مقاتلو «داعش» الأوروبيون بين سحب الجنسية والمحكمة الدولية

بعد صدور أحكام الإعدام على 9 فرنسيين من مسلحي التنظيم

نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية  الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
TT

مقاتلو «داعش» الأوروبيون بين سحب الجنسية والمحكمة الدولية

نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية  الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)

عادت مشكلة الأوروبيين الملتحقين بـ«داعش» بين عامي 2014 و2018 إلى واجهة الأحداث، فقد ناقشت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه بداية الشهر الجاري مقترحاً، مع بلدان أوروبية، يقضي بتشكيل محكمة دولية لمحاكمة الإرهابيين الأجانب في تنظيم «داعش».
وأشارت وزيرة العدل الفرنسية بيلوبيه لوسائل الإعلام إلى أن هذا المقترح طُرح على المستوى الأوروبي مع وزراء الداخلية والعدل «بمجموعة فندوم» التي تضم وزراء العدل الألماني والإسباني والإيطالي. ورغم أن هذا التحرك الفرنسي يأتي بعد صدور أحكام الإعدام على 9 من مقاتلي «داعش» الفرنسيين، فإن بعض التقديرات الدولية تشير إلى أن نحو ألف رجل وامرأة، وكثير من الأطفال، محتجزون من طرف القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا والعراق.
وتحاول الولايات المتحدة منذ بداية سنة 2019 ممارسة مزيد من الضغط على الأوروبيين لاسترجاع المقاتلين السابقين في صفوف «داعش»؛ هذا الضغط الذي بدأه الرئيس ترمب بتغريدتين في فبراير (شباط) 2019 على حلفائه الأوروبيين، لتقديم هؤلاء المحتجزين للمحاكمة في بلدانهم الأصلية، حيث أكد أنه يتعين على فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وغيرها، أن تعيد 800 رجل من أوروبا من بين المقاتلين المحتجزين. وحذر الرئيس الأميركي ترمب من أنه قد يُطلق سراح «الدواعش» بالعراق، ومن المحتمل أن يعودوا إلى أوروبا لارتكاب جرائم جديدة. ويبدو أن هذا الطلب الأميركي أثار قضية عصية لحد الآن على العلاج أوروبياً، حيث لا يزال الاختلاف بشأن مكان المحاكمة، والصعوبات القانونية المرافقة له، من دون حل.
وإن كانت الدول الأوروبية عملياً قد تركت للقوات الكردية بالعراق مهمة إدارة هذه الأزمة حالياً، فإن الأوروبيين ينتقدون سياسة البيت الأبيض بخصوص محاكمة «الدواعش» الأوروبيين في بلدانهم الأصلية، مشيرين إلى معارضة الرئيس ترمب إعادة الأميركية بصفوف «داعش» هدى مثنى، البالغة من العمر 24 عاماً، التي سافرت إلى سوريا عام 2014، وألغت إدارة أوباما جواز سفرها سنة 2016.
وفي السياق الأوروبي، كانت الحكومة السويدية قد اقترحت منذ الأشهر الأولى من سنة 2019 إنشاء محكمة دولية مخصصة لمقاتلي «داعش». ويبدو أن انضمام فرنسا للمقترح يأتي في سياق البحث عن حل لمشكلة أوروبية لها طابع قانوني وإنساني صعب. فعملية إنشاء المحكمة الدولية تواجه بصعوبات جمة، لا تتعلق فقط بمكان المحكمة، بل تتعداه لاختصاصاتها، والكيفية التي ستتعامل بها المحكمة مع آلاف من المقاتلين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية. وفي هذا الإطار، يُنظر إلى تجربة المحاكم المماثلة في روندا ويوغوسلافيا السابقة على أنها مكلفة وذات مردود ضعيف. ويمتد التباين والاختلاف بين الأوروبيين ليصل المقاربة الإنسانية، فقد قامت السويد مؤخراً بإعادة الأطفال اليتامى السبعة لمقاتلي «داعش» في 7 مايو (أيار) 2019. وجاء هذا القرار بعد ضغط من أجداد الأطفال، وبعض الجمعيات المدنية والحقوقية السويدية، مما دفع وزيرة الخارجية السويدية مارغوت فالستروم، في 13 أبريل (نيسان) 2019، لفتح باب إمكانية استعادة الأطفال. واعتبرت فالستروم أن «السلطات وبلديات السويد يمكنها التعاون مع المنظمات الدولية لاستقبال الأطفال، فالوضع في المعسكر صعب جداً، ومن المهم أن تكون هناك جهود إنسانية، وبلدنا على تواصل حالياً مع مجموعة دول الشمال للقيام بعمل مشترك»، وأضافت أن «القلب يعتصر لرؤية الأطفال يعانون، ونحن لا نؤمن بأن الخطيئة يمكن أن تورث».
من جهتها، خططت فرنسا في البداية لإعادة نحو 150 طفلاً من أسر مقاتلي «داعش» الفرنسيين من سوريا والعراق، لكن الحكومة تراجعت؛ وفسر ذلك بخوفها من رد الفعل الشعبي الرافض لهذه العملية. ومن جهتها، اعتبرت الحكومة الدانماركية مقاتليها وأسرهم من «داعش» ممن «أداروا ظهورهم للدانمارك». وكانت صحيفة «ديفينس بوست»، الأميركية المتخصصة في الأخبار العسكرية، قد أشارت في 13 مايو 2019 إلى أن دول القوقاز وألمانيا والسويد هي أهم الدول التي تعيد أطفالها من «داعش» بمعسكرات في سوريا والعراق.

