فصائل إدلب تضم خليطاً من «المعتدلين» والإسلاميين والمتشددين

هجوم قوات النظام السوري وروسيا وحّد بينها

مقاتل من {الجبهة الوطنية للتحرير} شمال حماة (أ.ف.ب)
مقاتل من {الجبهة الوطنية للتحرير} شمال حماة (أ.ف.ب)
TT

فصائل إدلب تضم خليطاً من «المعتدلين» والإسلاميين والمتشددين

مقاتل من {الجبهة الوطنية للتحرير} شمال حماة (أ.ف.ب)
مقاتل من {الجبهة الوطنية للتحرير} شمال حماة (أ.ف.ب)

في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، شن النظام السوري في سوريا بدعم من روسيا، ما جرى تصميمه بادئ الأمر على أنه «هجوم محدود» في شمال غربي سوريا. وتمثل الهدف من وراء الهجوم، الذي جرى الاتفاق حوله خلال اجتماع عقد في آستانة في فبراير (شباط) 2019، في مهاجمة جماعات معارضة وأخرى جهادية على كثير من الجبهات الاستراتيجية الحساسة، من أجل تعزيز ما أطلق عليها «المنطقة منزوعة السلاح»، أي ذلك الحزام من الأراضي الذي أقر في منتصف سبتمبر (أيلول) 2018 والذي يحيط بـ«منطقة خفض تصعيد» أكبر أنشئت منتصف عام 2017.
في الأساس؛ كان الهدف من المنطقة منزوعة السلاح أن تكون خالية من أي تنظيمات إرهابية وجميع الأسلحة الثقيلة، ومع هذا ظلت عناصر من كلا الأمرين داخل المنطقة. الأسوأ من ذلك أنه كان من المفترض أن تشهد منطقتا «خفض التصعيد» و«نزع السلاح» توقفاً شبه كامل لأعمال العنف، فيما عدا جهود مكافحة الإرهاب التي يجري اتخاذها دفاعاً عن النفس ضد جماعات مصنفة إرهابية من قبل الأمم المتحدة. لكن هذا الوقف لإطلاق النار تعرض للتجاهل منذ اليوم الأول من جانب نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، مع إقدامهم على أعمال قصف دون تمييز أسقطت أعداداً لا تحصى من المدنيين على نحو شبه يومي.
وجراء غياب أي نظام مراقبة أو آليات فرض مستقلة، أصبح في حكم المؤكد أن منطقتي «خفض التصعيد» و«نزع السلاح» ستفشلان حتى قبل أن تنطلقا. في الواقع، كانت منطقة خفض التصعيد التي أقيمت شمال غربي سوريا منتصف عام 2017، واحدة من أربع موزعة عبر أرجاء البلاد؛ وتقع المناطق الثلاث الأخرى في الغوطة الشرقية لدمشق، وجنوب غربي سوريا، وجيب من الأراضي يحيط بمدينتي تلبيسة والرستن في حمص.
كانت روسيا هي التي اقترحت فكرة إقرار مناطق خفض تصعيد في سوريا، واليوم أصبح الهدف من وراء ذلك واضحاً؛ التعامل مع أزمة نقص القوة البشرية التي تعوق تحركات نظام الأسد، والتي تركته عاجزاً عن القتال بفاعلية على أكثر من جبهة في وقت واحد. ومثلما كشفت الأحداث منذ ذلك الحين، فإن النظام بعد ذلك، بدعم روسي قوي، حاصر وقصف وغزا منطقة واحدة في المرة الواحدة؛ بدءاً بالغوطة الشرقية بين فبراير وأبريل 2018، ثم حمص بين أبريل ومايو (أيار)، وأخيراً جنوب غربي سوريا بين يونيو (حزيران) ويوليو (تموز). فقط منطقة خفض التصعيد في شمال غربي البلاد ظلت على حالها بوصفها «مِكَبّ النفايات» الذي يضم المسلحين والجهاديين المهزومين، بجانب عشرات الآلاف من المدنيين الذين أجلوا عن ديارهم.
