ترمب والاتحاد الأوروبي: صداقة قديمة وتحالف وثيق أصيبا في الصميم

الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)
الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)
TT

ترمب والاتحاد الأوروبي: صداقة قديمة وتحالف وثيق أصيبا في الصميم

الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)
الرئيس ترمب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون خلال الاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية أمام قوس النصر في باريس في نوفمبر الماضي (أ.ب)

أحدث وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض سنة 2017 زلزالاً في العلاقات الدولية وفي صورة القيادة الأميركية. رئيس لا يعمد إلى المهادنة ولبس القفازات في مواجهة القضايا الساخنة، مع الحلفاء أو الخصوم. لا يقيم وزناً للتحالفات التقليدية التي ربطت واشنطن بحلفائها الأوروبيين وبجيرانها لسنوات مديدة. وكيفما كان قياس حسابات الربح والخسارة في سياسة ترمب، فإن الأكيد أن هاجسه الأساسي هو قاعدته الانتخابية داخل الولايات المتحدة، وهي القاعدة التي يدغدغها بشعارات مثل «أميركا أولا» أو «أميركا عظمى من جديد»، في انتقاد لا يتضمن أي التباس لسياسات أسلافه، التي يعتبر أن مهمته الأساسية هي إصلاحها، ووضع الولايات المتحدة من جديد على الطريق الصحيح، كما يراه.
مع إعلان دونالد ترمب ترشحه لولاية ثانية، وبدء التنافس بين الديمقراطيين على اختيار المرشح الذي يرون أنه الأفضل لكسب السباق، نفتح في هذه الصفحة ملف رئاسة ترمب من ثلاث زوايا: سياسته الخارجية، وعلاقاته الصعبة مع الحلفاء الأوروبيين، والصراع بين الديمقراطيين على اختيار من يستطيع منافسته.

