«رسام المغتربين اللبنانيين»... عشق الأبواب والشبابيك القديمة فأعادها لوحات تضج بالحياة

بالشفر والمسامير والدبابيس استطاع أندريه كالفايان أن يبتكر تقنية رسم خاصة به

TT
20

«رسام المغتربين اللبنانيين»... عشق الأبواب والشبابيك القديمة فأعادها لوحات تضج بالحياة

وحده الفن يسكن روح صاحبه، ويُبصر النور لحظة تُبصره عيناه، وتتنفس رئتاه نسمات الهواء. رسامون عباقرة من التاريخ، بريشة وبضعة ألوان وقطعة قماش وإمضاء صغير يقبع في إحدى زوايا أعمالهم، ينثرون شغفهم بالفن، فتعيش أعمالهم وهم يرحلون.
في أمسية صيفية من أمسيات مدينة جبيل اللبنانية، حيث تتعالى الموسيقى وتنتشر دكاكين الحِرف اليدوية والمطاعم ومحال بيع التذكارات التي تحكي أجزاءً من تاريخ مدينة الحَرف، التقت «الشرق الأوسط» بفنان رسام هاجر أجداده قبل مائة عام من أرمينيا إلى لبنان، واستقروا في جبيل، حيث ولد في عام 1968، ليضيف بأعماله جمالاً على مدينة الجمال، حيث تتلاعب أمواج المياه الدافئة على شواطئ المدينة مقبلة رمالها الذهبية. إنه أندريه كالفايان الذي ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بمدينة الحَرف، مسقط رأسه، فلا يمر زائر في شوارعها القديمة إلا وتستوقفه أعمال كالفايان، وتحرك الروح فيه حنيناً لماضٍ يقبع بين شبابيك قديمة وشرفات مهترئة وأبواب متآكلة وأدراج وبيوت وسيارات ووجوه، تميز بتقديمها بأسلوب خاص به.
لا بدّ لدى مجيء السياح إلى جبيل من زيارة معرض كالفايان، والتعرف عن كثب على صاحب هذه الأنامل المبدعة الذي بات مدرسة بأسلوب رسم ابتكره بنفسه.
يقول كالفايان لـ«الشرق الوسط» إن «الفن موهبة تبدأ منذ الصغر. والإبداع ميزته الشغف. وحدها الموهبة تطغى، وبها فقط يفرض الفنان نفسه على الساحة الفنية، وليس بالتحصيل العلمي».
كالفايان، الذي طالما كان الرسم هاجسه وشغفه منذ الصغر، بنفسه عمل على صقل موهبته، فلم يدخل معهداً، ولم يتخرج من جامعات الفنون العالمية. فكان الأستاذ والتلميذ معاً. وبالاطلاع والمطالعة استطاع أن يحفر اسمه في عالم الرسم.
يقول كالفايان: «منذ أكثر من مائة عام، شاء القدر أن يهاجر أجدادي إلى لبنان، وأن يستقروا في مدينة الحَرف، حيث وُلدت. وفي تاريخنا الأرمني أمور تعود بنا دوماً إلى الماضي. هذا الحنين إلى القِدم لا نعرف له تفسيراً». ويضيف: «المواضيع التي عملت عليها في رسوماتي هي عبارة عن أشياء قديمة مرّ عليها الزمن».
طريقة مختلفة تميز عمله، فعندما نقول رسم ولوحة، فأول ما يخطر على البال مجموعة متنوعة من الريش، ولكن مع كالفايان يختلف الأمر، فلا فضل لريشة على أعماله. فما هي عدته؟ يرد: «أعمل بالمسامير والشفر والدبابيس. واستخدم الألوان الزيتية على القماش. لي تقنية خاصة بي، ومدرسة تحمل هويتي الشخصية، بالعدة التي هي ملكي؛ إنها عملية رسم خاصة بي».
- الأبواب والشبابيك
في عام 1994، ظهر اسم كالفايان في عالم الرسم، وتميز بعلاقته بالشبابيك القديمة والأبواب العتيقة والشرفات المتآكلة، ليشتهر بها تحديداً في عام 2000. وعنها يقول: «عُرفت بها، رغم عملي على كثير من المواضيع الأخرى، بيد أن حكايتي معها طويلة، وهي بالفعل تجذب اهتمام المغتربين اللبنانيين، والمهاجرين منهم إلى أقاصي البلاد، منذ زمن بعيد». ويتابع: «من صفات الفنان الأصيل المبدع أن يكون له هاجس، وقبل أن يحصل على لقب (فنان)، لا بد أن يكون على علم ومعرفة بما يريد، ومختلفاً في اختياره للمواضيع التي يعمل عليها، وبالتقنية التي سيعتمدها». ويُوضح قائلاً: «عشقت الأبواب والشبابيك والشرفات، فقد مر زمن طويل عليها، وباتت مهملة. رسالتي منها موجهة للناظر ولمحبي الفن، ليروا الجمال في كل قديم. فهذا الموضوع البسيط جداً لاقى صدى كبيراً بسبب الصدق مع الذات الذي يُظهر حقيقة الإبداع، بكل ما يجري في عروقه من دماء وأصالة وتقنية». ويبتسم قائلاً باللهجة اللبنانية: «في الفن، هناك مرجلة بالتقنية والمقدرة».
