قصة صحافي استقصائي فتح انتصاره الأعين على الفساد في مؤسسات روسيا

مطبوعات إعلامية روسية تتضامن مع غولونوف بتوحيد صفحاتها الأولى
مطبوعات إعلامية روسية تتضامن مع غولونوف بتوحيد صفحاتها الأولى
TT

قصة صحافي استقصائي فتح انتصاره الأعين على الفساد في مؤسسات روسيا

مطبوعات إعلامية روسية تتضامن مع غولونوف بتوحيد صفحاتها الأولى
مطبوعات إعلامية روسية تتضامن مع غولونوف بتوحيد صفحاتها الأولى

في تعاملهم مع قضية ثانية غير مسبوقة هزت الوسط الإعلامي خلال أقل من شهر، «بطلها» صحافي تحقيقيات، وجوهرها العلاقة ما بين «السلطة» بأشكالها المختلفة والإعلام، أظهر عدد كبير من الصحافيين الروس مستويات عالية من التضامن في مواجهة مواقف يرون فيها محاولات لكم الأفواه، وتقييد حرية العمل الصحافي. وبعد 16 يوماً فقط على تقديم العاملين في قسم السياسة في صحيفة «كوميرسانت» طلب استقالة جماعي تضامناً مع زميليين تقرر فصلهما عن العمل بسبب تقرير لهما، تحدثا فيه عن المستقبل السياسي لرئيسة المجلس الفيدرالي فالنتينا ماتفيينكو، وقبل أن تختفي عبارات التضامن مع هؤلاء جميعهم، أثار اعتقال الصحافي إيفان غولونوف في 6 يونيو (حزيران) الجاري أزمة جديدة، دفعت عدداً كبيراً من الصحافيين الروس إلى إطلاق حملات تضامن، ونظموا احتجاجات طيلة فترة اعتقاله، وحتى بعد إطلاق سراحه، قرروا تنظيم احتجاج آخر وسط موسكو، تعبيراً عن رفضهم لممارسات محددة من جانب الشرطة بحق الصحافيين.
في صحيفة «كوميرسانت» نشبت الأزمة في 20 مايو (أيار) الماضي، في أعقاب الإعلان عن قرار إقالة صحافيين اثنين بسبب تقرير نقلا فيه عن «مصادرهما» معلومات تفيد باحتمال انتقال فالنتينا ماتفيينكو من منصبها رئيسة للمجلس الفيدرالي وتعيينها في منصب رسمي آخر. وكانت أطراف تلك الأزمة الصحافيين في قسم السياسة من جانب، ومجلس إدارة الصحيفة ورئيس تحريرها من جانب آخر. ومع نفي مالك الصحيفة رجل الأعمال علي شير عثمانوف علاقته بقرار الفصل، وتأكيد فالنتينا ماتفيينكو أنه لا علاقة لها أبداً بما يجري، رأت صحف روسية في قرار الإقالة «إشارة سلبية تكشف عدم تمتع الصحافي بحماية أمام مالكي الصحيفة»، بينما قال العاملون في «كوميرسانت»» إن ما يجري «تدمير لواحدة من أفضل الوسائل الإعلامية في روسيا»، وعبروا عن قناعتهم بأن «روسيا جديرة بحرية الكلمة». ومن جانبها قالت منظمة «مراسلون بلا حدود» إن ما جرى «ضربة موجعة لاستقلال الصحافة في روسيا».
بعد أسبوعين تقريباً، وقبل أن تهدأ موجة التضامن مع الصحافيين في «كوميرسانت» الذين فقدوا عملهم، نشبت أزمة جديدة، طرفها الأول صحافي تحقيقات، والطرف الثاني المؤسسة الأمنية الروسية ممثلة بوزارة الداخلية. بدأ كل شيء يوم 6 يونيو، حين قامت عناصر الأمن باعتقال الصحافي إيفان غولونوف في وسط العاصمة. وقالت الشرطة إنها عثرت بحوزته وأثناء التفتيش في شقته على مخدرات. ورفض إيفان تلك الاتهامات وأكد أن أحدهم دس له تلك المخدرات، وأن اعتقاله ومحاولة توريطه في جريمة «محاولة اتجار بالمخدرات» مرتبط بطبيعة عمله في الصحافة الاستقصائية، حيث أعد مجموعة من التحقيقيات حول الفساد في مؤسسات السلطة. ولحظة اعتقاله كان غولونوف يعمل بصفة «فري لانس» لصالح موقع «ميدوزا» الإخباري المسجل في لاتفيا، ويبث باللغة الروسية، وتعاون قبل ذلك مع عدد آخر من كبريات الصحف الروسية، مثل «فيدوموستي» و«آر بي كا» و«كوميرسانت» وغيرها، ولم يعمل يوماً بصفة موظف دائم في أي من تلك الصحف.
«الثغرات» في قضية غولونوف كانت تتراكم بسرعة خلال الأيام الأولى من اعتقاله. على سبيل المثال نشرت وزارة الداخلية مجموعة من الصور مع خبر «العثور على مخدرات بحوزة غولونوف وفي شقته» اتضح لاحقاً أن واحدة فقط من تلك الصور من شقته بالفعل والصور الأخرى لا علاقة لها بقضيته، وتتبع لقضية «ورشة تصنيع مخدرات» اكتشفها الأمن. برر الشرطة نشرها بخطأ نتيجة ضغط العمل، وأزالها على الفور، إلا أن هذا الموقف عزز القناعة لدى كثيرين بأنه هناك محاولة لتلفيق التهمة ضد غولونوف. ومع كل ساعة كان التضارب يتزايد بين تصريحات الشرطة وتصريحات غولونوف ومحاميه بشأن تفاصيل القضية، وظروف الاعتقال والتحقيق. ضمن هذا المشهد تعززت القناعة ببراءته وأن ما جرى متصل بعمله ومحاولة للضغط عليه.
