كامالا هاريس... مرشحة رئاسية ديمقراطية تقود من الوسط

في زحمة الاصطفاف السياسي الأميركي

كامالا هاريس... مرشحة رئاسية ديمقراطية تقود من الوسط
TT

كامالا هاريس... مرشحة رئاسية ديمقراطية تقود من الوسط

كامالا هاريس... مرشحة رئاسية ديمقراطية تقود من الوسط

في عام 2008، تكهّن كثيرون بأنها ستكون واحدة من بين أبرز النساء اللواتي قد يصبحن «السيدة رئيسة الولايات المتحدة». وبعد عشر سنوات صُنّفت بأنها ستكون على قائمة أهم المرشحين الديمقراطيين في السباق الرئاسي لعام 2020. وبالفعل هذا ما حصل، عندما وقفت على منصّة أول مناظرة سياسية بين المرشحين الديمقراطيين، في مواجهة كبار متصدّري استطلاعات الرأي، رغم أن السباق لا يزال في بدايته.
إنها السيناتورة الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا كامالا هاريس، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها عدّاءة سياسية شرسة وصلبة. وكانت هاريس في يونيو (حزيران) 2018 قد أعلنت أنها لا تستبعد الترشح في مواجهة الرئيس دونالد ترمب، ومع بداية عام 2019 أعلنت هاريس رسمياً خوضها السباق الرئاسي (2020). وخلال 24 ساعة من إعلانها ترشّحها جمعت تبرّعات قياسيّة مساوية للتبرعات التي جمعها بيرني ساندرز بُعيد ترشحه لانتخابات 2016. وفي المناظرات التي شهدتها مدينة ميامي بالأمس كان أداء هاريس قوياً ولافتاً... حاز إعجاب المحللين.
حضر المهرجان الانتخابي الأول للسيناتورة كامالا هاريس في يناير (كانون الثاني) 2019 نحو 20 ألف شخص في مدينتها أوكلاند، «جارة» مدينة سان فرانسيسكو بشمال ولاية كاليفورنيا. وشكّل هذا الإقبال الكبير «صدمة» لمنافسيها الذين شعروا بخطورتها على حظوظهم، على الأقل في مواصلة السباق الحزبي للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي.
ولكن رغم أن معظم مهرجانات هاريس الانتخابية تستقطب حضوراً مميزاً، فإنها تجهد لتقديم فلسفة خاصة بها، في ظل الاستقطاب الحاد الذي يشهده الحزب الديمقراطي، والمجتمع الأميركي عموماً، ما يجعل تقديم تصنيف سياسي أو آيديولوجي لها، دونه صعوبات جمّة.

البحث عن هوية
هاريس تقدّم نفسها على أنها صاحبة حلول عملية بدلاً من الرؤى الشاملة. وكانت قد قالت في مهرجان انتخابي بولاية ساوث كارولينا، الجمعة الماضي: «مهم أن يكون لديك أفكار كبيرة حول كيفية إصلاح هذا العالم، لكن من المهم أيضاً، ويمثل أولوية بالنسبة لي تقديم حلول لمعالجة الأشياء التي تجعل الأشخاص يستيقظون في منتصف الليل». ويعكس وقوفها على مسرح واحد أمام كبار منافسيها في أول مناظرة سياسية، على رأسهم نائب الرئيس السابق جو بايدن وبيرني ساندرز، حجم التحدّي الذي تواجهه.
ساندرز (اليساري أصلاً خارج صفوف الحزب الديمقراطي) صنّف نفسه مع السيناتورة إليزابيث وارين (من ولاية ماساتشوستس) كممثلين للتيار اليساري، في حين أعلن بايدن أنه يمثل موقع الوسط، واعداً بإلحاق الهزيمة ترمب. أما هاريس فتشتهر بأنها «مُدّعية عامة سابقة»، تشارك كعضو مجلس شيوخ في الجلسات العامة للمجلس، وليس للدفاع عن أي نهج سياسي معين.
الآن ثمة أصوات كثيرة تطالب هاريس بأن تعجّل في بلورة فلسفتها الآيديولوجية. وبينما يحمل منافسوها برامج واضحة ومحددة، ويعتقد كثيرون أنها قد تمثل التغيير المطلوب، فإن قلَّة منهم تبدو قادرة على تحديد نوع التغيير الذي ستحدثه.
البعض يقول إنها براغماتية أكثر منها آيديولوجية، وإنها شخصية عملية تسأل دوماً عن انعكاس أي قرار على حياة الناس. وحقاً، تقول جيل حبيب، التي عملت مستشارة لهاريس عندما ترشّحت لمنصب المدعية العامة، ولاحقاً لعضوية مجلس الشيوخ عن كاليفورنيا: «من حيث منهجية كيفية تحقيق أهدافها، هاريس ليست آيديولوجية للغاية». ومن ثم، فالحصيلة حتى الآن هي مجموعة سياسات تتشكل غالباً من مواقف حدثيّة تتماشى مع الصراع الديمقراطي السائد في الولايات المتحدة.