في 15 يوليو (تموز) من العام الماضي، وبلغة استفزازية، في مقابلة مع شبكة «سي بي إس»، طرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب رؤيته «العميقة» للاتحاد الأوروبي. هذا الاتحاد هو في نظره «العدو الرئيسي» للولايات المتحدة، وهو بذلك يكون أخطر من روسيا والصين اللتين وصفهما ترمب أيضا بأنهما عدوتان. ولمزيد من الإيضاح، فقد وصف ترمب الاتحاد الأوروبي بأنه «صعب المراس والمنافس الأول لأميركا في العالم اليوم». ولا يأخذ الرئيس الأميركي على الأوروبيين فقط أنهم لا يساهمون بما يتوجب عليهم للحلف الأطلسي (2 في المائة من الدخل القومي الخام) بل إنهم يمولون روسيا التي يطلبون منه حمايتهم منها. والدليل على ذلك مساهمة ألمانيا في مشروع الغاز الروسي الجديد. رؤية ترمب التبسيطية للسياسة الدولية تفضي إلى ما يلي: «يطلب منا أن ندافع عن جهة (أوروبا) وهذه الجهة تدفع المليارات لطرف آخر (روسيا) التي يريدون منا أن ندرأ شرها عنهم». برأيه، فإن أمرا كهذا «مثير للسخرية».
ثمة إجماع بين الأوروبيين أن أيا من رؤساء الولايات المتحدة لم يقل في أوروبا ما قاله ساكن البيت الأبيض، وأن العلاقات بين ضفتي الأطلسي لم تكن أبدا إلى هذا الحد رهينة «مزاجية» رئيس يمارس الدبلوماسية على طريقة التغريدات الصباحية بعد ليلة يقضيها مشاهداً «فوكس نيوز». ولا يبدو أن الأشهر الـ12 التي انقضت منذ المقابلة التي أجرتها معه «سي بي إس» قد غيرت الكثير في علاقات الرئيس الأميركي مع القارة القديمة أو رؤيته لها. ومؤخرا لم يتردد في القول إن أوروبا «لا تهمه» وإن بلاده سخية للغاية معها إذ أنها تهتم بها وتصرف الكثير عليها في إطار الحلف الأطلسي ومع ذلك فإن الأوروبيين «يستفيدون منا ومنذ زمن طويل في علاقاتنا التجارية»، ما يعني بالنسبة إليه أن هناك خطأ ما يتعين تصحيحه.
هذه المقاربة الترمبية تربك الأوروبيين. وها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يطالب نظيره الأميركي، في حديث إلى مجلة «نيو يوركر» هذا الأسبوع بأن «يوضح موقفه» من الاتحاد الأوروبي بعد الذي قاله في مسألة «بركسيت» ودعوته بريطانيا إلى قطيعة مع شركائها الأوروبيين. ولم يتردد ترمب في التدخل المباشر والفاضح، خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا، في شؤونها وشؤون الاتحاد الداخلية. وبحسب ماكرون، ثمة «مناطق مبهمة» في مقاربة ترمب تحتاج لجلاء غموضها. وهل يمكن أن ينسى ماكرون السهام التي وجهها ترمب إليه عندما دعا، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى قيام «جيش أوروبي حقيقي» حتى تخفف أوروبا من الاعتماد في دفاعها على الشريك الأميركي وعلى الحلف الأطلسي. وكان رد ترمب صاعقا إذ ذكّر ماكرون بأنه «لولا تدخل القوات الأميركية (في الحرب العالمية الثانية) لكان الفرنسيون يدرسون الألمانية» في إشارة إلى احتلال القوات النازية لفرنسا.
حقيقة الأمر أن الملفات الخلافية بين ترمب وأوروبا عديدة. فالصداقة التقليدية بين الطرفين أصيبت في الصميم. الرئيس الأميركي غاضب من المستشارة الألمانية التي كرسها باراك أوباما «زعيمة العالم الحر والمدافعة عنه» قبل رحيله عن البيت الأبيض. وعلاقات ترمب مع ماكرون مزاجية وتتأرجح بين نقيضين: البرودة الشديدة والحرارة الخانقة. أما رئيسة الوزراء البريطانية التي حاولت التقرب منه فقد لفظها بفظاظة عندما اعتبر أن بوريس جونسون، خليفتها المحتمل، سيكون أقدر على إخراج بريطانيا من الاتحاد لا بل إنه لم يتردد في الاجتماع بزعيم اليمين البريطاني المتطرف نايجل فراج الذي وصفه بأنه «صديق». وفيما خص الزعماء الأوروبيين الآخرين فحدث ولا حرج...