وجوه مسنين وسيارات تاكسي
لكالفايان لمسة خاصة وأسلوب يميز رسوماته عن جميع الرسامين، فلا حاجة لقراءة توقيعه في أسفل لوحاته، إنه ذلك الحنين الممزوج بين الحداثة ونور التجديد في الألوان وبين الأشياء القديمة المهترئة، الذي يدغدغ ذاكرتك، ويحيي فيك شعوراً طفولياً لماضٍ قضى وبقيت آثاره محفورة في تجاعيد وجوه رجال ونساءٍ مسنين تتخبط بين ابتسامة خجولة تلفحها لمحة حزن تَدمع لها العيون أحياناً. وعنها يقول: «رسمت وجوه مسنين من أهل المجتمع اللبناني، فكنت أحياناً أصور الناس بنفسي، وأحياناً أخرى آخذ صور البعض وأرسمها». ويضيف: «بت أحمل صفة رسام (المغتربين اللبنانيين)، ولا يعني ذلك أن مواضيعي خاصة بالذوق اللبناني فقط، بل يتذوقها كثيرٌ من السياح في كثير من أنحاء العالم. أما السيارات، فقد بدأت علاقتي معها من التاكسي اللبناني القديم، ولكنني مع مرور الوقت عشقتها، وبدأت أرسم أنواعاً كثيرة منها».
- معارضه
لم يكن هدفه يوماً الظهور على شاشات التلفزة، ولم يسع وراء جائزة. في رأيه، الإعلام لا يصنع فناناً، وكتابة مقالات عن أعماله لا تجعل منه، أو من أي رسام آخر، فناناً مشهوراً، فكل عظماء التاريخ لم يمتلكوا شيئاً في حياتهم، ولم يسعوا يوماً للترويج لأعمالهم، بل هي التي تكلمت عنهم وأدرجت أسماءهم بين العظماء.
شارك كالفايان في عدد كبير من المعارض، كما نظم أخرى جماعية. فله معارض في لبنان وخارجه، وجميعها كانت شخصية فردية. ويتابع لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «أنظم معارضي بنفسي، وأهتم بأدق تفاصيلها، ولا أرغب في أن ينظمها لي أي غاليري».
ولا يستطيع كالفايان خلال حديثه فصل السياسة عن الفن، فهي في قلبه هم كبير، وحبه للبنان، وخوفه على مصير أولاده ومستقبلهم في هذا البلد، دفعه لخوض حديث سياسي، وإعطاء رأيه. وحسب رأيه، فهو لبناني وفرد من هذا المجتمع، ولا بد له أن ينتقد ويصرح عن رأيه. ورغم جميع المحاولات لإعادته إلى موضوع الفن، أصرّ على قوله: «أنا فنان، ولا يستطيع أحد أن يغسل دماغي».
وعن الجوائز التي حازها، يقول كالفايان: «اهتم الإعلام المرئي والمسموع المحلي والعربي، وبعض من وسائل الإعلام العالمية، بأعمالي، بعد إبداء دهشتهم برسوماتي، وتقديرهم لها وللطريقة التي أستخدمها لإخراج لوحاتي». ويستطرد: «قدرني الناس، وتسلمت كثيراً من الدروع والجوائز، ولا بد من التوضيح أن جميعها كانت من دون أي هدف شخصي، بل تقديراً من قبل الناس. وآخرها كان جائزة (بياف) التي حزتها في عام 2018؛ قُدمت وقتها في ساحة النجمة قرب مجلس النواب. وكان هناك حضور لافت لفنانين من لبنان والعالم العربي وفنانين عالميين. كنت فخورا بأنني كنت واحداً من بين الأشخاص الذين تسلموا الجوائز التقديرية. في الحقيقة، إنها حالة نادرة أن تحصل مع فنان (رسام)، فأنا لست نجماً سينمائياً ولا مطرباً، ولكنني أعتبر نفسي كبيراً في مجال الفن، وما قدمته في حياتي من أعمال. ولا أقبل أن أُصنف بأقل من ذلك».
تكريم آخر كان لكافايان من قبل جامعة هايغازيان التي نظمت معرضاً خاصاً به، بمناسبة اليوبيل الخمسين لتأسيسها. كما افتتحت مدرسة القلبين الأقدسين - البوشرية صالة خاصة تحمل اسمه، بمناسبة مرور مائة عام على «المجازر الأرمنية».
ويختم حديثه بأنّه ابن مدينة جبيل، وهو موجود في ساحتها الفنية منذ أكثر من ثلاثين سنة، اهتم ولا يزال بكل نوع من أنواع الفنون التي تستضيفها المدينة، وبالفعل «لطالما احتضنت شوارعها نحاتين ورسامين، وكنا ننجز أعمالاً تُشعر المارَ بها بالسعادة، وتريح نظره بكم الجمال والفن اللذين يحيطان به».



