علاقات لبنان مع سلطات دمشق تتأرجح على حبال ملف اللجوء

في أعقاب تفعيل سلسلة إجراءات للتضييق على اللاجئين

علاقات لبنان مع سلطات دمشق تتأرجح على حبال ملف اللجوء
TT

علاقات لبنان مع سلطات دمشق تتأرجح على حبال ملف اللجوء

علاقات لبنان مع سلطات دمشق تتأرجح على حبال ملف اللجوء

أرخت التطوّرات الأخيرة التي شهدها لبنان، المرتبطة بملف اللجوء السوري، بظلالها على العلاقات اللبنانية - السورية.
وبات واضحاً وجود سياسة جديدة تنتهجها الدولة اللبنانية في التعاطي مع الملف، بعد نحو 8 سنوات من «العشوائية» في معالجة هذه الأزمة، نتيجة الخلافات والانقسامات السياسية الداخلية والضغوط الخارجية التي فعلت فعلها، ولا تزال، معلّقة موضوع العودة إلى أجل غير مسمى.

السياسة اللبنانية الجديدة حيال اللاجئين السوريين اتضحت مما أشيع عن خروج الوفد السوري من قاعة مؤتمر العمل الدولي عام 2019، الذي انعقد في جنيف بسويسرا، أثناء إلقاء وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان كلمته. وفي تلك الكلمة، قال أبو سليمان إنها «تتضمّن موقف لبنان الرسمي»، وإنه «سبق أن أطلع رئيس الجمهوريّة عليها، وأجرى بعض التعديلات الطفيفة مع سفير لبنان لدى المنظمات الدوليّة في جنيف». وبدا أن النظام السوري ليس ممتناً من الموقف اللبناني الرسمي المستجَد، الذي يُحمِّل اللاجئين مسؤولية كل المشكلات والأزمات اللبنانية، ويدفع باتجاه الضغط عليهم للعودة.
المندوب الدائم لدمشق لدى الأمم المتحدة في جنيف، السفير حسام الدين آلا حاول أن يناقض الرواية التي تقدم بها الوفد اللبناني بخصوص موضوع الانسحاب، فقال لوكالة «سانا» السورية الحكومية إن الوفد السوري إلى الدورة الـ108 لمؤتمر العمل الدولي، برئاسة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل ريمة قادري، لم يكن داخل قاعة المؤتمر إبان إلقاء أبو سليمان كلمته، لأن قادري كانت تعقد اجتماعات ثنائية مع نظرائها على هامش الجلسة الصباحية.
وتحدث آلا عن «لغط حاولت بعض الأطراف اللبنانية افتعاله حول مزاعم خروج الوفد السوري من قاعة الاجتماعات، إلا أن أبو سليمان أكد أن الوفد السوري كان جالساً في الصفّ الأول، وحين بدأ يتحدث عن ملف النازحين السوريين بدأ أفراده بالانسحاب، الواحد بعد الآخر... في تكرار لما حصل في عيد العمّال، حين انسحب السفير السوري عند إلقاء كلمتي في الاتحاد العمالي العام».
مصادر في قوى «8 آذار»، المؤيدة للنظام السوري داخل لبنان، وهي مطلعة على الموقف السوري، ذكرت «أن ما أزعج وفد دمشق ليس موقف لبنان من ملف النزوح، إنما أبو سليمان نفسه ومحاولته وحزب (القوات اللبنانية) الذي ينتمي إليه تصوير أن الدولة السورية هي التي ترفض عودة مواطنيها إلى بلدهم». وأكدت المصادر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن دمشق «تعتبر موقف بيروت ممتازاً فيما يتعلق بقضية النزوح (اللجوء)، ولا ترى أي مشكلة في الإجراءات المتخذة أخيراً، من منطلق أن ما يعنيها تحقيق العودة من دون أن تتدخل بشؤون لبنان، والتدابير التي يتخذها لتحقيق مصلحته العليا».
من جانب آخر، اللافت أن كلمة أبو سليمان التي وزّعتها «الوكالة الوطنية» في لبنان لم تحمل أي جديد فيما يتعلق بموقف لبنان، يستدعي استنفاراً سورياً، إذ قال وزير العمل اللبناني إنه «لم يعد خافياً على أحد أن أهم التحديات التي يواجهها لبنان، يكمن في العدد غير المسبوق للنازحين (اللاجئين) السوريين منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، ما يجعل لبنان البلد الأول في العالم من حيث حجم النازحين (اللاجئين) نسبة إلى عدد مواطنيه»، مشيراً إلى أن عددهم بات يعادل ثلث عدد المواطنين في لبنان، من دون احتساب أعداد اللاجئين من جنسيات أخرى.

