الصين تستعين بالغرب «لعولمة» متاحفها

بـ«أكثر من انتعاش»، يصف الملاحظون الزخم الكبير الذي يميز قطاع الصناعات الثقافية الصيني بـ«الثوران»: متاحف ضخمة، قاعات للعرض ومهرجانات ثقافية ترى النور كل يوم وفي كل بلدة. لكن صحوة التنين الصيني تصطدم بحقيقية أخرى تكمن في افتقاد مؤسساته الناشئة المحتوى الثقافي وغياب المهارة الكافية لتسييرها، فرصة ذهبية للغرب الذي يتسابق لمنح خبرته هذا القطاع الواعد.
جاء الزمن الذي تدخل فيه المتاحف معترك التحديات الجيوسياسية وتصبح أداة تأثير فاعلة في يد الدول لبسط نفوذها. منطق جديد يجعل هموم التنين الصيني تتحول من معدلات النمو إلى كيفية ملء المتاحف الضخمة التي يبنيها كل يوم. أكثر من 5000 متحف بميزانية ثماني مليارات دولار، حسب ما جاء في كتاب خبيرة المتاحف كلير جاكوبسن «متاحف الصين الجديدة» (دار نشر برنستون براس) ثمانية منها هي مشاريع مليونية ضخمة من تصميم كبار المعماريين، أمثال الفرنسي جون نوفيل والأميركي ستيفان هول، غير أنها متاحف... شبه فارغة. لحل هذه المعضلة، وعلى غرار مشروع «اللوفر أبوظبي» الذي تم فيه تأجير اسم اللوفر وتحفه لمدة ثلاثين عاماً مقابل مليار يورو، تستعد فرنسا مؤخراً لمد يدها للصين من خلال العمل على مشاريع ثنائية عدة، أهمها مشروع افتتاح جناح جديد لمركز «بومبيدو» الثقافي في مدينة شنغهاي تحت اسم «ويست بوند آرت ميوزيوم». المؤسسة الفرنسية المعروفة ستعير خبرتها ومحتوياتها الفنية للصين لمدة خمس سنوات، منها لوحات لبيكاسو وشاغال وماتيس، وكثير من قطعها الفنية لملء هذا المتحف الضخم الذي يتربع على مساحة 25000 متر مربع. المتحف الصيني سيفتح أبوابه للزوار مطلع هذا الصيف وسط مجمع ثقافي ضخم من تصميم المعماري الكبير ديفيد شيبرفيلد. العرض الأول سيضم أعمالاً لفنانين صينين درسوا في فرنسا في الوقت الذي سيعرض فيه المركز الأم بباريس أعمال فنانين من الصين. المطلوب من الخبراء الفرنسيين الإشراف على تنظيم أكثر من عشرين تظاهرة ثقافية ما بين 2019 و2024 مع تكوين الصينين في التقنيات المتحفية: كيفية انتقاء التحف، تخزينها وحمايتها من التلف. مركز «بومبيدو» الثقافي لم يفصح عن قيمة التعويض المادي مكتفياً بالإعلان عن مبلغ مليون ونصف مليون يورو سيتلقاها سنوياً كرسوم امتياز. «متحف رودان للقطع النحتية» يستعد هو الآخر لافتتاح جناح له بمدينة شنزن جنوب الصين تحت مسمى «مركز رودان للفن». المتحف الفرنسي أعلن على لسان مديريته كاترين شوفيو أنه قبِل عرض الصين بعد دراسة معمقة وعلى خلفية شعبية رودان في الصين، لكنه لن يعير نظيره الصيني سوى 193 قطعة من مجموع سبعة آلاف لاستحالة نقلها دون تعريضها لخطر الإتلاف، والبقية ستكون على شكل نسخ طبق الأصل، كما سينظم دورات تدريبية لأمناء المتحف وملتقيات مع طلبة الفنون الجميلة والشركاء الأجانب. فرنسا صدّرت أيضاً علامة تجارية ثقافية أخرى تمثلت في «مهرجان آرل للتصوير»، الذي ينظم