الاستراتيجية الدولية والإرهاب في الساحل الأفريقي

صراع إرادات وتوسع في جغرافية القتال

رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو  مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)
رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)
TT

الاستراتيجية الدولية والإرهاب في الساحل الأفريقي

رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو  مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)
رجال إطفاء ماليون بجوار مبنى دمر في عملية انتحارية في نوفمبر 2018 بمدينة غاو مما أسفر عن مقتل 3 مدنيين وجرح حوالي 30 شخصاً (أ.ف.ب)

استطاع تنظيم «داعش» الإرهابي بالساحل الأفريقي توسيع عملياته في النصف الأول من سنة 2019، لتشمل 7 دول بالساحل، وصولاً إلى بحيرة تشاد. ويأتي هذا التمدد العنيف رغم الجهود الدولية والإقليمية التي تقودها فرنسا، والتي تضم 20 دولة، بالإضافة لنشاط القوات الخاصة الأميركية بالنيجر، وبعثة الأمم المتحدة المكونة من 15 ألف جندي.
وفي إطار المواجهة المفتوحة مع المجموعات الإرهابية، تسارع دول الساحل من خطواتها وجهودها الكبيرة لتطوير تنسيقها الأمني، والتعاون مع نظيراتها بغرب أفريقيا. وفي هذا السياق، استطاعت قوات عسكرية مشتركة من دول بغرب أفريقيا شن هجوم لها يوم 23 يونيو (حزيران) الماضي، قتل فيه 42 من مقاتلي «داعش» في منطقة بحيرة تشاد، مما يشكل ضربة قوية للتنظيم الذي ينشط بشكل مطرد في نيجيريا وتشاد والنيجر والكاميرون وبوركينا فاسو.
وتأتي هذه العملية في الوقت الذي نشر فيه فرع «داعش» بالساحل والصحراء بمجلته (النبأ)، بتاريخ 20 يونيو (حزيران) الماضي ما اعتبره هجمات كثيرة بمنطقة الساحل الأفريقي، منها إسقاط مروحية تابعة لقوات فرنسية على الحدود بين مالي والنيجر، ومقتل عدد من أفراد جيش مالي ومرافقيهم الأجانب، كما أشار التنظيم إلى أنه قتل جنديين أميركيين، ودمر آلية تابعة لقواتهما في دولة النيجر. أما في مالي، فقد ذكرت «النبأ» أن «داعش» قتل أحد قادة الحركة الوطنية لتحرير أزواد.
ومن جهته، أعلن الجيش الفرنسي أن 3 من جنوده أصيبوا في شمال شرقي مَالي يوم الجمعة منتصف الشهر الماضي، خلال الهبوط الاضطراري لطائرتهم الهليكوبتر في أثناء عملية هجومية مع الجيش المالي على معقل للجماعات الإرهابية بالمنطقة. وقد أسفرت هذه العملية التي استمرت يومي 13 و14 يونيو (حزيران) عن مقتل 20 من الإرهابيين.
ويبدو أن المواجهة المريرة مع التنظيمات الإرهابية المتنوعة، بمنطقة الساحل وبحيرة تشاد، تأخذ منعطفاً جديداً، يتمثل في قدرة «داعش» وتنظيمات أخرى على الوصول لمناطق ظلت محتكرة من طرف جماعة «بوكو حرام».
ويظهر هذا التوسع والتمدد الجغرافي أن التنظيمات المتطرفة بالساحل والصحراء تتمتع بدينامية، وقدرة على الاستقطاب، في مجتمعات محلية مثخنة بالصراعات الإثنية والقبلية. كما أن المساحات والعنصر البشري يعبر من جهة عن قدرة «داعشية» فائقة على التكيف مع الوضع الجديد الذي استحدثه التحالف الدولي منذ 2015 بالمنطقة. ومن جهة ثانية، يظهر التوسع أن أنصار البغدادي بالساحل استفادوا من حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي تعيشها المنطقة الممتدة من ليبيا شمالاً إلى الصومال شرقاً، مروراً بالسودان.
ربما هذا ما يفسر تزايد هجمات المجموعات المتطرفة في دول الساحل، خصوصاً بمالي والنيجر وبوركينا فسو، فقد أصبحت الهجمات شبه يومية في جغرافية واسعة جداً، مما أظهر محدودية الجهود الدولية الهادفة إلى القضاء على الإرهاب التي تقودها الأمم المتحدة والقوات الفرنسية في المنطقة.
فقد شهدت المنطقة هجمات متكررة راح ضحيتها عشرات الأشخاص من المدنيين، آخرها هجوم نفذته مجموعة إرهابية ضد مدنيين في قريتي ساغو وتويكودوغو، شمال بوركينا فاسو، يوم 22 يونيو (حزيران) الماضي، أسفرت عن مقتل نحو 15 شخصاً.

