تلك المجلات الأدبية المنقرضة

أولاها صدرت باللغة العربية عام 1907

أغلفة مجلات جزائرية
أغلفة مجلات جزائرية
TT

تلك المجلات الأدبية المنقرضة

أغلفة مجلات جزائرية
أغلفة مجلات جزائرية

صدرت أول مجلة باللغة العربية في الجزائر سنة 1907، وكان عنوانها «الإحياء». وقد أشرفت عليها جان ديريو (1886 - 1914) التي زارت بيروت، والتقت باللبنانية لبيبة هاشم (1880 – 1947) التي أصدرت أول مجلة في مصر بعنوان «فتاة الشرق»، بداية من سنة 1906. وبخلاف مجلة «فتاة الشرق» التي عمرت طويلاً، فإن مجلة «الإحياء» لم تعمر كثيراً، إلا أنه يمكن للباحثين أو المهتمين تصفح أعدادها السبعة المحفوظة في المكتبة الوطنية الباريسية. نقرأ في هذه المجلة الأولى، الموجهة إلى عموم المجتمع، مساهمات أدبية ذات حضور وأهمية تاريخية آنذاك، كالشاعر الجزائري حاج صالح، والكاتب علواني، وغيرهما.
لكن الزمن مرَّ وتغير. جرى كثيراً بسرعة مدوخة، وانقضى، وتطور عميقاً منذئذ. وما فتئ دوره التوثيقي لتاريخ الإبداع يبيّن لنا أن عادات كثيرة في تقاليد قراءة المجلات قد تغيرت، وارتبكت الوسائط التي كانت تستعمل للقراءة من قبل، من الكتاب الورقي إلى المجلة الورقية الشهرية أو الفصلية، وكذا الجريدة الورقية. نكاد نذعن، رغم المكابرة النوستالجية، لأن زمن الورق قد انتهى، أو يكاد، وأن الشاشة والرموز تحل محله، وتكتسح بسرعة جغرافية الورق وملحقاته، من قلم وحبر ومنشفة ومبراة وممحاة ومسطرة.
فإذا كان الكتاب الورقي ما يزال يقاوم بصعوبة زحف الشاشة واللوحة والكتاب الرقمي في بلاد العرب والعربية، فإن المجلة الورقية قد أصبحت أو تكاد من ذكريات الماضي، رغم أن ذلك الزمن لا يبدو بعيداً، ذلك الزمن الذي كان فيه للقارئ في الجزائر أفق انتظار في علاقته بالمجلات العربية التي كانت تصل إلى السوق الجزائرية فيقبل عليها بنهم.
نعم...كان القارئ من بغداد إلى طنجة، مروراً بالجزائر، ينتظر بلهفة صدور مجلة ورقية في بيروت، كمجلة «الآداب» و«الطريق» و«شعر» و«مواقف» و«دراسات» و«الأقلام»، ومجلة «الطليعة الأدبية» و«شؤون عربية» و«المورد» من بغداد، وينتظر «الموقف الأدبي» و«المعرفة» و«الآداب الأجنبية» من دمشق، وينتظر إطلالة «العربي» من الكويت، و«الهلال» و«فصول» و«الطليعة» من القاهرة.
حقاً... كان للقارئ الأدبي منابره كالتي ذكرناها، وللقارئ المهتم بالفنون منابره أيضاً، كـ«الصياد» و«الكواكب» و«الموعد»، وغيرها. وللبلدان المغاربية منابرها من المجلات. ففي تونس، كانت مجلة «فكر» و«قصص» و«الحياة الثقافية»، وفي ليبيا مجلة «الفصول الأربعة»، وفي المغرب ارتبط اسم عبد اللطيف اللعبي بمجلة «أنفاس» التي مثلت منبراً ثقافياً، بل مؤسسة جمعت إليها وعلى صفحاتها أهم الأقلام المغاربية التي تكتب بالفرنسية، ومجلة «الأقلام»... أما في الجزائر فقد كانت مجلة «آمال» التي أسسها وأشرف عليها الكاتب الكبير مالك حداد، وقد استطاعت في نسختها الفرنسية والعربية أن تكون صوت حوار الأجيال الأدبية الجديدة، وإن كانت مجلة «الثقافة»، رغم تقليديتها، ظلت منبراً ينتظره القراء، فتحولت إلى موعد ثقافي مهم في الجزائر.
اليوم، كل هذه المنصات الأدبية رحلت، أو أصبحت من دون موعد، ولا تمثل أي هزة، ولا تشكل أي أفق انتظار لدى القارئ، ولا لدى الكاتب. لقد دفنت مجلة «الثقافة»، رغم محاولات إنعاشها، إذ من المستحيل بعث الروح في الرميم. وأعتقد أن المنبر حين يخون مواعيد قارئه المحب، فإن هذا الأخير يرد بالمثل، فيعرض عن تقليد الانتظار، وينتقل لانشغال أدبي آخر.
حاولت المكتبة الوطنية الجزائرية في الفترة بين 2004 و2007 أن تعيد مجلة «الثقافة» إلى الحياة الثقافية، بعد أن نقلت مسؤوليتها من الوزارة إلى المكتبة الوطنية، ورغم صدور أعداد مهمة وجادة، فإن القارئ كان قد قطع الحبل السري بينه وبين هذا المنبر.