لقد وصلت حالة انعدام الثقة بين الأوروبيين والإدارة الأميركية الحالية إلى درجة أن مصادر دبلوماسية فرنسية قالت لـ«الشرق الأوسط» إن أفضل ما يتمنونه من قمة بياريتز (جنوب غربي فرنسا) لمجموعة البلدان السبع التي ستلتئم في نهاية أغسطس (آب) برئاسة فرنسا هي أن «تمر بخير»، بمعنى ألا يعمد ترمب إلى تغريدات قاتلة أو أن يرفض بيانا تم التحضير له لأسابيع بعد أن يركب طائرته عائدا لبلاده. وتضيف هذه المصادر أنه يتعين على الأوروبيين أن «يتأقلموا» في تعاملهم مع ترمب. فالأخير «ما زال أمامه 18 شهرا في البيت الأبيض ثم من يدري؟ ربما علينا أن نزيد أربع سنوات إضافية» في حال نجح في ولاية ثانية.
يتوقع الأوروبيون أن تتواصل حالة التجاذب مع ترمب للسنوات القادمة. فالأخير اختصر «فلسفته» السياسية بشعاره الرئيسي «أميركا أولا» وهو يطبقه عمليا من خلال سياسة «أحادية» ترفض جذريا الإدارة الجماعية لشؤون العالم. والأدلة على ذلك لا تحصى: فالرئيس الأميركي باشر ولايته بالخروج من اتفاقية المناخ المسماة «اتفاقية باريس» المبرمة نهاية العام 2015 مستندا إلى نظرية أن النشاطات الإنسانية لا علاقة لها بزيادة حرارة الأرض وأن الدراسات العلمية التي تتوقع ارتفاع الحرارة وذوبان جبال الجليد وارتفاع مستوى مياه البحار والمحيطات لا أساس لها. وأتبع ذلك بالخروج من منظمة اليونيسكو وبإطلاق حرب تجارية تنسف الأسس التي تقوم عليها منظمة التجارة الدولية ولا تستهدف فقط الصين بل أقرب المقربين إلى بلاده مثل كندا والمكسيك والدول الأوروبية. كذلك هدد ترمب بالانسحاب من الحلف الأطلسي وتوسل في سياساته اللجوء إلى العقوبات الاقتصادية والتجارية العابرة للحدود بفعل قوة الاقتصاد الأميركي وعملته الدولار.
ما يحرج الأوروبيين في سياسة ترمب الخارجية عدم القدرة على توقعها واستباقها. ففي ملف كوريا الشمالية النووي، احتار الأوروبيون بين رئيس يملك «زرا نوويا» أقوى من الزر الكوري وهو قادر على «محو» كوريا الشمالية عن الخريطة. وفي اليوم التالي لقاء فعناق ورسائل غرام مع كيم جونغ أون. وفي الملف الفلسطيني، وأد ترمب عشرات السنوات من سياسة واشنطن التقليدية الرافضة للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كذلك غض النظر عن الاستيطان الإسرائيلي وحل الدولتين. وبما أن ذلك لم يكف، فقد «منح» الجولان الذي لا يملكه إلى إسرائيل التي تحتله. وفي الملف الإيراني، وفي سابقة فريدة من نوعها في تاريخ العلاقات الدولية، سحب ترمب توقيع بلاده من الاتفاق النووي مع إيران وها هي أميركا وإيران تلعبان على حافة الهاوية في منطقة استراتيجية للعالم أجمع بفضل مخزونها من النفط والغاز ومضائقها. وفي سوريا، يجهد الأوروبيون لفك رموز سياسة البيت الأبيض كما يجهدون لمعرفة كيف ستتطور علاقاته مع روسيا.
إزاء هذه الملفات، ثمة تناقض عمودي بين مواقف ترمب ومواقف شركائه الأوروبيين. ومفاجأة هؤلاء حلت عندما أعلن ترمب أنه سينسحب دون تشاور مسبق من اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة المدى الموقعة مع الاتحاد السوفياتي في التسعينات. والحال أن هذه الصواريخ تهم الأوروبيين ومصيرهم بالدرجة الأولى وبالتالي يريدون أن تكون لهم كلمتهم بشأنها.
هكذا، تمضي الأمور بين طرفين تربطهما مبدئيا علاقات تحالف تاريخية وقيم أساسية مشتركة. وربما يكون حلم ترمب أن يجر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دولا أخرى، بحيث يتهاوى الاتحاد وعملته (اليورو) ويكون بإمكانه عندها إبرام اتفاقات مع كل طرف على حدة، تكون بطبيعة الحال لصالح الولايات المتحدة.