الأوبرا المصرية تستعيد أعمال سيد مكاوي في ذكرى رحيله

الأوبرا المصرية تحتفي بسيد مكاوي (دار الأوبرا المصرية)
الأوبرا المصرية تحتفي بسيد مكاوي (دار الأوبرا المصرية)
TT
20

الأوبرا المصرية تستعيد أعمال سيد مكاوي في ذكرى رحيله

الأوبرا المصرية تحتفي بسيد مكاوي (دار الأوبرا المصرية)
الأوبرا المصرية تحتفي بسيد مكاوي (دار الأوبرا المصرية)

احتفلت الأوبرا المصرية بذكرى رحيل الموسيقار سيد مكاوي من خلال تقديم روائع ألحانه لكبار المطربين في حفل، مساء الخميس، بالتزامن مع فعاليات أقامها صندوق التنمية الثقافية بالقاهرة الفاطمية احتفاء بالموسيقار الراحل وبالشاعر صلاح جاهين.

فعلى المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية قدمت فرقة الموسيقى العربية للتراث بقيادة المايسترو الدكتور محمد الموجي، عدداً من ألحان الموسيقار الراحل سيد مكاوى، التى تحمل طابعاً مميزاً يمزج الأصالة بالحداثة، من بينها أغاني «أوقاتي بتحلو»، و«شعورى ناحيتك»، و«مصر دايماً مصر»، و«الصهبجية»، و«أنا هنا يا ابن الحلال»، و«وحياتك يا حبيبي»، و«قال إيه بيسألوني»، و«اسأل مرة عليا»، و«حلوين من يومنا»، و«الأرض بتتكلم عربي»، إلى جانب نخبة من الألحان التى جمعت بصمات عدد من كبار الموسيقيين، وفق بيان للأوبرا المصرية.

