«يكاد نفس نمو الاقتصاد الأميركي ينقطع»، تلك هي الحجة التي لا ينفك الراغبون في دفع معدلات الفائدة نحو الانخفاض عن ترديدها... لذا؛ ينتظر من الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) أن ينعطف عن سياسته النقدية المتبعة منذ سنوات عدة، التي مارسها بثقة استناداً إلى معطيات اقتصادية راسخة لم تخب برأيه.
لكن معدلات الفوائد مرتفعة برأي الرئيس دونالد ترمب، الذي لا ينسى التذكير من وقت إلى آخر بضرورة خفضها. أما رئيس «الفيدرالي» جيروم باول، فيزن كلماته بعناية شديدة. وقال في 11 يونيو (حزيران) الحالي: «علينا فعل ما هو ضروري لتحفيز النمو»، لكنه يفضل الانتظار قبل أن ينعطف باتجاه خفض معدلات الفائدة؛ لأنه لا يرى أن النمو «منقطع النفس» كما بدأ يشيع هنا وهناك. لذا؛ فإن قرار التثبيت الذي اتخذ مساء الأربعاء الماضي كان منتظراً، لتبقى المعدلات بين 2.25 و2.5 في المائة، وذلك منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
لكن بعد 4 سنوات من الرفع شبه المتواصل لمواكبة النمو، يبدو - برأي مشجعي التمويل الرخيص - أن الوقت قد حان لتغيير وجهة السياسية النقدية الأميركية وفتح احتمالات الخفض، على أن المتوقع هو 50 نقطة أساس قبل نهاية العام.
وتقول مصادر نقدية تابعت اجتماعات الأربعاء الماضي، إنه تم تداول المعطيات الجديدة التي طرأت منذ الاجتماع السابق للاحتياطي الفيدرالي، ولا سيما الاستماع إلى وجهات النظر التي تؤكد تزايد حالات «اللايقين» التي بدأت تحيط بتوقعات النمو. وهناك الآن حجج إضافية تتراكم لتدعم التحول إلى سياسية نقدية تحفيزية أكثر، بحيث يتخذ «الفيدرالي» القرارات المناسبة لدعم النمو الاقتصادي. والاجتماع المقبل لـ«الفيدرالي» مرتقب في نهاية يوليو (تموز) المقبل، علماً بأن أغلبية المعنيين يتوقعون خفضاً لمعدلات الفائدة في ذلك الاجتماع في موازاة حصول تحول في عوائد السندات.
وكان الاحتياطي الفيدرالي خفض توقعاته لمعدل التضخم هذه السنة إلى مستوى 1.5 في المائة، بدلاً من مستوى 1.8 في المائة كما كان توقع في مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يغير توقعاته للنمو، أي أنه لا يتوقع تباطؤاً. وهنا تكمن حيرته التي يجمع المعنيون على أنها حيرة نادرة قلّ نظيرها؛ لأنه قد يخفض الفائدة من دون قناعة كاملة.
في جانب الأسواق المالية، هناك رهانات سائدة على أن الخوف من تراجع النمو سيدفع حتماً إلى خفض الفائدة. لذا؛ ارتفعت «المؤشرات البورصوية» خلال اليومين الماضيين. علماً بأن جيروم باول قال إن «الفرضيات الاقتصادية الأساسية تبقى مشجعة». فبمعزل عن العجز التجاري الهائل والمستوى المرتفع للدين العام، فإن الوضع الاقتصادي العام جيد نسبياً رغم ظهور بعض علامات انقطاع النفس التي تنشرها الصحف منذ أشهر عدة. فالنمو بمعدل فوق 3 في المائة منذ 12 شهراً، وهو متماسك وقوي؛ الأمر الذي دفع بـ«الفيدرالي» (قبل الآن) إلى التفكير في إبطاء ذلك النمو بعدما هبطت البطالة إلى أحد أدنى مستوياتها التاريخية لتسجل 3.6 في المائة فقط. فبالنسبة لبعض الاقتصاديين المستقلين الداعمين لوجهة نظر الاحتياطي الفيدرالي، هناك أسباب مستمرة لرفع الفائدة لا لخفضها، علماً بأن معدل عوائد سندات الخزينة لأجل 10 سنوات انخفض ليقترب من 2 في المائة.