مقالات ذات صلة

اتهامات أوروبية لمالك منصة «إكس» بالتدخل في الانتخابات

أوروبا ماسك خلال حدث انتخابي لترمب في بنسلفانيا يوم 5 أكتوبر 2024 (أ.ب)

اتهامات أوروبية لمالك منصة «إكس» بالتدخل في الانتخابات

يعوّل الكثير من قادة الاتحاد الأوروبي على العلاقة الخاصة التي بدا أنها تترسخ يوماً بعد يوم، بين دونالد ترمب، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني

إيلي يوسف (واشنطن)
تحليل إخباري الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس حكومته فرنسوا بايرو في أثناء حضورهما تجمعاً بمناسبة مرور 10 سنوات على الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة وسوبر ماركت يهودي في باريس (رويترز)

تحليل إخباري فرنسا لمواجهة «التحدي الاستراتيجي» الإيراني

استكمل وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو «مضبطة الاتهامات» ضد إيران التي طرحها ماكرون، مبرزاً الإحباط بسبب فشل باريس في الإفراج عن الرهائن الذين تحتزهم طهران.

ميشال أبونجم (باريس)
أوروبا علم غرينلاند يظهر في قرية إيغاليكو (أ.ب)

رئيسة وزراء الدنمارك رداً على ترمب: «غرينلاند ملك لأهلها»

أكدت رئيسة وزراء الدنمارك، الثلاثاء، أن مستقبل غرينلاند يقرره سكانها، بعد أن اقترح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب الاستحواذ على الإقليم.

«الشرق الأوسط» (كوبنهاغن)
المشرق العربي مقاتلان من الفصائل الموالية لتركيا في جنوب منبج (أ.ف.ب)

تحذيرات تركية من سيناريوهات لتقسيم سوريا إلى 4 دويلات

تتصاعد التحذيرات والمخاوف في تركيا من احتمالات تقسيم سوريا بعد سقوط نظام الأسد في الوقت الذي تستمر فيه الاشتباكات بين الفصائل و«قسد» في شرق حلب.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الاقتصاد أوراق نقدية من فئة الجنيه الإسترليني (رويترز)

الجنيه الإسترليني يرتفع لأعلى مستوى في أسبوع

ارتفع الجنيه الإسترليني بنسبة 0.25 في المائة إلى 1.2548 دولار، بعد أن وصل إلى 1.2562 دولار، وهو أعلى مستوى له منذ 31 ديسمبر (كانون الأول).

«الشرق الأوسط» (لندن)

البشرية من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي

نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
TT

البشرية من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي

نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)

على مدار السنوات الـ25 الماضية، تسارعت وتيرة الابتكار التكنولوجي بشكل غير مسبوق، مما أدى إلى تحول المجتمعات في جميع أنحاء العالم. تاريخياً، استغرقت التقنيات مثل الكهرباء والهاتف عقوداً للوصول إلى 25 في المائة من الأسر الأميركية - 46 و35 عاماً على التوالي. على النقيض من ذلك تماماً، حقّق الإنترنت ذلك في 7 سنوات فقط.

اكتسبت منصات مثل «فيسبوك» 50 مليون مستخدم في عامين، وأعادت «نتفليكس» تعريف استهلاك الوسائط بسرعة، وجذب «شات جي بي تي» أكثر من مليون مستخدم في 5 أيام فقط. يؤكد هذا التقَبّل السريع للتقدم التكنولوجي والتحول المجتمعي وأثره في تبني الابتكار.

قادت هذه الموجة شركة «غوغل»، وهي شركة ناشئة تأسست في مرآب. في عام 1998، قدمت «غوغل» خوارزمية «بيچ رانك»، ما أحدث ثورة في تنظيم المعلومات على الويب. على عكس محركات البحث التقليدية التي تركز على تكرار الكلمات الرئيسية، عملت خوارزمية «بيچ رانك» على تقييم أهمية الصفحة من خلال تحليل الارتباطات التبادلية، ومعاملة الروابط التشعبية على أنها أصوات ثقة واستيعاب الحكمة الجماعية للإنترنت. أصبح العثور على المعلومات ذات الصلة أسرع وأكثر سهولة، ما جعل محرك البحث «غوغل» لا غنى عنه على مستوى العالم.

تحوّل «نتفليكس»

في خضم ثورة البيانات، ظهر نموذج جديد للحوسبة: التعلم الآلي. بدأ المطورون في إنشاء خوارزميات تتعلم من البيانات وتتحسن بمرور الوقت، مبتعدين عن البرمجة الصريحة. جسّدت «نتفليكس» هذا التحول بجائزتها البالغة مليون دولار لعام 2006 لتحسين خوارزمية التوصية خاصتها بنسبة 10 في المائة. في عام 2009، نجحت خوارزمية «براغماتيك كايوس» لشركة «بيلكور» في استخدام التعلم الآلي المتقدم، ما يسلّط الضوء على قوة الخوارزميات التكيفية.