بداية القضية
وتعود أصول هذه الإشكالية بالخصوص لبداية سنة 2014 وما بعدها، حيث شكل استقطاب آلاف المقاتلين الأجانب واحداً من مصادر توحش وقوة تنظيم أبي بكر البغدادي. وفي ذلك الوقت، ظهر تقليد غريب في وسط الإرهابيين، حيث انتشرت الأشرطة المصورة لحرق جوازات السفر الأصلية من المقاتلين الأجانب، خصوصاً الأوروبيين الملتحقين بدولة «داعش».
ومع توالي هزائم «داعش»، واندحاره النهائي بداية 2019، ظهرت للسطح مشكلة الأطفال من دون جنسية، والعالقين بمخيم يضم 76 ألف لاجئ بالعراق. كما برزت على المستوى الدولي إشكالية استعادة المقاتلين، ورفض دولهم لهم، مع اتخاذ تدابير عملية لعرقلة أي ترحيل محتمل لدولهم الأصلية. وفي هذا السياق، أشارت مجلة الشؤون الخارجية الأميركية (تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية)، في المقال المنشور بتاريخ 6 يونيو (حزيران) الجاري، للكاتب جيتيت كلاوسن، بعنوان «انضمام آلاف الغربيين إلى (داعش)... هل يجب السماح لهم بالعودة؟»، إلى تجربة البريطانية شميمة بيغوم التي انتقلت سنة 2015 في عمر 15 عاماً، حيث هربت بيغوم وصديقان لها من المدرسة من المنزل في شرق لندن، وتوجهوا إلى إسطنبول، ومن هناك استقلوا حافلة إلى الحدود السورية، ووصلوا في النهاية إلى الرقة، حيث انضموا إلى «داعش».
وبمجرد وصول شميمة لعاصمة «داعش»، انخرطت في سلك «العرائس الجهاديات» اللائي يتم إعدادهن من قبل المجندين عبر الإنترنت للزواج من المقاتلين المتشددين في سوريا.
وفي مقابلة أجرتها معها «التايمز» في فبراير (شباط) الماضي، كشفت شيماء بيغوم عن صورة مختلفة لم تكن معروفة عنها. فبعد أن تعقبها صحافي في معسكر للأمم المتحدة مترامي الأطراف للمشردين داخلياً في شرق سوريا، أوضحت بيغوم أنها هربت إلى «داعش» بحثاً عن «عائلة مثالية»، وأنها لم تندم على شيء، وقالت إن رؤية رأس مقطوعة في سلة مهملات يمكن أن «لا تثير غضبها». وفي مقابلة لاحقة مع «هيئة الإذاعة البريطانية»، أشارت إلى أن تفجير مانشستر 2017 كان «نوعاً من الانتقام» لهجمات الغرب على «داعش».
وأنجبت بيغوم وزوجها الداعشي الهولندي ياجو ريدجيك 3 أطفال ماتوا جميعاً، بينما الزوج البالغ من العمر الآن 27 عاماً محتجز في معسكر اعتقال كردي في شمال سوريا، وقد أبدى رغبته في العودة إلى هولندا مع شيماء.
ومن جهتها، أدانت الحكومة الهولندية ريدجيك غيابياً بالانضمام إلى منظمة إرهابية، وهو على لائحة المشتبه فيهم بخصوص عملية إرهابية تهم مدينته في 2018. كما اعتبرت الحكومة زواجه من بيغوم غير قانوني، فلا يحق لهما لم شمل الأسرة في هولندا، أو في أي مكان آخر.

