ترمب والاتحاد الأوروبي: صداقة قديمة وتحالف وثيق أصيبا في الصميم

الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)
الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)
TT

ترمب والاتحاد الأوروبي: صداقة قديمة وتحالف وثيق أصيبا في الصميم

الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)
الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)

أحدث وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض سنة 2017 زلزالاً في العلاقات الدولية وفي صورة القيادة الأميركية. رئيس لا يعمد إلى المهادنة ولبس القفازات في مواجهة القضايا الساخنة، مع الحلفاء أو الخصوم. لا يقيم وزناً للتحالفات التقليدية التي ربطت واشنطن بحلفائها الأوروبيين وبجيرانها لسنوات مديدة. وكيفما كان قياس حسابات الربح والخسارة في سياسة ترمب، فإن الأكيد أن هاجسه الأساسي هو قاعدته الانتخابية داخل الولايات المتحدة، وهي القاعدة التي يدغدغها بشعارات مثل «أميركا أولا» أو «أميركا عظمى من جديد»، في انتقاد لا يتضمن أي التباس لسياسات أسلافه، التي يعتبر أن مهمته الأساسية هي إصلاحها، ووضع الولايات المتحدة من جديد على الطريق الصحيح، كما يراه.
مع إعلان دونالد ترمب ترشحه لولاية ثانية، وبدء التنافس بين الديمقراطيين على اختيار المرشح الذي يرون أنه الأفضل لكسب السباق، نفتح في هذه الصفحة ملف رئاسة ترمب من ثلاث زوايا: سياسته الخارجية، وعلاقاته الصعبة مع الحلفاء الأوروبيين، والصراع بين الديمقراطيين على اختيار من يستطيع منافسته.