حلول عملية مباشرة
من جهة ثانية، فإن الخيط الذي يربط مقترحاتها هو التركيز على ما قدّمته كإجراءات عملية، بدلاً من الحلول طويلة الأجل؛ إذ تؤيد هاريس الرقابة على الأسلحة الفردية، وحلّ قضية المواطنة بالنسبة لأطفال المهاجرين غير الشرعيين وأوليائهم، عبر قرارات تنفيذية رئاسية، كالتي اتخذها ترمب - وقبله أوباما - في مواجهة اعتراضات الكونغرس.
أيضاً، تؤيد هاريس تقديم مساعدات للمستأجرين وحوافز ضريبية للطبقة الوسطى بقيمة 6 آلاف دولار أميركي، ما يوفر مزايا ملموسة على المدى المباشر، بدلاً من البرامج الأكثر جذرية التي تقدمها السيناتورة اليسارية وارين، التي تتعهد بتفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى، مثلاً.
واليوم تدافع هاريس، ومثلها مساعدوها، في حملتها الانتخابية، عن دعوتها لرفع رواتب المعلمين بمعدل 13500 دولار، لمساواتهم بفئات المهنيين المتعلمين، بما يضمن تحسين نتائج الطلاب وبيئة التعليم، ليتبيّن بعدها أنه اقتراح يتطابق مع برامج نقابات المعلمين. وكما دافعت عن المعلمين، تعهدت هاريس أخيراً بفرض غرامات قاسية على الشركات التي تميز في الأجور بين النساء والرجال، في اقتراح مباشر لم يطرحه أي منافس ديمقراطي لها. ومن المعروف، عموماً، أن المرأة العاملة الأميركية تحصل على 80 سنتاً مقابل كل دولار يحصل عليه الرجل.
في أي حال، وكما سبقت الإشارة، حتى الساعة لم تطلق هاريس أي وصف أو تسمية لموقعها. هل هي من يسار الوسط أو يمين أقصى اليسار أو في أي مكان بينهما. بل عندما سألتها مراسلة صحافية عما إذا كانت «من أتباع ديمقراطيي أوباما» ردت هاريس ببساطة: «أنا كامالا». وراهناً، تكثّف السيناتورة الكاليفورنية الطموحة نشاطها في الولايات الأربع التي ستشهد تصويتاً مبكراً، وصار لديها نادٍ للمعجبين باسمها، في تقليعة تشبه نادي المعجبين بالمغنية بيونسيه. غير أن استطلاعات الرأي المُبكّرة في ولاية كاليفورنيا، بالذات، تظهر إمكانات هاريس وحدودها، إذ عندما طُلب من الناخبين الديمقراطيين اختيار المرشحين الأول والثاني، جاءت نتائجها مشابهة لكل من بايدن ووارين، بحسب أحد الاستطلاعات. لكن عندما طلب منهم تحديد الخيار الأول، تراجعت هاريس وراء بايدن ووارين وحتى ساندرز.