وبذلك، تحولت إدلب إلى بوتقة تنصهر بداخلها عناصر متباينة. وفي الوقت الذي يحتفظ فيه كثير من المناطق بمجتمع مدني مزدهر ومعتدل؛ يقوده إصرار على دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، فإنه واجه معارضة قوية وعدائية من جانب جماعات جهادية على صلة بتنظيم «القاعدة». في السنوات الأولى، وبسبب إلحاحية المعارك، دخلت هذه الجماعات الجهادية في علاقات تعاونية مع التيار الرئيسي من المعارضة المسلحة في سوريا، لكن منذ عام 2016، ومع مرور الصراع ذاته بفترات مدّ وجزر في خضم تدخلات دولية ومبادرات دبلوماسية، بدأ الجهاديون في الانقلاب على حلفائهم العسكريين، وسعوا نحو فرض إرادتهم على أرض الواقع من خلال التهديد والقوة الوحشية. إلا إنه نتيجة التصعيد الأخير في العنف داخل إدلب وتهديد القوة الكاسحة من جانب النظام السوري وروسيا، عاد كثير من هذه الجماعات إلى تحالفاتها الهشّة السابقة.
اليوم، تواجه مجموعة مختلفة من العناصر المسلحة هجوماً يشنه الأسد في شمال غربي سوريا، ويمكن تقسيمها إلى 5 مظلات أساسية:
«جبهة التحرير الوطني»؛ والعناصر الرئيسية: «فيلق الشام»، و«أحرار الشام»، و«حركة نور الدين الزنكي»، و«صقور الشام»، و«جيش الأحرار»، و«جيش إدلب الحر»، و«الفرقة الساحلية الأولى»، و«الجيش الثاني»، و«الفرقة الساحلية الثانية»، و«جيش النخبة»، و«فرقة المشاة الأولى»، و«جيش النصر»، و«الفرقة 23»، و«لواء شهداء الإسلام»، و«تجمع دمشق».
وتعد «جبهة التحرير الوطني» تحالفاً واسعاً من جماعات المعارضة المنتمية للتيار الرئيسي التي تشكلت أواخر مايو 2018 وتوسعت في أغسطس (آب) 2018. وتربط «جبهة التحرير الوطني» نفسها بـ«جيش سوريا الحرة»، وتعد قريبة للغاية من الحكومة التركية. وكانت أغلبية العناصر أعضاء «جبهة التحرير الوطني» سبق أن تلقوا مساعدات عسكرية من «غرفة تنسيق العمليات العسكرية» التي تتولى وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) الإشراف عليها، وتلقت الغرفة دعماً من حلفاء أوروبيين وشرق أوسطيين بين عامي 2013 و2017.
وتشكل «جبهة التحرير الوطني» مجموعة واسعة النطاق من خلفيات آيديولوجية، في ظل وجود عناصر معتدلة مثل «جيش إدلب الحر» و«جيش النصر» الذين يربطون أنفسهم بعناصر على صلة بـ«جماعة الإخوان المسلمين»، مثل «فيلق الشام»، وعناصر سلفية محافظة و«جيش الأحرار» و«أحرار الشام».
وقد انحسر نطاق نفوذ وقوة «جبهة التحرير الوطني» منذ تشكيلها، الأمر الذي يعود لأسباب؛ على رأسها الهجمات التي شنتها «هيئة تحرير الشام» (التي عرفت سابقاً باسم «جبهة النصرة»). سياسياً، تعارض «جبهة التحرير الوطني» بشدة الأجندة الآيديولوجية والاستراتيجية لـ«هيئة تحرير الشام» والموالين لـ«القاعدة»، حسبما أظهرت جميع العناصر المكونة لها في السنوات الأخيرة. ورغم أنه يصعب تقدير أعداد أفرادها، فإنه من المحتمل أن يكون تحت قيادة الجبهة نحو 30 ألف مقاتل يعملون بقدرة كاملة.