فيما نظم صندوق التنمية الثقافية، فعالية بعنوان «ليلة الوفاء: في ذكرى رحيل صلاح جاهين وسيد مكاوي»، في قصر الأمير طاز بالقاهرة التاريخية، تكريماً لمسيرة اثنين من أبرز رموز الفن والثقافة في مصر، وتضمنت افتتاح معرض كاريكاتير، بالتعاون مع الجمعية المصرية للكاريكاتير، يضم لوحات تجسّد ملامح من سيرة مكاوي وجاهين، وتعكس تأثيرهما العميق في الوجدان المصري، وتعيد تقديمهما برؤية فنية معاصرة.

وشارك في الفعالية المعماري حمدي السطوحي، رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية، بتقديم عرض تفاعلي بعنوان «رباعيات معمارية»، بمشاركة المخرجة والممثلة عبير لطفي، في تجربة فنية تتداخل فيها عناصر الشعر والصورة مع المعمار، مستوحاة من الرباعيات الشهيرة لصلاح جاهين وأعماله مع الفنان سيد مكاوي.

ويتضمن البرنامج عرضاً فنياً لنتاج ورشة «لحن وكلمة»، التي أُقيمت بإشراف الدكتور علاء فتحي والشاعر سامح محجوب بالتعاون مع الشاعر جمال فتحي والموسيقار خالد عبد الغفار، بتقديم أعمال فنية مستوحاة من تراث جاهين ومكاوي، وتُعيد تقديمهم من منظور إبداعي معاصر.

جانب من احتفالية احتفاء بسيد مكاوي وصلاح جاهين بقصر الأمير طاز (الشرق الأوسط)
جانب من احتفالية احتفاء بسيد مكاوي وصلاح جاهين بقصر الأمير طاز (الشرق الأوسط)

ويقول الشاعر جمال فتحي: «الاحتفالية في قصر الأمير طاز انطلقت من فكرة الاحتفاء بسيد مكاوي وصلاح جاهين، وقدمنا أوبريت من كتابتي بعنوان (شارع البخت) نتاج ورشة عمل بين بيت الشعر العربي وبيت الغناء العربي، وقدمنا في البداية تحية للرمزين الكبيرين وذكرنا عملهما الخالد (الليلة الكبيرة)».

وأضاف فتحي لـ«الشرق الأوسط»: «قدمنا خلال الاحتفالية فكرة مختلفة للاحتفاء بالموسيقار سيد مكاوي والشاعر صلاح جاهين، لنؤكد على امتداد إبداعهما عبر الأجيال التالية»، وأوضح أن «سيد مكاوي يمثل بصمة خاصة في عالم الموسيقى والغناء، فقد أخد الطابع الموسيقي التعبيري لدى سيد درويش مع الطابع الطربي لدى زكريا أحمد وجمع بين السمتين في بصمة خاصة تميز أعماله التي اشتهر بها مع أم كلثوم، أو فؤاد حداد في (المسحراتي) أو أعماله في الإذاعة، كل ذلك ترك بصمة في الوجدان وفي الموسيقى المصرية».

وبالتزامن؛ نظم مركز إبداع بيت السحيمي بشارع المعز، عرضاً فنياً بعنوان «رباعيات من زمن فات» لفرقة «ومضة» لعروض خيال الظل والأراجوز، سلطت الضوء على مسيرة (جاهين ومكاوي) الفنية والشخصية، وقدمت نماذج مختارة من أعمالهما الخالدة التي لا تزال تُشكّل علامة فارقة في تاريخ الشعر والغناء والموسيقى المصرية.