«مسار» لبناني جديد

من جهة ثانية، تُرجح مصادر سياسية لبنانية ألا يكون موقف أبو سليمان ما أزعج وفد دمشق، بل المسار الجديد الذي سلكته الدولة اللبنانية في معالجة ملف اللجوء، وإن كانت الحكومة اللبنانية حتى الساعة لم تبدأ بدراسة الخطة، التي من المفترض أن يعرضها وزير الدولة لشؤون النازحين قريباً على طاولة مجلس الوزراء.
أما أبرز الإجراءات التي اتخذت بالفعل أخيراً، والتي توحي بأن الأمور سلكت طريق اللاعودة في هذا الملف، فجاءت نتيجة قرارات اتخذها أخيراً المجلس الأعلى للدفاع، وأخرى جرى تضمينها مشروع الموازنة. ومن هذه التدابير...
- الترحيل الفوري للداخلين خلسة.
- مكافحة التهريب من خلال المعابر غير الشرعية.
- تغريم المشغّل اللبناني لكل أجنبي لا يحوز إجازة عمل، وهذا ما لحظته الموازنة، بالإضافة إلى مطالبات إلى الجهات المعنية (البلديات - المخاتير- المحافظين - القائمقامين) بإقفال المؤسسات غير الشرعية.
- فرض رسم على عائلة الأجنبي المقيمة في لبنان.
ولم تقف الإجراءات الجديدة المتخذة عند هذا الحد، بل أمهل الجيش اللبناني اللاجئين السوريين والجهات المعنية هدم البيوت الإسمنتية، التي شيّدت بشكل أساسي في بلدة عرسال، وهو قرار اتخذه المجلس الأعلى للدفاع. ورأى ناشطون في المجتمع المدني في لبنان أن الإجراءات الأخيرة التي تطال اللاجئين السوريين تعكس بشكل واضح وجود استراتيجية للضغط عليهم وترحيلهم، واعتبر الناشطون أنها تؤدي جميعها إلى خلق بيئة غير مرحِّبة بهم، والضغط عليهم، عبر إجراءات غير مكتوبة، بدل معالجة هذه القضية بطريقة هادئة.
في المقابل، تؤكد مصادر رسمية لبنانية أن ما يحصل «هو انتقال من مرحلة عدم تطبيق القوانين المرعية الإجراء، إلى تطبيقها بحزم للحد من التداعيات السلبية» للّجوء، على كل القطاعات اللبنانية، «ما سيؤدي في حال ظلت الأمور على ما هي عليه إلى صدام لبناني - سوري، مؤكد في مرحلة قريبة مقبلة».
هذا التناقض نبّهت عليه وزيرة الداخلية والبلديات ريّا الحسن أخيراً، واعتبرت ما وصفته باقتلاع اللاجئين من خيمهم، له انعكاسات خطيرة، وذلك في إشارة إلى قرار بلدية دير الأحمر، في شمال البقاع، بهدم مخيّم للنازحين بعد اعتداء شبان على عناصر الدفاع المدني الأسبوع الماضي.

مواقف عون وباسيل

المعروف أن بعض المسؤولين اللبنانيين، على رأسهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ووزير الخارجية جبران باسيل، يواصلون زيادة الضغوط على المجتمع الدولي لحثّه على المساهمة بإعادة اللاجئين. كما أن المواقف المتتالية الصادرة عن عون أخيراً، التي لوّح فيها صراحة بالاتصال والتنسيق مع حكومة النظام في دمشق لإعادة اللاجئين في حال استمرار «لا مبالاة» المجتمع الدولي في التعامل مع الملف، أثارت جملة تساؤلات حول خلفية هذه المواقف وماهية الخطوات التي قد يتخذها لبنان الرسمي لتسريع عودة هؤلاء.
عون قال أمام مسؤولين غربيين، التقاهم أخيراً، إن لبنان يتطلع لتغيير الموقف الأوروبي من عودة اللاجئين، «لئلا تشتد تداعيات هذا اللجوء على الأوضاع كافة في لبنان، ويجبر على اتخاذ خطوات لتنظيم العودة مع الحكومة السورية». أما باسيل فلا ينفك يتهم «إرادة خارجية واضحة بإبقاء النازحين (اللاجئين) على أرضنا»، وقد حذّر أخيراً خلال زيارته إسبانيا من أن «مدة بقاء السوريين في لبنان في ظل أوضاعهم السيئة، لن تطول، وهم إما سيتجهون نحو أوروبا وإما نحو سوريا... والأفضل لأوروبا أن يعودوا إلى سوريا».