«جيش العزة»
فصيل معارض يعمل بصورة أساسية شمال حماة، وكان من قبل عضواً لفترة طويلة في غرفة العمليات التي تديرها وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إيه». ورغم أنه لا يزال يرفع علم «الجيش السوري الحر»، فإنه يصر في الفترة الأخيرة على البقاء مستقلاً خارج مظلة «جيش التحرير الوطني».
ويبقي «جيش العزة» على اتصالات وثيقة مع الحكومة التركية، لكنه في الأشهر الأخيرة أظهر قدراً أقل من الالتزام بالتوجيهات التركية؛ كان أبرزها إلغاؤه موافقته على اتفاق منطقة نزع السلاح، بالمخالفة لأوامر أنقرة. في الوقت ذاته، أبدى «جيش العزة» معظم الوقت استعداده للبقاء منفتحاً تجاه فكرة بناء علاقات حيادية وإيجابية في معظمها مع «هيئة تحرير الشام»، مقارنة بالعناصر المقاتلة في «جبهة التحرير الوطني». ورغم صعوبة تقدير أعداد مقاتليه، فإن الاحتمال الأكبر أن «جيش العزة» يضم ما بين ألفين و3 آلاف مقاتل.

«الجيش الوطني السوري»
تتمثل العناصر الرئيسية النشطة في إدلب وشمال حماة في: «لواء شهداء بدر»، و«الجبهة الشامية»، و«أحرار الشرقية»، و«أحرار الشمال (فيلق الشام)».
يشكل «الجيش الوطني السوري» هيكلاً عسكرياً ضخماً أسسته القوات التركية أواخر عام 2017 كي توحد تحت قيادته كثيراً من فصائل المعارضة المسلحة التي أسهمت في التدخلات التركية من خلال عمليتي «درع الفرات» و«غصن الزيتون» في شمال حلب بين عامي 2016 و2018. ويتسم بهوية واضحة تعكس صورة «الجيش السوري الحر»، ويتألف من أكثر من 30 مجموعة ـ ربما تمثل في مجملها ما بين 20 ألفاً و25 ألف مقاتل على الأقل ـ من أبناء خلفيات عربية وتركمانية. على الورق، يبقى «الجيش الوطني السوري» على ولائه للحكومة السورية المؤقتة (المعارضة)، وإن كان يبدو أشد ولاءً للحكومة التركية.
واجه بعض أعضاء «الجيش الوطني السوري» اتهامات بالتورط في جرائم، وتشوهت صورة الكيان بتورط عناصره في التدخلات التي قادتها تركيا والتي جرى النظر إليها باعتبارها تتحرك بدوافع مناهضة للأكراد. كما عانى «الجيش الوطني السوري» من موجات تناحر داخلي متكررة.
ونشر «الجيش الوطني السوري» مئات المقاتلين، بجانب أسلحة ثقيلة ومركبات مدرعة مدعومة من تركيا إلى شمال حماة في الفترة ما بين منتصف ونهاية مايو، وذلك لتعزيز المواقف الدفاعية لـ«جبهة التحرير الوطني» وتمكين قدرات الجبهة الهجومية. ويبدو أن انضمامهم إلى ميدان القتال ترك تأثيراً ملموساً ويبدو دورهم بمثابة إشارة واضحة على تصعيد تركي مضاد في مواجهة هجمات سورية وروسية.

«هيئة تحرير الشام»
تشكل «هيئة تحرير الشام» الصورة الثالثة لجماعة كانت تعرف في الأصل باسم «جبهة النصرة». وتأسست «هيئة تحرير الشام» في يناير (كانون الثاني) 2017، بعد 6 أشهر من إعادة تسمية «جبهة النصرة» باسم «فتح الشام»، وتعرضها لتنديدات شديدة من جانب الموالين لـ«القاعدة» داخل سوريا ودولياً باعتبار أنها انشقت عن التنظيم. ورغم مرور «هيئة تحرير الشام» من قبل عبر فترات عداء مع «القاعدة» والموالين لها داخل سوريا، فإنها عملت في الفترة الأخيرة في ظل تفاهم جرى التفاوض حوله حصلت بمقتضاه على سلطة فوق مستودعات أسلحة «القاعدة» وأصبح بإمكانها الدخول إلى خطوطها الأمامية.
وعلى ما يبدو، يقود الزعيم الشاب لـ«هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، حركة سلفية جهادية يبدو أنها تشكل النسخة السورية من «طالبان»، ذلك أنها تتبع آيديولوجية متطرفة بوضوح، لكنها تحصر تركيزها على الوجود داخل حدود دولة قومية: سوريا.
اليوم، لا تزال «هيئة تحرير الشام» تعمل على نحو يتعارض تماماً مع التوجيهات المباشرة الصادرة عن «القاعدة»، خصوصاً من خلال إصرارها على حكم مناطق واقتحام العمل السياسي والتعاون مع حكومتين على الأقل بالمنطقة ومحاولة التواصل سراً مع عدد أكبر من الحكومات، بينها حكومات أوروبية.
وتبقي «هيئة تحرير الشام» قنوات اتصال مع السلطات التركية فيما يخص شؤوناً عسكرية وسياسية وتجارية، لكن العلاقة بين الجانبين لا تدور في إطار الصداقة، وإنما تحكمها المصالح البرغماتية: «هيئة تحرير الشام» تسعى لتجنب تحويل تركيا إلى عدو، بينما تحتاج تركيا إلى تفادي تحول «هيئة تحرير الشام» إلى عنصر تعكير ضدها في شمال غربي سوريا على نحو يهدد مصالحها.
وتشير الاحتمالات إلى أن «هيئة تحرير الشام» يعمل تحت قيادتها نحو 15 ألف مقاتل بصورة كاملة، بجانب آلاف عدة من الموظفين المدنيين. وتبقي الجماعة على نفوذ مهيمن لها بمختلف أرجاء شمال غربي سوريا، لكنها تفتقر إلى الشعبية بشدة في أوساط سكان المنطقة البالغ عددهم 3 ملايين نسمة. وتمثل «هيئة تحرير الشام» العنصر العسكري الأقوى، ويبدو أنها على امتداد 18 شهراً حرصت على تعزيز مستوى تدريب مقاتليها وتسليحهم بأسلحة ومعدات أحدث، منها خوذات وسترات مضادة للرصاص.

