الاستراتيجية العسكرية والأمنية المتبعة حالياً، وطرح ضرورة إجراء تعديلات جذرية على الاستراتيجية الدولية، حتى لا تتهم بأنها مدخل للسيطرة على كامل منطقة الساحل، من البحر الأحمر إلى ساحل المحيط الأطلسي، دون أن تسفر هذه السيطرة عن دحر قريب تام للمجموعات الإرهابية المتعددة بالمنطقة.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

إردوغان: تركيا ستعيد تقييم علاقاتها بأميركا بعد انتخاب رئيسها الجديد

شؤون إقليمية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متحدثاً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الثلاثاء الماضي (الرئاسة التركية)

إردوغان: تركيا ستعيد تقييم علاقاتها بأميركا بعد انتخاب رئيسها الجديد

قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إن بلاده ستعيد تقييم علاقاتها مع الولايات المتحدة عقب الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

سعيد عبد الرازق (أنقرة:)
أفريقيا صورة أرشيفية لمتظاهرة تحمل علم بنين خارج البرلمان في العاصمة بورتو نوفو أبريل 2017 (أ.ف.ب)

محاولة انقلابية فاشلة في دولة بنين

أعلنت السلطات في دولة بنين اعتقال قائد الحرس الجمهوري ورجل أعمال مُقرّب من رئيس البلاد ووزير سابق في الحكومة، إثر تورّطهم في مخطط لقلب نظام الحكم بالقوة.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أوروبا عنصرا أمن يقتادان منفذ هجوم الطعن في زولينغن إلى التحقيق (د.ب.أ)

حملة تفتيش جديدة للشرطة الألمانية على خلفية هجوم إرهابي

على خلفية الهجوم الإرهابي الذي وقع أخيراً في مدينة زولينغن الألمانية، أجرت الشرطة مرة أخرى حملة تفتيش في إحدى المناطق بالمدينة. وقالت مصادر أمنية، إن قوات…

«الشرق الأوسط» (برلين)
الخليج الملتقى سيشهد على مدى 3 أيام أوراقاً علمية وحلقات نقاش بمشاركة عربية ودولية (الشرق الأوسط)

الرياض تستضيف ملتقى حول الذكاء الاصطناعي في المجالات الأمنية

بدأت في الرياض، الثلاثاء، أعمال «الملتقى الثاني لاستخدامات الذكاء الاصطناعي في المجالات الأمنية: التركيز على مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة».

غازي الحارثي (الرياض)
شمال افريقيا عربات عسكرية في واغادوغو (أرشيفية رويترز)

بعد «هجوم باماكو»... عواصم دول الساحل تعيش حالة طوارئ غير معلنة

أعلنت سلطات بوركينا فاسو أن سيارات الإسعاف والمركبات الدبلوماسية وعربات نقل الموتى، ستخضع للتفتيش في العاصمة واغادوغو خشية استغلالها لشن هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