... ونصر الله وقانصو

كذلك انضم أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله إلى الحملة، التي يقودها عون وباسيل، فتحدث في إحدى إطلالاته الأخيرة عن وجود «إصرار أميركي - غربي - خليجي على رفض عودة النازحين (اللاجئين) السوريين إلى بلدهم». وادّعى نصر الله أن الرئيس بشار الأسد سبق أن أكد له خلال لقاء بينهما رغبته أن يعود جميع اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان إلى بلادهم.
وهذا أيضاً ما قاله لـ«الشرق الأوسط» الأمين القطري السابق لحزب «البعث» عاصم قانصو عن أن سلطات دمشق «راغبة بعودة مواطنيها إلى أرضهم بأسرع وقت ممكن، للمساهمة بإعادة الإعمار، خاصة أن 90 في المائة من الأراضي باتت آمنة»، حسب قوله. وأضاف قانصو أن «العدد الفعلي الذي يتوجب العمل على إعادته إلى سوريا هو نحو 800 ألف، باعتبار أن هناك 500 ألف سوري لطالما وُجدوا في لبنان للعمل»، مضيفاً: «الدولة في سوريا لم تتعاط يوماً مع النازحين (اللاجئين) كثقالات ترغب في إلقائهم في بلدان النزوح. بالعكس تماماً، هناك من السياسيين في لبنان وخارج لبنان من يستخدمون ورقة النزوح للضغط على الحكومة في سوريا».
وإذ يستهجن قانصو تحميل بعض المسؤولين اللبنانيين اللاجئين مسؤولية كل الأزمات التي يرزح تحتها لبنان، سواء أزمة الكهرباء أو المياه أو التلوث... يتساءل: «ألم تكن هذه الأزمات موجودة قبل العام 2011؟».

دور البلديات

وبالتزامن مع وضع وزير الدولة لشؤون النازحين - المحسوب على دمشق وقوى «8 آذار» - اللمسات الأخيرة على خطته لعودة اللاجئين، التي نسقها مع دمشق، انتهت وزارة الخارجية في لبنان من تحديث خطة، كانت قد أعدتها عام 2014، تقوم بشكل أساسي - كما تقول - على «تحقيق العودة الآمنة والممرحلة وفق خط زمني محدد»، وعلى أساس تقسيم اللاجئين إلى فئات.
وبعد التصويب بشكل أساسي على موضوع العمالة السورية «غير الشرعية» في لبنان، سواء من قبل «التيار الوطني الحر» (الذي أسّسه الرئيس عون، ويرأسه الوزير باسيل) أو وزارة العمل، ما أدى إلى إقفال عدد كبير من المحال التجارية، التي يعمل فيها سوريون، أوضحت مستشارة وزير الخارجية والمغتربين لشؤون النازحين، الدكتورة علا بطرس (وهي محسوبة على التيار نفسه)، أنه سيجري في المرحلة المقبلة «تفعيل دور البلديات بتطبيق القوانين على كل من لا يحوز إجازة عمل وإقامة، وإقفال المحلات والمؤسسات غير الشرعية، بالتعاون والتنسيق مع الأجهزة المعنية، ومنها الأمن العام».
ولفتت بطرس إلى أن «البلدية في النهاية ضابطة عدلية، وبالتالي عليها أن تحدد من يمتلكون صفة (نازح) بإبراز بطاقة النزوح الصادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومن هم عمّال دخلوا خلسة أو بشكل شرعي، ولم تعد إقامتهم صالحة... وهنا يجب أن يقوموا بتسوية أوضاعهم من خلال الحصول على إقامة من الأمن العام، وإجازة من وزارة العمل في القطاعات المسموح لهم أن يعملوا فيها، وفق القانون».
وتابعت بطرس، في تصريح أدلت به لـ«الشرق الأوسط»: «كل ما نقوم به في هذا المجال يهدف إلى تنظيم واقع النزوح (اللجوء) السوري، ضمن آلية متكاملة، ومنها تطبيق القوانين على المخالفين، بالتكامل مع قرار المجلس الأعلى للدفاع بالترحيل لكل من يدخل خلسة، مع التشديد على احترام لبنان لالتزاماته تجاه القانون الدولي بعدم الإعادة القسرية».