في 15 يوليو (تموز) من العام الماضي، وبلغة استفزازية، في مقابلة مع شبكة «سي بي إس»، طرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب رؤيته «العميقة» للاتحاد الأوروبي. هذا الاتحاد هو في نظره «العدو الرئيسي» للولايات المتحدة، وهو بذلك يكون أخطر من روسيا والصين اللتين وصفهما ترمب أيضا بأنهما عدوتان. ولمزيد من الإيضاح، فقد وصف ترمب الاتحاد الأوروبي بأنه «صعب المراس والمنافس الأول لأميركا في العالم اليوم». ولا يأخذ الرئيس الأميركي على الأوروبيين فقط أنهم لا يساهمون بما يتوجب عليهم للحلف الأطلسي (2 في المائة من الدخل القومي الخام) بل إنهم يمولون روسيا التي يطلبون منه حمايتهم منها. والدليل على ذلك مساهمة ألمانيا في مشروع الغاز الروسي الجديد. رؤية ترمب التبسيطية للسياسة الدولية تفضي إلى ما يلي: «يطلب منا أن ندافع عن جهة (أوروبا) وهذه الجهة تدفع المليارات لطرف آخر (روسيا) التي يريدون منا أن ندرأ شرها عنهم». برأيه، فإن أمرا كهذا «مثير للسخرية».
ثمة إجماع بين الأوروبيين أن أيا من رؤساء الولايات المتحدة لم يقل في أوروبا ما قاله ساكن البيت الأبيض، وأن العلاقات بين ضفتي الأطلسي لم تكن أبدا إلى هذا الحد رهينة «مزاجية» رئيس يمارس الدبلوماسية على طريقة التغريدات الصباحية بعد ليلة يقضيها مشاهداً «فوكس نيوز». ولا يبدو أن الأشهر الـ12 التي انقضت منذ المقابلة التي أجرتها معه «سي بي إس» قد غيرت الكثير في علاقات الرئيس الأميركي مع القارة القديمة أو رؤيته لها. ومؤخرا لم يتردد في القول إن أوروبا «لا تهمه» وإن بلاده سخية للغاية معها إذ أنها تهتم بها وتصرف الكثير عليها في إطار الحلف الأطلسي ومع ذلك فإن الأوروبيين «يستفيدون منا ومنذ زمن طويل في علاقاتنا التجارية»، ما يعني بالنسبة إليه أن هناك خطأ ما يتعين تصحيحه.
هذه المقاربة الترمبية تربك الأوروبيين. وها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يطالب نظيره الأميركي، في حديث إلى مجلة «نيو يوركر» هذا الأسبوع بأن «يوضح موقفه» من الاتحاد الأوروبي بعد الذي قاله في مسألة «بركسيت» ودعوته بريطانيا إلى قطيعة مع شركائها الأوروبيين. ولم يتردد ترمب في التدخل المباشر والفاضح، خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا، في شؤونها وشؤون الاتحاد الداخلية. وبحسب ماكرون، ثمة «مناطق مبهمة» في مقاربة ترمب تحتاج لجلاء غموضها. وهل يمكن أن ينسى ماكرون السهام التي وجهها ترمب إليه عندما دعا، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى قيام «جيش أوروبي حقيقي» حتى تخفف أوروبا من الاعتماد في دفاعها على الشريك الأميركي وعلى الحلف الأطلسي. وكان رد ترمب صاعقا إذ ذكّر ماكرون بأنه «لولا تدخل القوات الأميركية (في الحرب العالمية الثانية) لكان الفرنسيون يدرسون الألمانية» في إشارة إلى احتلال القوات النازية لفرنسا.
حقيقة الأمر أن الملفات الخلافية بين ترمب وأوروبا عديدة. فالصداقة التقليدية بين الطرفين أصيبت في الصميم. الرئيس الأميركي غاضب من المستشارة الألمانية التي كرسها باراك أوباما «زعيمة العالم الحر والمدافعة عنه» قبل رحيله عن البيت الأبيض. وعلاقات ترمب مع ماكرون مزاجية وتتأرجح بين نقيضين: البرودة الشديدة والحرارة الخانقة. أما رئيسة الوزراء البريطانية التي حاولت التقرب منه فقد لفظها بفظاظة عندما اعتبر أن بوريس جونسون، خليفتها المحتمل، سيكون أقدر على إخراج بريطانيا من الاتحاد لا بل إنه لم يتردد في الاجتماع بزعيم اليمين البريطاني المتطرف نايجل فراج الذي وصفه بأنه «صديق». وفيما خص الزعماء الأوروبيين الآخرين فحدث ولا حرج...
لقد وصلت حالة انعدام الثقة بين الأوروبيين والإدارة الأميركية الحالية إلى درجة أن مصادر دبلوماسية فرنسية قالت لـ«الشرق الأوسط» إن أفضل ما يتمنونه من قمة بياريتز (جنوب غربي فرنسا) لمجموعة البلدان السبع التي ستلتئم في نهاية أغسطس (آب) برئاسة فرنسا هي أن «تمر بخير»، بمعنى ألا يعمد ترمب إلى تغريدات قاتلة أو أن يرفض بيانا تم التحضير له لأسابيع بعد أن يركب طائرته عائدا لبلاده. وتضيف هذه المصادر أنه يتعين على الأوروبيين أن «يتأقلموا» في تعاملهم مع ترمب. فالأخير «ما زال أمامه 18 شهرا في البيت الأبيض ثم من يدري؟ ربما علينا أن نزيد أربع سنوات إضافية» في حال نجح في ولاية ثانية.
يتوقع الأوروبيون أن تتواصل حالة التجاذب مع ترمب للسنوات القادمة. فالأخير اختصر «فلسفته» السياسية بشعاره الرئيسي «أميركا أولا» وهو يطبقه عمليا من خلال سياسة «أحادية» ترفض جذريا الإدارة الجماعية لشؤون العالم. والأدلة على ذلك لا تحصى: فالرئيس الأميركي باشر ولايته بالخروج من اتفاقية المناخ المسماة «اتفاقية باريس» المبرمة نهاية العام 2015 مستندا إلى نظرية أن النشاطات الإنسانية لا علاقة لها بزيادة حرارة الأرض وأن الدراسات العلمية التي تتوقع ارتفاع الحرارة وذوبان جبال الجليد وارتفاع مستوى مياه البحار والمحيطات لا أساس لها. وأتبع ذلك بالخروج من منظمة اليونيسكو وبإطلاق حرب تجارية تنسف الأسس التي تقوم عليها منظمة التجارة الدولية ولا تستهدف فقط الصين بل أقرب المقربين إلى بلاده مثل كندا والمكسيك والدول الأوروبية. كذلك هدد ترمب بالانسحاب من الحلف الأطلسي وتوسل في سياساته اللجوء إلى العقوبات الاقتصادية والتجارية العابرة للحدود بفعل قوة الاقتصاد الأميركي وعملته الدولار.
ما يحرج الأوروبيين في سياسة ترمب الخارجية عدم القدرة على توقعها واستباقها. ففي ملف كوريا الشمالية النووي، احتار الأوروبيون بين رئيس يملك «زرا نوويا» أقوى من الزر الكوري وهو قادر على «محو» كوريا الشمالية عن الخريطة. وفي اليوم التالي لقاء فعناق ورسائل غرام مع كيم جونغ أون. وفي الملف الفلسطيني، وأد ترمب عشرات السنوات من سياسة واشنطن التقليدية الرافضة للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كذلك غض النظر عن الاستيطان الإسرائيلي وحل الدولتين. وبما أن ذلك لم يكف، فقد «منح» الجولان الذي لا يملكه إلى إسرائيل التي تحتله. وفي الملف الإيراني، وفي سابقة فريدة من نوعها في تاريخ العلاقات الدولية، سحب ترمب توقيع بلاده من الاتفاق النووي مع إيران وها هي أميركا وإيران تلعبان على حافة الهاوية في منطقة استراتيجية للعالم أجمع بفضل مخزونها من النفط والغاز ومضائقها. وفي سوريا، يجهد الأوروبيون لفك رموز سياسة البيت الأبيض كما يجهدون لمعرفة كيف ستتطور علاقاته مع روسيا.
إزاء هذه الملفات، ثمة تناقض عمودي بين مواقف ترمب ومواقف شركائه الأوروبيين. ومفاجأة هؤلاء حلت عندما أعلن ترمب أنه سينسحب دون تشاور مسبق من اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة المدى الموقعة مع الاتحاد السوفياتي في التسعينات. والحال أن هذه الصواريخ تهم الأوروبيين ومصيرهم بالدرجة الأولى وبالتالي يريدون أن تكون لهم كلمتهم بشأنها.
هكذا، تمضي الأمور بين طرفين تربطهما مبدئيا علاقات تحالف تاريخية وقيم أساسية مشتركة. وربما يكون حلم ترمب أن يجر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دولا أخرى، بحيث يتهاوى الاتحاد وعملته (اليورو) ويكون بإمكانه عندها إبرام اتفاقات مع كل طرف على حدة، تكون بطبيعة الحال لصالح الولايات المتحدة.