أما مصير مجلة «آمال»، فلا يختلف عن سابقتها مجلة «الثقافة»، فمع كل مجيء لوزير جديد للثقافة، يعِد بمنتهى الحماس ببعث الميت من لحده، ولكنه لا يفتأ أن يعود ليتوسد تراب الصمت وحجر الموت الثقافي. ولأن الماضي ليس دائماً جميلاً، وليس دائماً أفضل من الزمن الذي تلاه، كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف «ميشال سير»، فإن في جزائر الحاضر توجد مجلات ذات بعد فكري رصين، لا تزال تقاوم لتحافظ على صدورها، ولها قراء، وإن كانوا من النخبة، وأذكّر هنا بمجلة «نقد» التي يشرف عليها الباحث المؤرخ الجامعي البروفسور دحو جربال؛ مجلة في العلوم الإنسانية بشكل عام، إلا أنها تصدر بين الفينة والأخرى ملفات عن الفن التشكيلي، والسينما، والمواطنة، والآداب الشعبية، وإنها مجلة خاصة تمتاز بحسها التنويري الجاد، وبطابعها الثقافي الفكري النضالي. إن الذكاء في تجربة مجلة «نقد» يتمثل في أنها توازي بين الطبع الورقي الكلاسيكي الذي حافظت عليه، والنشر الإلكتروني الذي دخلت تجربته بنجاح، فجميع الأعداد متوفرة بشكل ورقي ورقمي في الوقت نفسه، الأمر الذي جعلها تحقق بقاءها، وتحافظ على استمرارية صدورها.
كما أذكر مجلة «إنسانيات» التي تصدر عن المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية (الكراسك)، وتعد منبراً محترماً جاداً، وله أيضاً كثير من القراء والمتتبعين، في الجزائر وفي الخارج، خصوصاً في المؤسسات المهتمة بالبحث العلمي في هذا المجال. وتصنف مجلة «إنسانيات» من بين أهم المجلات المرجعية عالمياً، التي تؤخذ مقالاتها الجادة بكثير من الاحترام والاهتمام، وهي بدورها كذلك تشتغل على الملفات التي تتناول الثقافة الأدبية والفنية، كما تهتم بشؤون التربية وأمور القراءة وغيرها.
من جهة أخرى، فإن إحصائيات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر تقدم أرقاماً خيالية لعدد المجلات التي تصدر عن مخابرها، وكلياتها، وأقسامها في كامل الجامعات الجزائرية التي قارب عددها المائة، إذ تذهب بعض الإحصائيات إلى أن عدد المجلات قد فاق الثلاثمائة مجلة، إلا أنها جميعها لا تتجاوز عتبات مكاتب من يصدرونها، بل أصبحت عبارة عن منابر ينشر فيها بعض الأساتذة مقالات للترقية الجامعية، ثم من المستحيل أن نعثر على أي أثر لمجلة جامعية في السوق، مع العلم أن هذه الوزارة نفسها كانت تصدر مجلة من أهم المنابر في سنوات السبعينات والثمانينات، بعنوان «الثورة والثقافة»، وكانت متوفرة في الأكشاك، ويشرف عليها وقتئذ المسرحي الكبير مصطفى كاتب.
ولا يخفى على أحد أن إنشاء مجلة ثقافية هو في حد ذاته مشروع ثقافي فكري مجتمعي ضروري، إلا أنه أضحى أمراً صعباً، بما يحيطه من عقبات التمويل وتبعاته، والانتظامية في تاريخ الصدور واستمراريته، وفي التوزيع، والتكلفة، والقدرة الشرائية للقراء. ولأنه لا يمكننا تصور بلد من دون مجلات دورية في الآداب والفكر والثقافة والفنون، لأنها هي الرابط بين الأسماء القديمة والجديدة، ووسيلة اتصال وتواصل، فلا بد من التعامل مع الثروة التكنولوجية اليوم، لأنني لا أعتبرها سطوة ولا عائقاً في طريق إصدار المجلات، بل هي في صالحها من حيث التكلفة، والتوزيع، وربح الوقت، والانتشار الأوسع.
فبعد أن كانت من قبل تعتمد في المطبعة التقليدية «اللينوتيپ»، والرصاص، والفلاش، والمجهود المادي والعضلي، فإنها تتحول بفضل ثورة التكنولوجيا إلى كائنات رقمية، قادرة على الارتحال بسرعة مذهلة للقاء مئات الآلاف من القراء، متجاوزة الحدود الجغرافية الكلاسيكية، ومتجاوزة الرقابة بكل أنواعها.
تغير الزمن ومعطياته من حولنا، في الجزائر كما في كل الدول المغاربية والعربية، فهل نستطيع أن نلحق به، رغم حمولة التخلف الثقيلة التي نجرجرها خلفنا؟ وهل نقدر أن نغير أسلوب القراءة وسيكولوجية الاستقبال، من نظام ورقي إلى استقبال رقمي، والعمل على الإشهار لهذه المنابر الإلكترونية للمجلات بكثير من الذكاء الجديد الذي يتناسب وهذا الزمن؟ ربما هو مجرد حلم مجنون!
لكن لا بأس... أليس الجنون، كما يراه شوبنهاور، سوى حلم لا ينتهي؟