ثم توغل الباحثون في مجال التعلم العميق، وهو مجموعة متفرعة عن التعلم الآلي تتضمن خوارزميات تتعلم من بيانات ضخمة غير منظمة. في عام 2011، أظهر نظام «واتسون» الحاسوبي من شركة «آي بي إم» قوة التعلم العميق في لعبة «چيوباردي»! في منافسة ضد البطلين «براد روتر» و«كين جينينغز»، أظهر «واتسون» القدرة على فهم الفروق الدقيقة في اللغة المعقدة، والتورية، والألغاز، مما يحقق النصر. أفسح هذا العرض المهم لمعالجة اللغة بالذكاء الاصطناعي المجال أمام العديد من تطبيقات معالجة اللغة الطبيعية.

في عام 2016، حقق برنامج «ألفاغو» الحاسوبي من شركة «غوغل ديب مايند» إنجازاً تاريخياً بهزيمة «لي سيدول» بطل العالم في لعبة «غو». كانت لعبة «غو»، المعروفة بمعقداتها وتفكيرها الحدسي، خارج نطاق الذكاء الاصطناعي. أدهش فوز «ألفاغو» العالم بأسره، مشيراً إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه معالجة المشكلات التي تتطلب التفكير الاستراتيجي من خلال الشبكات العصبية.

ثورة تجارة التجزئة

مع ازدياد قدرات الذكاء الاصطناعي، بدأت الشركات في دمج هذه التقنيات لإحداث الابتكار. أحدثت «أمازون» ثورة في تجارة التجزئة عبر الاستفادة من الذكاء الاصطناعي للتسوق الشخصي. من خلال تحليل عادات العملاء، أوصت خوارزميات «أمازون» بالمنتجات بدقة، ويسّرت الخدمات اللوجيستية، وحسّنت المخزون. وصار التخصيص حجر الزاوية في نجاح «أمازون»، مما وضع توقعات جديدة لخدمة العملاء.

في قطاع السيارات، قادت شركة «تسلا» عملية دمج الذكاء الاصطناعي في المنتجات الاستهلاكية. من خلال «أوتوبايلوت»، قدمت «تسلا» لمحة عن مستقبل النقل. في البداية، استخدم «أوتوبايلوت» الذكاء الاصطناعي لمعالجة البيانات من الكاميرات وأجهزة الاستشعار، مما يتيح التحكم التكيفي في السرعة، ومَرْكَزَة المسار، ومواقف السيارات الذاتية. بحلول عام 2024، سمح نظام القيادة الذاتية الكاملة (FSD) للسيارات بالتنقل مع تدخل بشري طفيف. أعادت تلك الوثبة تعريف القيادة وعجلت بالجهود الرامية لتطوير السيارات ذاتية القيادة مثل «وايمو».

كما شهد قطاع الرعاية الصحية التأثير التحويلي للذكاء الاصطناعي، إذ طوّر الباحثون خوارزميات تكتشف الأنماط في بيانات التصوير غير المُدرَكة للبشر. على سبيل المثال، حلّل نظام الذكاء الاصطناعي صور الثدي بالأشعة السينية للتعرف على التغيرات الدقيقة التي تتنبأ بالسرطان، مما يتيح تدخلات مبكرة وربما إنقاذ الأرواح.

في عام 2020، حقق برنامج «ألفافولد» من شركة «ديب مايند» إنجازاً تاريخياً: التنبؤ الدقيق بهياكل البروتين من تسلسلات الأحماض الأمينية - وهو تحدٍّ أربك العلماء لعقود. يعد فهم انْثِناء البروتين أمراً بالغ الأهمية لاكتشاف الأدوية وأبحاث الأمراض. تستفيد مختبرات «أيسومورفيك لابس» التابعة لشركة «ديب مايند»، من أحدث نماذج «ألفافولد» وتتعاون مع شركات الأدوية الكبرى لتسريع الأبحاث الطبية الحيوية، مما قد يؤدي إلى علاجات جديدة بوتيرة غير مسبوقة.

سرعان ما تبنى قطاع التمويل ابتكارات الذكاء الاصطناعي. نفذت شركة «باي بال» خوارزميات متقدمة للكشف عن الاحتيال ومنعه في الوقت الفعلي، مما يزيد من الثقة في المدفوعات الرقمية. استخدمت شركات التداول عالية التردد خوارزميات لتنفيذ الصفقات في أجزاء من الثانية. واستخدمت شركات مثل «رينيسانس تكنولوجيز» التعلم الآلي في استراتيجيات التداول، محققة عوائد رائعة. أصبح التداول الخوارزمي الآن يمثل جزءاً كبيراً من حجم التداول، مما يزيد من الكفاءة لكنه يُثير مخاوف بشأن استقرار السوق، كما هو الحال في انهيار عام 2010.