وتضاف إلى تلك المعضلة معضلة أخرى، متعلقة بانتظار الأسواق المالية بقوة لخفض الفائدة. وهذا بدوره يشكل خوفاً لدى الاحتياطي الفيدرالي؛ لأن الخفض سيفاقم ارتفاع أسعار الأصول المالية وتصعد الأسهم إلى مستويات قد تشكل فقاعة في بعض القطاعات التي تعد أسعار أسهمها مبالغاً فيها قياساً بمعدلات ربحية الشركات. كما أن خفضاً سريعاً للفوائد قد يعطي انطباعاً عن أن الأوضاع الاقتصادية «ليست على ما يرام»، وبالتالي تقلق الأسواق وقد تتراجع وتهبط أسعار أسهم شركات ربحيتها مرتفعة.
في المقابل، يؤكد البعض أن مؤشرات الضعف بادية «ولا لبس فيها». فالتضخم عند 1.79 في المائة، أي أدنى من المعدل الذي وضعه الاحتياطي الفيدرالي (2 في المائة) لقياس النشاط وحماوة الاقتصاد، والحرب التجارية بين واشنطن وبكين قاب قوسين أو أدنى من استعارها أو اندلاعها على نطاق واسع ومؤثر سلباً في النمو الاقتصادي الأميركي؛ حتى أن اقتصاديين يتوقعون ركوداً قصيراً في عام 2020، ويترقبون ما سيقدِم عليه الرئيس ترمب الذي دخل في معركة الانتخابات للفوز بولاية رئاسية ثانية.
فعلى صعيد معدلات الفائدة، سيستمر ترمب في الضغط لخفضها، ويعتقد أن قرارات الرفع التي اتخذت في 2018 ساهمت في تعزيز سعر صرف الدولار الأميركي، وبالتالي فقد الاقتصاد بعض تنافسيته لأن الدولار القوي يؤثر سلباً في الصادرات وفي السياحة. وهذا برأيه يضاعف مفاعيل آثار الحرب التجارية، علماً بأن الرئيس يريد عكس ذلك، أي أنه راغب في تجميع كل الأوراق القوية في يده لمواصلة الضغط على الصين.
وهو يذكّر «الفيدرالي» أيضاً بما يفعله البنك المركزي الأوروبي منذ سنوات لجهة الاستمرار في سياساته التحفيزية والتسهيلية للاقتصاد الأوروبي بأدوات عدة، أبرزها عدم رفع سعر الفائدة على اليورو. لكن «الفيدرالي»، في تريثه وعدم رضوخه، يثبت مرة أخرى تمسكه باستقلاليته وصدقيته.
وكانت وكالة «بلومبرغ» كشفت سابقاً عن معلومات بأن البيت الأبيض طرح سيناريو إقالة باول من منصبه، لكن الأخير قاوم واستمر، وأكد الأربعاء الماضي أنه باقٍ حتى نهاية ولايته. ويدعمه في ذلك أن الاقتصاد الأميركي يواصل النمو للشهر الـ120 على التوالي، أي منذ مرحلة ما بعد دخوله في الركود عام 2009، وهو في أفضل دورة اقتصادية منذ عام 1854 وفقاً لمؤشرات المقارنة التي بين يديه!
ومع ذلك، لا يتوانى اقتصاديون عن تذكير باول بأن علامات «انقطاع النفس» تواصل الإطلال برأسها، ولا سيما بدء تباطؤ نمو الطلب الداخلي وحيرة الاستثمارات وتراجع استهلاك الأفراد والأسر، وذلك بعدما استنفدت «الذخائر» التي تزود بها الاقتصاد عندما زاد الإنفاق العام بقوة في عام 2017.
الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في حيرة من أمره «قلّ نظيرها»
ثبّت الفائدة... ويتحضر لخفضها «دون قناعة كاملة»
الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في حيرة من أمره «قلّ نظيرها»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة