مقاتلو «داعش» الأوروبيون بين سحب الجنسية والمحكمة الدولية

بعد صدور أحكام الإعدام على 9 فرنسيين من مسلحي التنظيم

نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية  الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
TT

مقاتلو «داعش» الأوروبيون بين سحب الجنسية والمحكمة الدولية

نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية  الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)

عادت مشكلة الأوروبيين الملتحقين بـ«داعش» بين عامي 2014 و2018 إلى واجهة الأحداث، فقد ناقشت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه بداية الشهر الجاري مقترحاً، مع بلدان أوروبية، يقضي بتشكيل محكمة دولية لمحاكمة الإرهابيين الأجانب في تنظيم «داعش».
وأشارت وزيرة العدل الفرنسية بيلوبيه لوسائل الإعلام إلى أن هذا المقترح طُرح على المستوى الأوروبي مع وزراء الداخلية والعدل «بمجموعة فندوم» التي تضم وزراء العدل الألماني والإسباني والإيطالي. ورغم أن هذا التحرك الفرنسي يأتي بعد صدور أحكام الإعدام على 9 من مقاتلي «داعش» الفرنسيين، فإن بعض التقديرات الدولية تشير إلى أن نحو ألف رجل وامرأة، وكثير من الأطفال، محتجزون من طرف القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا والعراق.
وتحاول الولايات المتحدة منذ بداية سنة 2019 ممارسة مزيد من الضغط على الأوروبيين لاسترجاع المقاتلين السابقين في صفوف «داعش»؛ هذا الضغط الذي بدأه الرئيس ترمب بتغريدتين في فبراير (شباط) 2019 على حلفائه الأوروبيين، لتقديم هؤلاء المحتجزين للمحاكمة في بلدانهم الأصلية، حيث أكد أنه يتعين على فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وغيرها، أن تعيد 800 رجل من أوروبا من بين المقاتلين المحتجزين. وحذر الرئيس الأميركي ترمب من أنه قد يُطلق سراح «الدواعش» بالعراق، ومن المحتمل أن يعودوا إلى أوروبا لارتكاب جرائم جديدة. ويبدو أن هذا الطلب الأميركي أثار قضية عصية لحد الآن على العلاج أوروبياً، حيث لا يزال الاختلاف بشأن مكان المحاكمة، والصعوبات القانونية المرافقة له، من دون حل.
وإن كانت الدول الأوروبية عملياً قد تركت للقوات الكردية بالعراق مهمة إدارة هذه الأزمة حالياً، فإن الأوروبيين ينتقدون سياسة البيت الأبيض بخصوص محاكمة «الدواعش» الأوروبيين في بلدانهم الأصلية، مشيرين إلى معارضة الرئيس ترمب إعادة الأميركية بصفوف «داعش» هدى مثنى، البالغة من العمر 24 عاماً، التي سافرت إلى سوريا عام 2014، وألغت إدارة أوباما جواز سفرها سنة 2016.
وفي السياق الأوروبي، كانت الحكومة السويدية قد اقترحت منذ الأشهر الأولى من سنة 2019 إنشاء محكمة دولية مخصصة لمقاتلي «داعش». ويبدو أن انضمام فرنسا للمقترح يأتي في سياق البحث عن حل لمشكلة أوروبية لها طابع قانوني وإنساني صعب. فعملية إنشاء المحكمة الدولية تواجه بصعوبات جمة، لا تتعلق فقط بمكان المحكمة، بل تتعداه لاختصاصاتها، والكيفية التي ستتعامل بها المحكمة مع آلاف من المقاتلين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية. وفي هذا الإطار، يُنظر إلى تجربة المحاكم المماثلة في روندا ويوغوسلافيا السابقة على أنها مكلفة وذات مردود ضعيف. ويمتد التباين والاختلاف بين الأوروبيين ليصل المقاربة الإنسانية، فقد قامت السويد مؤخراً بإعادة الأطفال اليتامى السبعة لمقاتلي «داعش» في 7 مايو (أيار) 2019. وجاء هذا القرار بعد ضغط من أجداد الأطفال، وبعض الجمعيات المدنية والحقوقية السويدية، مما دفع وزيرة الخارجية السويدية مارغوت فالستروم، في 13 أبريل (نيسان) 2019، لفتح باب إمكانية استعادة الأطفال. واعتبرت فالستروم أن «السلطات وبلديات السويد يمكنها التعاون مع المنظمات الدولية لاستقبال الأطفال، فالوضع في المعسكر صعب جداً، ومن المهم أن تكون هناك جهود إنسانية، وبلدنا على تواصل حالياً مع مجموعة دول الشمال للقيام بعمل مشترك»، وأضافت أن «القلب يعتصر لرؤية الأطفال يعانون، ونحن لا نؤمن بأن الخطيئة يمكن أن تورث».
من جهتها، خططت فرنسا في البداية لإعادة نحو 150 طفلاً من أسر مقاتلي «داعش» الفرنسيين من سوريا والعراق، لكن الحكومة تراجعت؛ وفسر ذلك بخوفها من رد الفعل الشعبي الرافض لهذه العملية. ومن جهتها، اعتبرت الحكومة الدانماركية مقاتليها وأسرهم من «داعش» ممن «أداروا ظهورهم للدانمارك». وكانت صحيفة «ديفينس بوست»، الأميركية المتخصصة في الأخبار العسكرية، قد أشارت في 13 مايو 2019 إلى أن دول القوقاز وألمانيا والسويد هي أهم الدول التي تعيد أطفالها من «داعش» بمعسكرات في سوريا والعراق.