أسلوب المواجهة
وتأتي هذه الموجة القاسية من الهجمات الإرهابية لتطرح تساؤلات كثيرة على سياسة مواجهة الإرهاب بالساحل. فرغم أن هذه الجهود تمكنت في شهر مايو 2019 من إطلاق سراح الرهائن المختطفين في بوركينا فاسو (فرنسيان وأميركي وكوري جنوبي)، فمن المؤكد أن تصاعد وتيرة أنشطة الجماعات الإرهابية أصبح حقيقة واقعية متزايدة الخطورة، ولم تنجح حتى الآن جهود قوات «برخان»، ولا جيوش منطقة الساحل السبعة، في هزيمة الإرهاب أو إضعافه في المنطقة، بل على العكس من ذلك، فإن تكرار اختطاف الرهائن والهجمات شبه اليومية، وما يصاحبه من استقطاب حاد لشباب القبائل من طرف الجماعات الإرهابية، كل ذلك يؤكد أن هذه التنظيمات المتطرفة متجذرة بشكل جيد في النسيج الاجتماعي، وقادرة على تنفيذ هجماتها في كل بلدان منطقة الساحل الأفريقي. ففي مايو 2019، قتل 28 من جنود النيجر، في مواجهة مع مجموعة إرهابية تابعة لتنظيم «القاعدة»، بل إن العمليات الإرهابية واصلت توسعها وصولاً إلى خليج غينيا. لقد كان من المفترض أيضاً أن يكون «جيش الساحل لمحاربة الإرهاب» جاهزاً لهذه المهمة.
ورغم الدعم المالي الكبير، وفتح فرنسا لمعسكرات للتدريب في كل من مالي وبوركينا فاسو سنة 2018، فإن دول الساحل (موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد) ما زالت غير قادرة على تسلم مهام قوات «برخان»، في قيادة الحرب على الإرهاب التي أعلن أنها مؤقتة وتهدف لتأهيل جيوش مجموعة «جي 5».
كما أن هذه الصعوبات تنعكس على الدور المفترض الذي يجب أن يقوم به مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، والآليات الأمنية التي تضم 11 دولة أفريقية في تحالف ضد الإرهاب، يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى خليج غينيا، وصولاً إلى غرب أفريقيا.
ومن جانب آخر، تواجه الدول الخمس للساحل والمساعي الدولية صعوبات تتعلق بطبيعة الجغرافية السياسية والبشرية للمنطقة الممتدة من خليج غينيا إلى الساحل والصحراء، ذلك أن التعقيدات الإثنية وانقساماتها القبلية الواسعة تنعكس على الوضع السياسي والأمني، وتصبح أكثر عمقاً وعنفاً، كلما سيطرت إثنية معينة على السلطة، وفشلت في تحقيق العدالة المجالية وإشراك الإثنيات الأخرى في السلطة. ومن الناحية التاريخية، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن منطقة الساحل هي منطقة مترابطة ومتداخلة سكانياً وسياسياً وجغرافياً، وبالتالي يجب وضع سياسة مندمجة وفعالة تعي عمق الترابط الأمني القائم تاريخياً بالمنطقة. إن هذا التشابك والترابط التاريخي هو واحد من العوامل الأساسية المفسرة للتقدم المقلق والسريع للجماعات الإرهابية، مثل جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» التي تكونت في مارس (آذار) 2017، بقيادة إياد أغ غالي، أو تنظيم «داعش» الذي استطاع في زمن قياسي الوصول لدولة توغو وكوت ديفوار وبنين، وإعلان هذا التنظيم الإرهابي عن مسؤوليته عن عملية إرهابية بداية الأسبوع الأخير من يونيو (حزيران) 2019. ومن جهة أخرى، تعاني منطقة الساحل والصحراء من ثقل وانعكاسات الصراع المسلح بليبيا، والاضطرابات السياسية بالسودان، ويبدو أن القيادات السياسية لدول الساحل واعية بخطورة عدم استقرار محيطها الإقليمي، خصوصاً في الشمال والجنوب، وهذا ما دفع قادة دول الساحل الخمس، في الاجتماع الطارئ الذي عقد مؤخراً بتشاد، إلى إصدار بيان ختامي للقمة يوم 13 أبريل (نيسان) 2019 يؤكد ضرورة إيجاد حل سلمي وسريع للملفين الليبي والسوداني.