النشأة... والصعود السريع
وُلِدت كامالا هاريس يوم 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1964، لعائلة متعلّمة ومثقفة؛ فأبوها المهاجر من جامايكا، دونالد هاريس، بروفسور اقتصاد في جامعة ستانفورد المرموقة. أما أمها شيامالا غوبالان فهي مهاجرة هندية تاميلية من مدينة شيناي (مدراس سابقاً) واختصاصية بسرطان الثدي. ثم إن أختها مايا محامية وإعلامية ومحللة وناشطة سياسية لامعة. وهي حالياً متزوجة من المحامي دوغلاس إيمهوف.
تلقت كامالا تعليمها الجامعي في جامعة هوارد بالعاصمة الأميركية واشنطن، ثم حازت على إجازة الحقوق من جامعة كاليفورنيا - هايسينغز. وباشرت ممارسة العمل القانوني محامية وقاضية جنباً إلى جنب مع نشاطها السياسي. ومع بداية عام 2017 أصبحت من بين أصغر أعضاء مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا، وكانت قد شغلت قبل هذا المنصب منصب المدعية العامة (أو وزيرة العدل) في الولاية من عام 2011 وحتى عام 2017. وقبل ذلك كانت المدعية العامة لمدينة سان فرانسيسكو، من عام 2004 وحتى 2011.

معركة مجلس الشيوخ
في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 هزمت هاريس منافستها الديمقراطية لوريتا سانشيز للحلول مكان السيناتورة (المتقاعدة) بربارا بوكسر، لتصبح ثالث امرأة تمثّل كاليفورنيا في مجلس الشيوخ الأميركي، وأول أميركية من أصول جامايكية وهندية في هذا المنصب. والجدير بالذكر أن نجم هاريس بدأ يلمع منذ عام 2008. وسرعان ما حظيت هاريس باحترام وتقدير معظم قيادات الحزب الديمقراطي. وفي فبراير (شباط) 2016 صوّت مؤتمر الحزب الديمقراطي لصالح هاريس بنسبة 78 في المائة، أي أكثر بـ18 في المائة من النسبة المطلوبة، وهي 60 في المائة لضمان ترشيح الحزب. ورغم ذلك، وبما أن تأييد الحزب لا يضمن لأي مرشح مكاناً في الانتخابات العامة، فإن المرشحين يشاركون في انتخابات أولية واحدة في يونيو، ثم يتقدّم المرشحان الأول والثاني، بصرف النظر عن هويتيهما الحزبية، إلى الانتخابات العامة. وهنا، نالت هاريس تأييد 48 مقاطعة من أصل 58 في ولاية كاليفورنيا، وتغلّبت على منافستها الديمقراطية (أيضاً) سانشيز في الانتخابات العامة، وهذا، بعدما فشل الحزب الجمهوري للمرة الأولى من إيصال مرشح له إلى انتخابات مجلس الشيوخ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تحصل منذ بدأت كاليفورنيا انتخاب أعضاء مجلس شيوخها مباشرة عام 1914.
في 8 نوفمبر 2016، فور فوز هاريس بمقعدها في مجلس الشيوخ، تعهَّدت بحماية المهاجرين من سياسات الرئيس المنتخب دونالد ترمب. ويوم 21 يناير (كانون الثاني) 2017، أي في اليوم الثاني على تنصيب ترمب، وصفت هاريس رسالته بـ«المظلمة»، خلال مشاركتها في أكبر مظاهرة نسائية في واشنطن. ويوم 28 يناير أدانت هاريس القرار الرئاسي الذي أصدره ترمب لمنع مواطني سبع دول غالبيتها مسلمة من دخول الولايات المتحدة، واصفة القرار بأنه يحظر المسلمين.
بعد ذلك، في فبراير من العام نفسه، اعترضت هاريس على ترشيح بيتسي دي فوس وزيرة للتعليم، وجيف سيشنز وزيراً للعدل. وفي أول خطاب لها أمام الكونغرس خصّصت 12 دقيقة لانتقاد سياسات ترمب تجاه المهاجرين. وفي مارس (آذار) طالبت باستقالة سيشنز بعدما تحدّثت تقارير عن اتصاله بالسفير الروسي في واشنطن، سيرغي كيسلياك، مرتين. وفي أعقاب صدور تقرير المحقق الخاص روبرت مولر في قضية التدخل الروسي في انتخابات 2016 وإعاقة التحقيقات، دعمت هاريس المطالبة بعزل الرئيس ترمب. ويوم 14 مارس 2017 اعتبرت أن إلغاء الجمهوريين «برنامج الحماية الصحية» المعروف بـ«أوباما كير» رسالة بأن التأمين الصحي «ترف» وليس حقّاً مدنياً.
ولفتت هاريس انتباه الإعلام الأميركي أكثر خلال جلسة استماع للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، عندما سألت نائب المدعي العام رود روزنشتاين عن علاقته بطرد مدير «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي آي) السابق جايمس كومي. وبسبب طبيعة أسئلتها المُحرجة، خصوصاً أنها محامية وقاضية، بادر كل من السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين والسيناتور ريتشارد بر، رئيس اللجنة، إلى مقاطعتها طالبين منها أن تظهر احتراماً أكبر للشاهد. وهذا، مع أن أعضاء ديمقراطيين في اللجنة ذكروا أنهم طرحوا أسئلة مشابهة على الشاهد، لكنهم لم يتعرّضوا للمقاطعة. وتكرّر الأمر خلال جلسة استماع أخرى مع وزير العدل جيف سيشنز، حيث قاطعها أيضاً ماكين وبر. ووصف سيشنز أسئلتها بأنها تثير أعصابه. وقال شيوخ ديمقراطيون إنها السيناتور الوحيد الذي تجري مقاطعته في جلسات الاستماع بشكل فظّ من قبل رئيس اللجنة. ووصف الإعلام مقاطعتها بأنها سلوك ذكوري تجاه سيدة عضو في مجلس الشيوخ، وبأنها ما كانت لتُقاطع فيما لو كانت رجلاً.
وفي موضوع آخر، انتقدت هاريس رئيس شركة «فيسبوك»، مارك زوكربرغ، بسبب طريقة استخدام الشركة لمعلومات المواطنين، وزارت خلال يونيو 2018 أحد مراكز احتجاز المهاجرين اعتراضاً على سياسة فصل العائلات، وانتقدت خلال جلسة تثبيت قاضي المحكمة العليا بريت كافانوه على اختصار تحقيقات «إف بي آي» في ماضيه.