الموالون لـ«القاعدة»
الفصائل الأساسية: تنظيم «حراس الدين»، و«حزب تركستان الإسلامي»، و«أجناد قوقاز»، و«كتائب الفاتح»، و«جبهة أنصار الدين»، و«جماعة أنصار الدين»، و«كتائب الإمام البخاري».
منذ انشقاق «جبهة النصرة» عن «القاعدة» وتشكيلها «هيئة تحرير الشام»، انشق عنها كثير من الموالين لـ«القاعدة» في شمال غربي سوريا وشكلوا فرقاً جديدة؛ كان أبرزها تنظيم «حراس الدين» الذي قاده كثير من أعضاء «القاعدة»، منهم اثنان من أعضاء مجلس الشورى العالمي التابع للتنظيم. وتبعاً للتعليمات الصادرة عن زعيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، حرص تنظيم «حراس الدين» والموالون له بدرجة كبيرة على عدم السعي نحو السيطرة على أرض ما أو حكم مجموعة من السكان، وركزوا بدلاً من ذلك على العمل العسكري باعتباره الهوية المميزة لهم والغرض الأساسي الذي يسعون خلفه.
نظرياً؛ فإن جميع هذه المجموعات التي ربما يبلغ قوامها مقاتليها 4 آلاف، يعارضون كل ما يخص «جبهة التحرير الوطني» و«الجيش الوطني السوري»، ويوجهون انتقادات شديدة إلى «هيئة تحرير الشام»، لكنهم تجنبوا التورط في تشاحنات وتقاتل بين الفرق. كما أن هذه المجموعة لا تزال متميزة على صعيد العمليات عن التشكيلات الأخرى سالفة الذكر، وعادة ما تعمل على خطوط أمامية خاصة بها، بدلاً من التعاون مع جماعات أخرى.
من ناحية أخرى؛ فإن أبرز ما يميز «حزب تركستان الإسلامي» جذوره الضاربة بمنطقة سنغان الصينية (أوغور). وبمرور الوقت أصبح الحزب فاعلاً للغاية في شمال سوريا وأكثر قوة بكثير من الكيان الأصلي له في آسيا. وتتمركز منطقة عمليات الحزب في مدينتي بداما وجسر الشغور غرب إدلب، لكنه في الفترة الأخيرة أقدم على خطوة نادرة الحدوث بإرساله مقاتلين إلى شمال حماة؛ الخط الأمامي اليوم لأشرس المعارك على مستوى البلاد.
ورغم استمرار كثير من الاختلافات اليوم بين «هيئة تحرير الشام» و«جبهة التحرير الوطني» و«الجيش السوري الوطني»، وبين «هيئة تحرير الشام» و«القاعدة»، وبين الموالين لـ«القاعدة» و«جبهة التحرير الوطني» و«الجيش الوطني السوري»، فإن إلحاحية المعارك الدائرة شمال غربي سوريا في الأشهر الأخيرة كانت لها الأولوية. الحقيقة أن كثيراً من هذه الفصائل ناقشت التعاون عسكرياً في جبهات أمامية مشتركة ضد التحالف الموالي للأسد، بل وتتعاون فيما بينها فنياً داخل غرفة عمليات واحدة؛ كان يطلق عليها في الأصل «فتح دمشق»، لكن أعيدت تسميتها في الفترة الأخيرة لتحمل أسماء عمليات محددة مخطط لها سلفاً. وفي الأسابيع الأخيرة، جرت سلسلة من الاجتماعات (استثني منها الموالون لـ«القاعدة»)، لمناقشة إمكانية الاندماج الرسمي لبعض هذه القوى، وإن كانت احتمالات حدوث ذلك تبقى ضئيلة.
وحتى الآن، يبدو أن استعداد هذه الجماعات لتنحية خلافاتها الكبيرة جانباً أثمر أداءً دفاعياً وهجومياً أقوى في مواجهة هجوم قوي من جانب سوريا وروسيا. أما مسألة استمرار هذا الصمود فتعتمد بدرجة كبيرة على تركيا ومدى استعدادها للإبقاء على دعم كبير لحلفائها، وعلى روسيا وما إذا كانت ستختار المضي في التصعيد، أم تتحرك نحو وقف التصعيد لأسباب سياسية.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.