صعوبات قانونية
وبالعودة للزاوية القانونية، تجد الحكومات الأوروبية صعوبة بالغة في معالجة هذه الإشكالية؛ ذلك أن محاكمة «الدواعش» الأوروبيين له جوانب متشعبة، بعضها قانوني والآخر سياسي وأمني. ومن ذلك أن بعض الدول الأوروبية لا تعتبر السفر إلى الخارج للانضمام إلى النزاع المسلح في سوريا وشمال أفريقيا عملاً إجرامياً دائماً، ولم تجرِم السويد مثلاً هذا السفر إلا في عام 2016، مما يعني أنه لا يمكن توجيه الاتهام لأي مقيم سويدي سافر قبل ذلك إلا لجرائم محددة ارتكبت في منطقة النزاع.
من جانب آخر، لا تسمح معظم الدول الأوروبية بالاحتجاز قبل المحاكمة لأكثر من يومين إلى 14 يوماً، وقد ثبت أنه من الصعب مراقبة أعداد كبيرة من المشتبه بهم لفترات طويلة، مع ما يطرحه ذلك من تكلفة مالية باهظة.
ومن جهة أخرى، تتخوف الحكومات الأوروبية من انتقال التطرف إلى سجونها، إذا ما قبلت بعودة المئات من مقاتلي «داعش»، وتمكنت من الزج بهم في السجون الأوروبية.
وعليه، تعمل الحكومات الأوروبية، بقيادة السويد وفرنسا، لاستحداث محكمة دولية تبعد خطر المقاتلين من الجغرافية الأوروبية، وفي الوقت نفسه تضمن ملاحقة قضائية تتوافق والمعايير الدولية للمحاكمة العادلة. وفي هذا الإطار، قال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني تيريزا ماي: «يجب تقديم المقاتلين الأجانب إلى العدالة، وفقاً للإجراءات القانونية الواجبة في الولاية القضائية الأكثر ملاءمة». أما وزارة الخارجية الألمانية، فقالت إن إعادة المحتجزين من «الدواعش» إلى الوطن «صعبة للغاية».
ويبدو أن المسعى الفرنسي السويدي القاضي باستحداث محكمة دولية ليس بالأمر السهل. فمن جهة يحظر القانون الأوروبي تسليم المشتبه فيهم للمحاكمة في بلدان قد يواجهون فيها عقوبة الإعدام، أو يتعرضون لظروف غير إنسانية في السجن، ومن جهة ثانية ظهر من تقارير أعدها صحافيون غربيون حضروا المحاكمات الأخيرة ببغداد أن القضاء العراقي معيب، حيث سجل الصحافيون أن بعض المحاكمات استمرت لمدة 10 دقائق فقط، كما يتم إعدام الرجال والنساء المحكوم عليهم بالإعدام على الفور! وشملت هذه الأحكام أكثر من 3 بلجيكيين و11 مواطناً فرنسياً على الأقل، إلى حدود نهاية شهر مايو 2019. وقد أبلغت وزارة الخارجية الفرنسية السلطات العراقية رفضها تنفيذ عقوبة الإعدام على مواطنيها، لكن فرنسا ظلت على رأيها الرافض لمحاكمة مواطنيها المقاتلين بـ«داعش» على أراضيها.
ويبدو أن تعقد الإشكالية دفع بعض الحكومات الأوروبية للبحث عن الحل السهل. فقد أشارت جريدة «الإندبندنت» في مايو (أيار) الماضي إلى أنه تم تجريد ما لا يقل عن 150 مواطناً بريطانياً من جنسيتهم منذ عام 2010، وهو النهج نفسه الذي تبنته كل من أستراليا وبلجيكا والدانمارك والولايات المتحدة، حيث ألغت كل هذه الدول جنسية مواطنيها الملتحقين بـ«داعش»، فيما تناقش دول أخرى (منها سويسرا والنمسا وألمانيا) سن قوانين تسمح لها بذلك، أو البحث عن حلول بديلة.
ومن المؤكد أن سحب الجنسية يواجه بعض الصعوبات القضائية والحقوقية، حيث ألغت بعض المحاكم الأوروبية سحب جنسية الأشخاص المدانين بارتكاب جرائم خطيرة مثل الإرهاب، خصوصا الذين لا يحملون جنسية مزدوجة.
ومن ذلك ما حدث أواخر عام 2018، حيث قام قاضٍ بريطاني بمنع قرار الحكومة تجريد اثنين من المتطرفين من جوازات سفرهما، وأكد أنهما لا يتمتعان بجنسية بديلة صالحة.
ويبدو أنه لا وجود لحل عاجل لمن تبقى على قيد الحياة من نحو 1200 مقاتل أوروبي في صفوف «داعش»؛ ذلك أن القوانين الأوروبية وشرعة حقوق الإنسان الدولية لا تؤيد حل سحب الجنسية، كما أن الوصول إلى اقتراح إقامة محكمة دولية يواجه مشكلات قانونية متشابكة قد تعصف به، ليترك مقاتلو «داعش» الأوروبيون وأسرهم يواجهون مصيرهم المحتوم بالعراق وسوريا.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.