مقالات ذات صلة

منفذ تفجير سيارة «تسلا» في لاس فيغاس استخدم «شات جي بي تي» لتخطيط الهجوم

الولايات المتحدة​ ليفيلسبيرغر أطلق النار على نفسه قبل انفجار شاحنة «تسلا سايبرترك» في يوم رأس السنة الجديدة بلاس فيغاس (أ.ب)

منفذ تفجير سيارة «تسلا» في لاس فيغاس استخدم «شات جي بي تي» لتخطيط الهجوم

كشفت الشرطة الأميركية أمس أن الجندي الذي فجّر شاحنة «تسلا سايبرترك» خارج فندق ترمب في لاس فيغاس بالولايات المتحدة الأسبوع الماضي استخدم الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد دونالد ترمب يتحدث خلال مؤتمر صحافي في بالم بيتش بفلوريدا 7 يناير 2025 (أ.ب)

تهديدات ترمب التجارية تضرب الأسواق العالمية قبل توليه الرئاسة

من الصين إلى أوروبا، ومن كندا إلى المكسيك، بدأت الأسواق العالمية بالفعل الشعور بتأثير تهديدات دونالد ترمب بزيادة الرسوم الجمركية بمجرد توليه الرئاسة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد العلم الإيراني مع نموذج مصغر لرافعة مضخة للنفط (أرشيفية- رويترز)

«رويترز»: إيران تضغط على الصين لبيع نفط عالق بقيمة 1.7 مليار دولار

قالت مصادر مطلعة، 3 منها إيرانية وأحدها صيني، إن طهران تسعى لاستعادة 25 مليون برميل من النفط عالقة في ميناءين بالصين منذ 6 سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أميركا اللاتينية سفن شحن تتنظر دورها لعبور قناة بنما لدى بحيرة غاتون (أرشيفية - أ.ب)

بنما تؤكّد ردا على ترمب أنّ القناة «أعيدت إلى غير رجعة»

أكّد وزير الخارجية البنمي خافيير مارتينيز-آشا، الثلاثاء، أنّ سيادة بلاده «ليست قابلة للتفاوض»، وذلك ردّا على تهديدات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.

«الشرق الأوسط» (بنما)
العالم جزء من مباني البرلمان الكندي في أوتاوا (رويترز)

كندا «لن تتراجع أبداً» في مواجهة تهديدات ترمب

احتجت وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي، أمس (الثلاثاء)، على تعليقات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب حول إمكانية استخدام القوة الاقتصادية ضد البلاد.

«الشرق الأوسط» (أوتاوا)

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.