منذ أربع سنوات طبعة صينية تحت اسم «جيمي x آرل إنترناشيونال فوتو فستيفال» في مدينة إكزيمانس القريبة من تايوان. في حوار مع صحيفة «ليزنكوريبتبل» صرحت بيرينيس أنغريمي، مديرة المهرجان، بأن الحدث هو «شراكة قبل أن يكون استفادة الصين من علامة ثقافية عالمية، فمهمتنا هي اكتشاف وعرض المواهب الصينية الجديدة، مع مرافقة الصينين لاكتساب مهارات في تنظيم الفعاليات الثقافية الكبيرة». الفرنسيون حاضرون أيضاً من خلال مؤسسة «أوبرا كوميك» العريقة التي تخلد أعمال مبدعين أمثال موليير وشكسبير، والتي أمضت مؤخراً اتفاقيات تعاون ثنائي مع الصين لمدة ثلاث سنوات قابلة للتمديد. العروض تقام في أكثر من أربعين مدينة صينية، والأهم هو التمويل الصيني المنتظر لتظاهرات عدة، أهمها عرضا «كارمن» و«هاملت» بما يعادل 350 مليون يورو وعرض «أوفيليا وأوريدس» بمقدار مائة مليون يورو مقابل مشاركة الأوركسترا الوطني الصيني في جميع هذه العروض بين 2020 و2022.
المنافسة احتدمت بعد أن دخلت المؤسسات الثقافية الغربية الأخرى ساحة المعركة لكسب ودّ الصين. إيطاليا ارتبطت مع الصين باتفاقيات شراكة عدة، ولا سيما في مجال ترميم التراث التاريخي، إضافة إلى برنامج تبادل ثنائي بين متحف بكين الوطني والمتحف الوطني بالازو فينسيا بروما الذي يقضي بفتح قاعة عروض لمدة خمس سنوات قابلة للتمديد، يعرض فيها كل من المتحفين قطع المتحف الآخر. أحدثها كان معرض «كنوز إمبراطورية هان» بروما وآخر بعنوان «رحلة العودة» في متحف بكين حول استعادة الصين لمجموعاتها الاثرية التي كانت بحوزة إيطاليا. المتحفان البريطانيان «بريتش موزيوم» و«فيكتوريا أند ألبرت موزيزم» وحّدا جهودهما للتعاون مع الصين من خلال فعاليات عدة، آخرها كان تنظيم معرض لنسخ طبق الأصل من مجموعات «بريتش موزيوم» في شنغهاي استقطب أكثر من 600 ألف زائر، إضافة إلى دورات تدريبية تتلقاها فرق المتحف الوطني لبكين والمدينة المحرّمة كل صيف، على يد خبراء «البريتيش ميوزيوم»، وأخيراً افتتاح فرع لمتحف فيكتوريا في مدينة شانزان يعتبر أول متحف مخصص للتصميم في الصين بمعية خبرة ومجموعات المتحف البريطاني. أما المؤسسات المتحفية الألمانية التي كانت مبادراتها خجولة في البداية، فقد كرسّت حضورها في الصين بعد أن أشرفت على تنظيم افتتاح متحف بكين الوطني بتظاهرة «فن الأنوار» التي تم بموجبها استقدام 600 قطعة فنية من متاحف برلين وميونيخ ودريسدن وإعارتها لمدة سنة كاملة للمتحف الصيني العملاق الذي أصبح في ظرف بضع سنوات ثاني أكبر متحف زيارة في العالم بعد اللوفر الفرنسي.
نزعة المؤسسات المتحفية العريقة نحو تصدير خبرتها كعلامة تجارية بسبب تراجع التمويلات الحكومية بات يطرح معادلة التوازن الصعب بين مصالحها المادية وأهدافها الثقافية والتربوية، كما أن تجربة المؤسسات الغربية في الصين بدأت تكشف عن وجود مشكلة رقابة وتحديد للحرية الإبداعية تحاول هذه الأخيرة تجاهلها رضوخاً لمنطق الربح.