انعكاس روابط إسرائيل بالصين على علاقاتها بالولايات المتحدة

المشروع الصيني لتحديث وإدارة ميناء حيفا الإسرائيلي أحد وجوه استثمار الشركات الصينية في إسرائيل
المشروع الصيني لتحديث وإدارة ميناء حيفا الإسرائيلي أحد وجوه استثمار الشركات الصينية في إسرائيل
TT

انعكاس روابط إسرائيل بالصين على علاقاتها بالولايات المتحدة

المشروع الصيني لتحديث وإدارة ميناء حيفا الإسرائيلي أحد وجوه استثمار الشركات الصينية في إسرائيل
المشروع الصيني لتحديث وإدارة ميناء حيفا الإسرائيلي أحد وجوه استثمار الشركات الصينية في إسرائيل

ثمة تحالف قائم بين إسرائيل والولايات المتحدة بخصوص جميع القضايا تقريباً، عدا نقطة أساسية واحدة - الصين. فالدور الذي تلعبه الصين في مشروعات البنية التحتية الجوهرية في إسرائيل يثير قلقاً لدى خبراء أمنيين أميركيين، ما يدفع إسرائيل إلى التحرك باتجاه التراجع عن التزاماتها أمام الصين.
يُذكر أن وفداً رفيع المستوى من مجلس الأمن الوطني الإسرائيلي زار واشنطن في منتصف أبريل (نيسان) الماضي لمقابلة نظراء داخل إدارة ترمب. وركزت المناقشات التي دارت بين الجانبين وترأسها مستشار الأمن الوطني جون بولتون، ومدير مجلس الأمن الوطني الإسرائيلي مير بن شابات، على العلاقات بين إسرائيل والصين.
وفي تغريدة له بعد الاجتماع، أشاد بولتون بالمناقشات التي جرت بين الجانبين وذكر أنها تناولت التعاون المتزايد بين الولايات المتحدة وإسرائيل في مجال شبكات الجيل الخامس والأمن السيبري والتصدي لعناصر سيئة داخل الشرق الأوسط. إلا أن النبرة الإيجابية لبولتون أخفت وراءها المعضلات التي يواجهها صانعو السياسة الأميركيون فيما يتعلق بكيفية تناول الاختلاف المتنامي بين الدولتين إزاء السياسة تجاه الصين.
الشهر الماضي، تلقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، داخل البيت الأبيض توبيخاً قاسياً من الرئيس دونالد ترمب بخصوص الروابط المتنامية بين إسرائيل والصين. وأفادت تقارير بأن ترمب أخبر نتنياهو بأنه إذا لم تقيّد إسرائيل روابطها مع الصين، فإن هذا سيؤثر سلباً على التعاون الأمني بين واشنطن وتل أبيب.
جدير بالذكر أن بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو أثارا مخاوف أميركية هذا العام إزاء التعاون الإسرائيلي مع بكين، مع إعلان بومبيو أنه في حال استمرار هذا التعاون، فإن الولايات المتحدة قد تقلص جهود مشاركتها في الاستخبارات مع الجانب الإسرائيلي. وحتى هذه اللحظة، من غير الواضح إذا كانت هذه التهديدات قد تركت تأثيراً على موقف نتنياهو. ومع هذا، فإن الأمر الأهم ربما يكمن في أن ثمة إجماعاً متزايداً داخل الدوائر الأمنية الإسرائيلية حول ضرورة تغيير مسار العلاقات مع الصين.

مصدر دائم للتوتر
الواضح أن كثيرين من الخبراء الأمنيين الأميركيين والإسرائيليين يعتقدون أن بكين تلعب دوراً مثيراً للقلق فيما يخص تكنولوجيا المعلومات التي توفرها في مشروعات أمنية استراتيجية في مجال البنية التحتية داخل إسرائيل، خصوصاً فيما يتعلق بمشروع لتحديث وإدارة ميناء حيفا الذي ظل طيلة عقود قاعدة لعمليات الأسطول السادس الأميركي.
إلى جانب ذلك، هناك مخاوف إزاء مشروعات البنية التحتية المرتبطة بشبكات الجيل الخامس والتي من المقرر أن تضطلع بها شركات صينية، منها «هواوي» (التي اشترت شركتين إسرائيليتين، تعمل واحدة منهما كمركز تطوير لحساب «هواوي»).
ولا تعد هذه المرة الأولى التي تتعرض العلاقات الوثيقة بين الحكومتين الأميركية والإسرائيلية لضغوط بسبب اتفاقات إسرائيلية مع الصين. أواخر تسعينات القرن الماضي، حذرت إدارة كلينتون إسرائيل من أنها في حال عدم تراجعها عن اتفاق لبيع أنظمة «فالكون» المحمولة جواً للإنذار المبكر والسيطرة للصين، فإنها ستعاني عواقب وخيمة. وبالفعل، ألغى رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك الاتفاق عام 2000. الأمر الذي أثار غضب الحكومة الصينية. وخلال فترة الرئاسة الأولى لجورج دبليو بوش، حدث موقف مشابه عندما اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون إلى إلغاء اتفاق مع الصين لبيع طائرات الاستطلاع «هاربي» عام 2004 بسبب ضغوط أميركية قوية.