معركة استراتيجية
ونظراً لجسامة المهمة، وما تواجهه من صعوبات، فإن دول الساحل والمجموعة الدولية تقتسمان الإيمان بضرورة استمرار التعاون والتحالف لهزيمة المجموعات الإرهابية. ورغم أن أهداف القوى الكبرى تخلط بين مواجهة الإرهاب وتثبيت مصالحها الاستراتيجية بمنطقة الساحل الغنية بالنفط واليورانيوم والذهب وغيرها من الموارد المهمة، فإن خطورة الجماعات الإرهابية على الدول الهشة بالمنطقة دفعتها لفتح أراضيها منذ سنوات أمام القواعد العسكرية الفرنسية والأميركية والصينية، وإن كانت هذه القواعد تتمركز أساساً في مالي والنيجر وكوت ديفوار وبوركينا فاسو وتشاد.
ويبدو أن هذا الانتشار الكبير للقواعد العسكرية لا يشكل تحدياً جدياً ضد المجموعات الإرهابية، حيث تشير الدراسات البحثية في هذا المجال إلى أن تزايد القواعد العسكرية بالمنطقة لا يعني بالضرورة تراجع النشاط الإرهابي، ولا إضعاف المجموعات المسلحة المتطرفة. وفي الوقت نفسه، يثير الوجود العسكري الأجنبي صراعات استراتيجية بين بعض الدول، خصوصاً فرنسا وأميركا وروسيا. رغم أن الوجود الروسي بالساحل ضعيف، ويركز على موزمبيق وناميبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، حتى أنه يمكن القول فعلاً إن تنامي الإرهاب بدول الساحل فتح حرب نفوذ شرسة بين القوى الغربية، وكذلك القوى الناشئة، مثل الهند والبرازيل والصين.
ومن الناحية التاريخية، يمكن اعتبار تنامي الجماعات الإرهابية بالساحل والصحراء الأفريقية ظاهرة معاصرة، بدأت بأحداث العشرية السوداء بالجزائر، بدايات تسعينات القرن الـ20، لتشهد تطوراً لافتاً بعد إعادة انتشار المقاتلين الأفغان بشمال أفريقيا والساحل. أما المرحلة الثالثة التي نعيشها، فتستمد جذورها من غزو أميركا للعراق سنة 2003. ومن سوء حظ منطقة الساحل أن موجة التطرف العالمي التي كانت «القاعدة» تقودها سرعان ما أنتجت بعد «الحراك العربي» لسنة 2011 موجة جديدة وحشية من الإرهاب، وصل بعض قادتها لدول الساحل، أو تدرب قادة التنظيمات المحلية بالعراق وسوريا على يد تنظيم أبي بكر البغدادي. ومما يعقد من أزمة الساحل أن دوله هشة وغير قادرة على حماية حدودها، ولا تملك قوة عسكرية ولا أمنية محترفة، ولا مؤسسات دولة تسودها الحوكمة، كما أن موقع المنطقة الجيوستراتيجي، وتوفر المنطقة على موارد مهمة، يجعل منها منطقة صراع للقوى الدولية من جهة، ومحط صراع بين الدولة والجماعات الإرهابية من جهة ثانية، دون أن يعني ذلك حيادية الصراع الإثني الذي تستعمله الجماعات الإرهابية لبسط نفوذها في المنطقة.
ويرى بعض الخبراء والمتخصصين في منطقة الساحل أن المعركة مع الجماعات الإرهابية يجب أن تنتقل إلى إنتاج استراتيجية محلية من دول المنطقة، وليس الانجرار وراء سياسة تقودها القوى الأجنبية. وفي الوقت نفسه، إعطاء البلدان الأفريقية بشكل عام وسائل دعم دولي حقيقي لمكافحة الإرهاب؛ ذلك أن الحرب على الإرهاب تشتبك بالمصالح الاقتصادية الهائلة التي تتوفر عليها القارة الأفريقية. مما يحول معركة محاربة الإرهاب إلى معركة سياسية استراتيجية، تتضارب فيها مصالح دول الساحل التي تعتبر أضعف حلقات القارة السمراء مع مصالح القوى العالمية التي تنظر للجماعات المتطرفة باعتبارها تهديداً لمصالحها الاستراتيجية والقومية.
وعلى كل، فإن تنامي المجموعات الإرهابية على الساحل أغرى القوى الأجنبية بزيادة وجودها العسكري بالمنطقة. وهذا التوجه دفع بعض الدراسات والأبحاث في الشأن الأمني الأفريقي إلى انتقاد الاستراتيجية العسكرية والأمنية المتبعة حالياً، وطرح ضرورة إجراء تعديلات جذرية على الاستراتيجية الدولية، حتى لا تتهم بأنها مدخل للسيطرة على كامل منطقة الساحل، من البحر الأحمر إلى ساحل المحيط الأطلسي، دون أن تسفر هذه السيطرة عن دحر قريب تام للمجموعات الإرهابية المتعددة بالمنطقة.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