في عام 2014، طوّر إيان غودفيلو وزملاؤه الشبكات التنافسية التوليدية (GANs)، التي تتكون من شبكتين عصبيتين - المُولّد والمميّز - تتنافسان ضد بعضهما. مكّنت هذه الديناميكية من إنشاء بيانات اصطناعية واقعية للغاية، بما في ذلك الصور ومقاطع الفيديو. لقد أنتجت الشبكات التنافسية التوليدية وجوهاً بشرية واقعية، وأنشأت أعمالاً فنية، وساعدت في التصوير الطبي من خلال إنتاج بيانات اصطناعية للتدريب، مما يعزز قوة نماذج التشخيص.

في عام 2017، قدمت هيكليات المحولات «ترانسفورمر» تحولاً كبيراً في منهجية الذكاء الاصطناعي، مما غيّر بشكل جذري من معالجة اللغة الطبيعية. ابتعدت «ترانسفورمر» عن الشبكات العصبية التكرارية والالتفافية التقليدية. وتعتمد كلياً على آليات الانتباه لالتقاط التبعيات العالمية، مما يسمح بالتعامد الفعال ومعالجة السياقات المطولة.

روبوت يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي (أ.ف.ب)

نص بشري يكتبه روبوت

بناء على ذلك، طوّرت شركة «أوبن إيه آي» سلسلة «المحول المُولّد المدرب مسبقاً» (GPT)، وأظهر «جي بي تي – 3»، الصادر عام 2020، قدرات غير مسبوقة في توليد نص يشبه النص البشري مع فهم السياق. على عكس النماذج السابقة التي تتطلب تدريباً محدداً للمهمة، يمكن لـ«جي بي تي – 3» أداء مجموعة واسعة من مهام اللغة مع الحد الأدنى من الضبط الدقيق، مما يُظهر قوة التدريب المسبق غير الخاضع للإشراف على نطاق واسع والتعلم قليل اللقطات. بدأت الشركات في دمج نماذج «جي بي تي» في التطبيقات من إنشاء المحتوى وتوليد التعليمات البرمجية إلى خدمة العملاء. حالياً، تتسابق العديد من النماذج لتحقيق «الذكاء الاصطناعي العام» (AGI) الذي يفهم، ويفسر، ويخلق محتوى متفوقاً على البشر.

الرحلة من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي على مدار السنوات الـ25 الماضية هي شهادة على الفضول البشري، والإبداع، والسعي الدؤوب نحو التقدم. لقد انتقلنا من الخوارزميات الأساسية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة التي تفهم اللغة، وتفسر البيانات المعقدة، وتُظهر الإبداع. أدى النمو الهائل في قوة الحوسبة، والبيانات الضخمة، والاختراقات في مجال التعلم الآلي إلى تسريع تطوير الذكاء الاصطناعي بوتيرة لا يمكن تصورها.

بالتطلع إلى المستقبل، يشكل التنبؤ بالـ25 عاماً المقبلة تحدياً كبيراً. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، قد يفتح المجال أمام حلول للتحديات التي نعتبرها مستعصية اليوم - من علاج الأمراض، وحل مشاكل الطاقة، إلى التخفيف من تغير المناخ، واستكشاف الفضاء العميق.

إن إمكانات الذكاء الاصطناعي في إحداث ثورة في كل جانب من جوانب حياتنا هائلة. ورغم أن المسار الدقيق غير مؤكد، فإن اندماج إبداع الإنسان والذكاء الاصطناعي يعد بمستقبل غني بالإمكانات. ويتساءل المرء متى وأين قد تظهر شركة «غوغل» أو «أوبن إيه آي» التالية، وما الخير الكبير الذي قد تجلبه للعالم؟