بداية القضية
وتعود أصول هذه الإشكالية بالخصوص لبداية سنة 2014 وما بعدها، حيث شكل استقطاب آلاف المقاتلين الأجانب واحداً من مصادر توحش وقوة تنظيم أبي بكر البغدادي. وفي ذلك الوقت، ظهر تقليد غريب في وسط الإرهابيين، حيث انتشرت الأشرطة المصورة لحرق جوازات السفر الأصلية من المقاتلين الأجانب، خصوصاً الأوروبيين الملتحقين بدولة «داعش».
ومع توالي هزائم «داعش»، واندحاره النهائي بداية 2019، ظهرت للسطح مشكلة الأطفال من دون جنسية، والعالقين بمخيم يضم 76 ألف لاجئ بالعراق. كما برزت على المستوى الدولي إشكالية استعادة المقاتلين، ورفض دولهم لهم، مع اتخاذ تدابير عملية لعرقلة أي ترحيل محتمل لدولهم الأصلية. وفي هذا السياق، أشارت مجلة الشؤون الخارجية الأميركية (تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية)، في المقال المنشور بتاريخ 6 يونيو (حزيران) الجاري، للكاتب جيتيت كلاوسن، بعنوان «انضمام آلاف الغربيين إلى (داعش)... هل يجب السماح لهم بالعودة؟»، إلى تجربة البريطانية شميمة بيغوم التي انتقلت سنة 2015 في عمر 15 عاماً، حيث هربت بيغوم وصديقان لها من المدرسة من المنزل في شرق لندن، وتوجهوا إلى إسطنبول، ومن هناك استقلوا حافلة إلى الحدود السورية، ووصلوا في النهاية إلى الرقة، حيث انضموا إلى «داعش».
وبمجرد وصول شميمة لعاصمة «داعش»، انخرطت في سلك «العرائس الجهاديات» اللائي يتم إعدادهن من قبل المجندين عبر الإنترنت للزواج من المقاتلين المتشددين في سوريا.
وفي مقابلة أجرتها معها «التايمز» في فبراير (شباط) الماضي، كشفت شيماء بيغوم عن صورة مختلفة لم تكن معروفة عنها. فبعد أن تعقبها صحافي في معسكر للأمم المتحدة مترامي الأطراف للمشردين داخلياً في شرق سوريا، أوضحت بيغوم أنها هربت إلى «داعش» بحثاً عن «عائلة مثالية»، وأنها لم تندم على شيء، وقالت إن رؤية رأس مقطوعة في سلة مهملات يمكن أن «لا تثير غضبها». وفي مقابلة لاحقة مع «هيئة الإذاعة البريطانية»، أشارت إلى أن تفجير مانشستر 2017 كان «نوعاً من الانتقام» لهجمات الغرب على «داعش».
وأنجبت بيغوم وزوجها الداعشي الهولندي ياجو ريدجيك 3 أطفال ماتوا جميعاً، بينما الزوج البالغ من العمر الآن 27 عاماً محتجز في معسكر اعتقال كردي في شمال سوريا، وقد أبدى رغبته في العودة إلى هولندا مع شيماء.
ومن جهتها، أدانت الحكومة الهولندية ريدجيك غيابياً بالانضمام إلى منظمة إرهابية، وهو على لائحة المشتبه فيهم بخصوص عملية إرهابية تهم مدينته في 2018. كما اعتبرت الحكومة زواجه من بيغوم غير قانوني، فلا يحق لهما لم شمل الأسرة في هولندا، أو في أي مكان آخر.