مقتل 20 عسكريا ومدني في هجوم «إرهابي» في النيجر

أفريقيا عناصر من الشرطة النيجرية (أرشيفية)

مقتل 20 عسكريا ومدني في هجوم «إرهابي» في النيجر

قُتل 20 جنديا ومدني في غرب النيجر الذي يرزح تحت وطأة هجمات مجموعات إرهابية، حسبما أعلنت وزارة الدفاع الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (نيامي)
أوروبا محكمة فرنسية (أرشيفية - متداولة)

محاكمة أخت فرنسي تولى دوراً بارزاً في تنظيم «داعش»

تبدأ محاكمة خديجة.أ، الأخت غير الشقيقة لبوبكر الحكيم، أحد القادة الفرنسيين لتنظيم «داعش» في العراق وسوريا، في باريس اعتباراً من الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (باريس )
آسيا عناصر من الأمن الباكستاني (متداولة)

باكستان تسعى للحصول على «إجماع» شعبي قبل شن عملية ضد المتشددين

قال وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف، الثلاثاء، إن الحكومة تسعى إلى الحصول على «إجماع» على مستوى البلاد قبل شن الجيش عملية عسكرية جديدة ضد المسلحين.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
الخليج موقع إطلاق النار في مدينة محج قلعة بجمهورية داغستان في القوقاز الروسي (رويترز)

السعودية تدين الهجمات الإرهابية في داغستان

أدانت السعودية، الثلاثاء، الهجمات الإرهابية التي استهدفت دور عبادة في جمهورية داغستان بروسيا الاتحادية، التي أسفرت عن وفاة وإصابة عدد من عناصر الأمن والمدنيين.

آسيا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يضيء شمعة تخليداً لذكرى ضحايا هجوم قاعة مدينة كروكوس يوم الحداد الوطني في كنيسة خارج موسكو يوم 24 مارس (إ.ب.أ)

عملية «مكافحة الإرهاب» في داغستان انتهت

أعلنت لجنة مكافحة الإرهاب الروسية انتهاء العملية التي شُنت في جمهورية داغستان الروسية في منطقة القوقاز، بعد اعتداءات على كنائس أرثوذكسية وكنيس يهودي.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».