سياسة خارجية تقليدية
ورد اسم هاريس بين القيادات الديمقراطية التي كانت هدفاً للرسائل المفخّخة التي أُرسِلت عبر البريد، العام الماضي. ودافعت وحدها عن النائبة الأميركية المسلمة إلهان عمر التي انتقدت ما سمته بـ«اللوبي» اليهودي. وقالت هاريس إنه ينبغي أن نحظى بصوت يحترم النقاش حول السياسات بما يضمن دعم إسرائيل والولاء للوطن، وبأن هناك فارقاً بين انتقاد السياسات والسياسيين ومعاداة السامية.
لكنها في المقابل، خلال مؤتمر «أيباك» (أقوى اللوبيات الداعمة لإسرائيل في أميركا) قالت إن إسرائيل ينبغي ألا تكون قضية خلافية بين الحزبين، وتعهدت بالعمل بما في وسعها لضمان أمنها وحقها في الدفاع عن نفسها، ورفضت حركة المقاطعة ضدها. كما أنها أسهمت مع أعضاء آخرين في مجلس الشيوخ في إصدار قانون يعترض على قرار مجلس الأمن الدولي «2334»، الذي يدين إسرائيل بسبب بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلَّة. كما صوتت على قرار في مجلس الشيوخ للاحتفال بالذكرى الخمسين «لتوحيد القدس»، والتقت في نهاية 2017 برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.
مواقفها الأخرى تجاه القضايا العربية تعكس الخط العام المتخبِّط للقادة الديمقراطيين، ففي أبريل (نيسان) 2017 وعلى أثر هجمات خان شيخون الكيميائية في سوريا، وصفت هاريس الرئيس السوري بشار الأسد بأنه «ليس فقط ديكتاتوراً وحشياً ضد شعبه، بل مجرم حرب، لا يمكن للمجتمع الدولي أن يتجاهله». ودعت الرئيس ترمب إلى وضع استراتيجية مع الكونغرس حول سوريا بالتنسيق مع الحلفاء. لكنها في المقابل، تؤيد الاتفاق النووي الإيراني وتنتقد موقف الرئيس دونالد ترمب منه، معتبرة أن إلغاءه يعرّض الأمن القومي للخطر ويعزل الولايات المتحدة عن حلفائها.
واستطراداً، بينما تعتبر هاريس الاتفاق بأنه «أفضل وسيلة لمنع طهران من الحصول على السلاح النووي وتجنب صراع كارثي في الشرق الأوسط»، فإنها صوّتت في مجلس الشيوخ على قرارات لوقف المساعدات العسكرية للمملكة العربية السعودية أو على صفقات السلاح على خلفية حرب اليمن.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.