- روائية وشاعرة جزائرية



ياسمين مصر: عطر الأجيال وسر البقاء في دلتا النيل

ياسمين مصر: عطر الأجيال وسر البقاء في دلتا النيل
TT

ياسمين مصر: عطر الأجيال وسر البقاء في دلتا النيل

ياسمين مصر: عطر الأجيال وسر البقاء في دلتا النيل

في قلب دلتا النيل، تحتل زراعة الياسمين مكانة خاصة، حيث يُعد هذا النبات العطري جزءاً من تقاليد متوارثة وعصباً اقتصادياً للعديد من العائلات. وفقاً لتقرير لصحيفة «نيويورك تايمز».

بلدة شبرا بلولة، الواقعة على مسافة نحو 50 ميلاً (80 كيلومتراً) شمال القاهرة، تضم نحو 300 فداناً من مزارع الياسمين، الذي يُعرف علمياً بـ«Jasminum grandiflorum»، ويساهم بنسبة 90 في المائة من إنتاج مصر من هذا النبات، بنحو 2500 طن من الأزهار سنوياً.

وعملية قطف الياسمين تتطلب الدقة، حيث تُجمع الزهور في الفجر، وتُنقل إلى معامل خاصة لاستخراج عطرها بطريقة تقليدية؛ إذ تُمرر عبر خزانات مملوءة بالمذيبات، وتخضع للتقطير والتبخير قبل أن تتحول إلى معجون شمعي يُصدّر للعالم لاستخدامه في تصنيع العطور الفاخرة.

ورغم أن الياسمين ليس أصيلاً في مصر، فإن له تاريخاً عريقاً يضرب بجذوره منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام. ويُقال إن التجار جلبوه من بلاد ما بين النهرين، حيث وجدت هذه الزهور طريقها إلى الأدب والشعر العربيين، وأصبحت رمزاً للحب والجمال.

تعود جذور صناعة استخراج الياسمين إلى خمسينات القرن العشرين في مصر، ومع الزمن تحولت بلدة شبرا بلولة إلى مركز رئيسي لهذه الصناعة، معتمدة عليها أنها مصدر رزق رئيسي. ورغم التحديات الاقتصادية، خاصة في ظل ارتفاع معدلات التضخم، يواصل السكان، الذين يبلغ عددهم نحو 20 ألف نسمة، العمل في زراعة الياسمين كجزء من تراثهم الثقافي.

واليوم، يمثل ياسمين مصر نحو نصف مستخلصات العطور العالمية.

خارج مزارع شبرا بلولة، ينتشر «الياسمين العربي» أو «الفل» ذو العطر الزكي في شوارع مصر، حيث يُباع على نواصي الطرق، ويُقدم كهدايا ترمز للمحبة والنقاء، ليبقى الياسمين مكملاً للمشهد اليومي في حياة المصريين ورابطاً عاطفياً بين الأجيال.