مصاعب تواجه اللاجئين

حسب سجلات الأمن العام اللبناني، عاد أكثر من 200 لاجئ سوري من لبنان إلى سوريا منذ العام 2017، سواء عبر الرحلات التي ينظمها الأمن العام، أو من خلال مبادرات فردية خاصة.
وتحدّث التقرير السنوي لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» المتعلق بلبنان عن أكثر من مليون لاجئ سوري مسجّل لدى «المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» (المفوضية) في لبنان، في حين تقدّر الحكومة اللبنانية أن عدد السوريين الفعلي في البلاد هو 1.5 مليون.
وبحسب المنظمة الدولية، فإن سياسات الإقامة في لبنان تصعّب على السوريين المحافظة على الصفة القانونية، ما يعرّضهم لتزايد خطر الاستغلال والإساءة، كما أنها تحدّ من قدرتهم على الوصول إلى العمل والتعليم والرعاية الصحية. وكشفت المنظمة أن 74 في المائة من السوريين في لبنان يفتقرون إلى الإقامة القانونية، ويواجهون خطر الاعتقال بسبب وجودهم غير الشرعي في البلاد، موضحة أنه في مارس (آذار) 2018 ألغى لبنان بعض القيود المفروضة على الإقامة للأطفال السوريين اللاجئين، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و18 سنة.
ونقلت «هيومن رايتس ووتش» عن عدد من اللاجئين في لبنان أنهم يعودون بسبب السياسات القاسية والظروف المتدهورة في لبنان، وليس لأنهم يظنون أن الوضع في سوريا آمن، مشيرة إلى أن «هناك بلديات في لبنان أجلت قسراً آلاف اللاجئين، في إطار عمليات طرد جماعي من دون أساس قانوني أو مراعاة الإجراءات القانونية الواجبة. ولا يزال عشرات الآلاف عرضة للإجلاء».
وعلى صعيد متصل، كشف المسح الإقليمي الخامس، الذي أجرته «المفوضية السامية لشؤون اللاجئين»، حول تصورات ونوايا اللاجئين السوريين المتعلقة بالعودة إلى سوريا لشهر مارس 2019، أنّ نسبة 75.2 في المائة من اللاجئين السوريين يأملون في العودة «يوماً ما» إلى بلادهم. وأوضح المسح الذي شمل كلاً من مصر والعراق ولبنان والأردن، والذي أُجري خلال الفترة الممتدة بين أكتوبر (تشرين الأول) وفبراير (شباط) الفائتين، أنّ نسبة 69.3 في المائة من هؤلاء لا ينوون العودة إلى سوريا خلال الأشهر الـ12 المقبلة. كذلك بيّن أنّ نسبة السوريين الذين ينوون العودة خلال الأشهر الـ12 المقبلة بلغت 5.9 في المائة، في حين قُدّرت نسبة اللاجئين الذين لم يتخذوا قرارهم بعد بـ5.5 في المائة، ونسبة الذين لا يأملون في العودة بـ19.3 في المائة.
أما أبرز الأسباب التي تؤخر العودة، لـ19.3 في المائة، فهي؛ الوضع الأمني السيئ، فرص العمل السيئة، نقص المأوى، الخدمة العسكرية، الخدمات الأساسية المحدودة، الخوف من الاعتقال، تدهور التعليم، تعذر التوصل إلى حل سياسي، بالإضافة إلى أسباب أخرى.
وعلى مستوى لبنان، كشف مشروع «اللاجئون شركاء» أنّ 84 في المائة من العمالة السورية في لبنان تقتصر على قطاعي الزراعة والبناء، وهي قطاعات مسموح بها، بموجب قانون العمل اللبناني.
كذلك بيّن المشروع أنّ اللاجئين الأكثر ضعفاً هم الذين يحصلون على المساعدات المالية التي بالكاد تغطي احتياجاتهم؛ علماً بأن 90 في المائة منهم يقترضون المال لدفع تكاليف الإيجار والغذاء والرعاية الصحية؛ حيث إن 9 من أصل 10 عائلات سورية نازحة في لبنان تراكمت عليها ديون في العام 2018.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.