الوجود التجاري المتنامي للصين
منذ قرابة عقد، بدأت شركات صينية شراء شركات إسرائيلية كبرى -مثل شركة «تنوفا» لمنتجات الألبان التي تعد الأكبر من نوعها داخل إسرائيل، وكذلك واحدة من كبرى الشركات في إسرائيل لإنتاج المبيدات الحشرية أصبحت تُعرف اليوم باسم «أداما للحلول الزراعية». عام 2016 كانت الصين على وشك الاستحواذ على شركة «فونيكس» للتأمين التي كانت تتولى إدارة صناديق معاشات الكثير من الإسرائيليين، لكن الصفقة أُلغيت في الدقيقة الأخيرة.
الملاحَظ أن القطاع التكنولوجي الإسرائيلي استقبل أعلى معدلات الاستثمارات الصينية، خصوصاً منذ أن زادت صعوبة الاستثمار داخل السوق الأميركية أمام الشركات الصينية. ويعتقد بعض المراقبين الأميركيين أن الصين استحوذت على قرابة 25% من قطاع التكنولوجيا في إسرائيل على مدار العقد الماضي.
من جهتها، تشعر واشنطن بالقلق إزاء هذا الوجود الصيني المتزايد وتخشى من إمكانية أن تضع الصين يدها على تقنيات حساسة. وتلقى هذه المخاوف أصداء متنامية في أوساط خبراء أمنيين إسرائيليين. في يناير (كانون الثاني) 2019 قال ناداف أغرامان، رئيس «شين بيت»، جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، خلال محاضرة مغلقة في جامعة تل أبيب إن هذا الاختراق الضخم من جانب الشركات الصينية من الممكن أن يعرض أمن إسرائيل للخطر. أيضاً، يعد الرئيس السابق لـ«الموساد»، أفرايم هاليفي، من بين مَن حذّروا من «الاختراق» الصيني.
واستجابةً لضغوط داخلية وأميركية، تدرس إسرائيل إلغاء بعض الاتفاقات. ويخشى البعض من أن الصين ربما تفكر في الانتقام، ربما في صورة تقديم مساعدات عسكرية واستخباراتية لإيران. إلا أن آخرين يشيرون إلى تنامي الروابط بين الصين وعدد من القوى المناهضة لإيران في المنطقة، خصوصاً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ما تجلى في اتفاق استثماري أعلنت الصين في وقت قريب إبرامه مع الإمارات بقيمة 3.4 مليار دولار.

التوازن الدقيق
تكشف الأرقام حدوث ارتفاع هائل في حجم التجارة بين إسرائيل والصين خلال العامين الماضيين، مع شروع شركات إسرائيلية في الاستثمار في السوق الصينية بمعدلات تفوق بكثير الحال من قبل. من ناحيتها، تعتقد إسرائيل، كما هو الحال مع غالبية الحلفاء الأميركيين، أنها قادرة على تحقيق توازن بين الاستجابة للمخاوف الأمنية الأميركية والاستمرار في بناء علاقات تجارية مع الصين.
اليوم، تتحرك إسرائيل نحو خلق آليات مثل اللجنة الأميركية للاستثمار الأجنبي داخل الولايات المتحدة، بهدف مراجعة التبعات الأمنية للاستثمارات الأجنبية الكبرى. وجرى تعزيز هذه الجهود في الفترة الأخيرة عبر إجراءات مشتركة بين السلطة التنفيذية والكونغرس. ورغم عدم ذكر الصين في هذا التشريع المقترح، فإن مسودة القانون مصممة بصورة أساسية للتصدي لنفوذها.
الواضح أن المحادثات التي استضافتها واشنطن منتصف أبريل تشكّل خطوة أولى في مرحلة جديدة من الحوار الثنائي الأميركي - الإسرائيلي لتسوية الخلافات بين الجانبين حول السياسات تجاه الصين. الملاحظ أن الصين مثلما الحال مع حلفاء أميركيين آخرين في أوروبا وآسيا، وجدت نفسها مدفوعة داخل التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ. والمؤكد أنها ستسعى لتقليل الأضرار التي سيخلّفها ذلك على علاقاتها ببكين، لكنها تبدو واثقة بمتانة علاقاتها بالصين لدرجة تجعلها على استعداد لإلغاء أو إدخال تغييرات كبرى على بعض الاتفاقات الموقّعة معها.

* خبيران في المعهد الدولي
للدراسات الاستراتيجية - لندن



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.