صعوبات قانونية
وبالعودة للزاوية القانونية، تجد الحكومات الأوروبية صعوبة بالغة في معالجة هذه الإشكالية؛ ذلك أن محاكمة «الدواعش» الأوروبيين له جوانب متشعبة، بعضها قانوني والآخر سياسي وأمني. ومن ذلك أن بعض الدول الأوروبية لا تعتبر السفر إلى الخارج للانضمام إلى النزاع المسلح في سوريا وشمال أفريقيا عملاً إجرامياً دائماً، ولم تجرِم السويد مثلاً هذا السفر إلا في عام 2016، مما يعني أنه لا يمكن توجيه الاتهام لأي مقيم سويدي سافر قبل ذلك إلا لجرائم محددة ارتكبت في منطقة النزاع.
من جانب آخر، لا تسمح معظم الدول الأوروبية بالاحتجاز قبل المحاكمة لأكثر من يومين إلى 14 يوماً، وقد ثبت أنه من الصعب مراقبة أعداد كبيرة من المشتبه بهم لفترات طويلة، مع ما يطرحه ذلك من تكلفة مالية باهظة.
ومن جهة أخرى، تتخوف الحكومات الأوروبية من انتقال التطرف إلى سجونها، إذا ما قبلت بعودة المئات من مقاتلي «داعش»، وتمكنت من الزج بهم في السجون الأوروبية.
وعليه، تعمل الحكومات الأوروبية، بقيادة السويد وفرنسا، لاستحداث محكمة دولية تبعد خطر المقاتلين من الجغرافية الأوروبية، وفي الوقت نفسه تضمن ملاحقة قضائية تتوافق والمعايير الدولية للمحاكمة العادلة. وفي هذا الإطار، قال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني تيريزا ماي: «يجب تقديم المقاتلين الأجانب إلى العدالة، وفقاً للإجراءات القانونية الواجبة في الولاية القضائية الأكثر ملاءمة». أما وزارة الخارجية الألمانية، فقالت إن إعادة المحتجزين من «الدواعش» إلى الوطن «صعبة للغاية».
ويبدو أن المسعى الفرنسي السويدي القاضي باستحداث محكمة دولية ليس بالأمر السهل. فمن جهة يحظر القانون الأوروبي تسليم المشتبه فيهم للمحاكمة في بلدان قد يواجهون فيها عقوبة الإعدام، أو يتعرضون لظروف غير إنسانية في السجن، ومن جهة ثانية ظهر من تقارير أعدها صحافيون غربيون حضروا المحاكمات الأخيرة ببغداد أن القضاء العراقي معيب، حيث سجل الصحافيون أن بعض المحاكمات استمرت لمدة 10 دقائق فقط، كما يتم إعدام الرجال والنساء المحكوم عليهم بالإعدام على الفور! وشملت هذه الأحكام أكثر من 3 بلجيكيين و11 مواطناً فرنسياً على الأقل، إلى حدود نهاية شهر مايو 2019. وقد أبلغت وزارة الخارجية الفرنسية السلطات العراقية رفضها تنفيذ عقوبة الإعدام على مواطنيها، لكن فرنسا ظلت على رأيها الرافض لمحاكمة مواطنيها المقاتلين بـ«داعش» على أراضيها.
ويبدو أن تعقد الإشكالية دفع بعض الحكومات الأوروبية للبحث عن الحل السهل. فقد أشارت جريدة «الإندبندنت» في مايو (أيار) الماضي إلى أنه تم تجريد ما لا يقل عن 150 مواطناً بريطانياً من جنسيتهم منذ عام 2010، وهو النهج نفسه الذي تبنته كل من أستراليا وبلجيكا والدانمارك والولايات المتحدة، حيث ألغت كل هذه الدول جنسية مواطنيها الملتحقين بـ«داعش»، فيما تناقش دول أخرى (منها سويسرا والنمسا وألمانيا) سن قوانين تسمح لها بذلك، أو البحث عن حلول بديلة.
ومن المؤكد أن سحب الجنسية يواجه بعض الصعوبات القضائية والحقوقية، حيث ألغت بعض المحاكم الأوروبية سحب جنسية الأشخاص المدانين بارتكاب جرائم خطيرة مثل الإرهاب، خصوصا الذين لا يحملون جنسية مزدوجة.
ومن ذلك ما حدث أواخر عام 2018، حيث قام قاضٍ بريطاني بمنع قرار الحكومة تجريد اثنين من المتطرفين من جوازات سفرهما، وأكد أنهما لا يتمتعان بجنسية بديلة صالحة.
ويبدو أنه لا وجود لحل عاجل لمن تبقى على قيد الحياة من نحو 1200 مقاتل أوروبي في صفوف «داعش»؛ ذلك أن القوانين الأوروبية وشرعة حقوق الإنسان الدولية لا تؤيد حل سحب الجنسية، كما أن الوصول إلى اقتراح إقامة محكمة دولية يواجه مشكلات قانونية متشابكة قد تعصف به، ليترك مقاتلو «داعش» الأوروبيون وأسرهم يواجهون مصيرهم المحتوم بالعراق وسوريا.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.