منذ الساعات الأولى لاعتقاله، أخذت قضيته تتفاعل بسرعة مثل النار في الهشيم، وتوجه عشرات الصحافيين شخصيات من النخب الفنية والثقافية إلى المبنى المركزي للأمن في موسكو، والبعض الآخر نحو مبنى النيابة العامة، ومجموعة ثالثة نحو مبنى المحكمة، وشاركوا جميعهم في وقفات احتجاجية تضامناً مع غولونوف، ومطالبين بإطلاق سراحه على الفور. تفاصيل قضيته طغت في العناوين الإخبارية على التغطيات الإعلامية المكثفة من منتدى بطرسبورغ الاقتصادي حينها، وحتى على تصريحات بوتين خلال مشاركته في المنتدى. وتواصلت الاحتجاجات طيلة 5 أيام أمضاها غولونوف في سجن التحقيق. تحت هذا الضغط قرر الأمن تخفيف قرار توقيف غولونوف، وعوضاً عن سجن التحقيق تم تعديل القرار إلى «إقامة جبرية» في منزله، مع تحديد فترة التوقيف لغاية 7 أغسطس (آب).
بيد أن ذلك التخفيف في طبيعة التوقيف لم يؤدِ إلى تراجع حدة الاحتجاجات ومواقف المشاركين فيها، وقامت مجموعة من الإعلاميين بصياغة عريضة باللغتين الروسية والإنجليزية، عرضوا فيها كيفية اعتقال غولونوف، وأشاروا فيها إلى أنه تعرض للضرب أثناء الاعتقال، وأن قسم الشرطة رفض استدعاء سيارة الإسعاف له، ولم يسمح له بالاتصال مع محاميه إلا بعد مضي 12 ساعة من توقيفه. وبعد أن ذكرت وسائل إعلام بأن غولونوف رفض الخضوع لاختبار عينة من تحت أظافره تؤكد نتائجها أو تنفي أي علاقة له بالمخدرات (تعاطي أو اتجار)، قال معدو العريضة إن الأمن هو من رفض طلب غولونوف بأخذ عينة لإجراء تلك التحاليل. وطالبوا بإطلاق سراح إيفان والتحقيق في ملابسات ما تعرض له. ولغاية 9 يونيو، أي قبل يومين على إطلاق سراح غولونوف، زاد عدد الموقعين عليها عن 100 ألف شخص.
دخل الضغط مرحلة تصعيد جدية حين قررت ثلاثة من أهم الصحف الروسية، وأكثرها دقة وموضوعية، هي «فيدوموستي» و«كوميرسانت» و«آر بي كا»، إصدار بيان مشترك، وتوحيد الصفحة الأولى في النسخة الورقية الصادرة يوم 9 يونيو، لتكون على شكل ملصق كبير عليه صورة غولونوف، تحت عنوان «أنا - نحن إيفان غولونوف». وطالبت تلك الصحف في بيانها وزارة الداخلية بالتزام أعلى مستوى من الشفافية في القضية والتحقيق الدقيق في نشاط المسؤولين عن اعتقال الصحافي.
وانضم إلى حملة دعم غولونوف عدد كبير من ممثلي النخب الفنية، من موسيقيين ومسرحيين وشخصيات بارزة في روسيا، منهم الممثل الروسي الشهير قسطنطين خابينسكي الذي آثار القضية في كلمته خلال افتتاح مهرجان «كينوتافر» السينمائي الروسي في مدينة سوتشي. أما مقدمة البرامج التلفزيونية، الإعلامية كسينيا سوبتشاك، فقد وصفت غولونوف بأنه «ليس مجرد إنسان يناضل ضد السلطة، بل أعد في الواقع تحقيقات غيرت واقعنا». تحت هذا الضغط، ومع تحول القضية إلى قضية رأي عام، برزت فيها استعداد المحتجين من مختلف الفئات المضي في المواجهة حتى النهاية، أعلنت وزارة الداخلية نتائج التحاليل، وقالت إنها كشفت عدم وجود أي آثار تدل على تورط غولونوف بالتهم الموجهة له، وقررت النيابة العامة إطلاق سراحه، الأمر الذي أعلن عنه وزير الداخلية شخصياً في تسجيل مصور، أكد فيه بدء تحقيقات مع المتورطين في اعتقال غولونوف لكشف جميع الملابسات، وأعلن أنه اقترح على الرئيس بوتين إقالة اثنين من كبار جنرالات الداخلية، يتحملان المسؤولية عما جرى. إثر ذلك قامت وزارة الداخلية بإغلاق ملف القضية، وإزالة كل ما نشرته حولها على موقعها الرسمي.
إلا أن القضية لم تنته بالنسبة لغولونوف نفسه، الذي قال بعد إطلاق سراحه إنه يعاني من نوبات «ذعر فيما يخص شعوره بالأمن بعد اعتقاله»، وأضاف في تصريحات له لوسائل إعلام روسية: «أنا بحاجة لأن أفهم كيف أتابع حياتي، كيف أعود إلى حياتي الطبيعية، لكن لا أعرف حتى الآن كيف أقوم بذلك».


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.