«الهروب من جزيرة أوستيكا» تنتصر للحب في زمن القهر

رواية صالح السنوسي تستحضر نضال الليبيين ضد الاستعمار الإيطالي

«الهروب من جزيرة أوستيكا» تنتصر للحب في زمن القهر
TT

«الهروب من جزيرة أوستيكا» تنتصر للحب في زمن القهر

«الهروب من جزيرة أوستيكا» تنتصر للحب في زمن القهر

حين ظهرت روايته الأولى «متى يفيض الوادي» عام 1979، مسلسلة، في دورية «الفصول الأربعة»، الصادرة عن اتحاد الكتّاب الليبيين، فاجأت الساحة الثقافية الليبية. لم يكن أحد يعرف مؤلفها صالح السنوسي، أو سمع باسمه من قبل. كان صالح وقتذاك يحضر رسالة دكتوراه في باريس، متخصصاً في العلوم السياسية. كانت روايته الأولى لافتة، وظهرت في فترة مبكرة من بدايات انبثاق الرواية الليبية، ولم يكن صعباً التنبؤ بأن صالح السنوسي سيكون من ضمن أهم أعمدة السرد الروائي الليبي، ووضع اسم ليبيا على خريطة الإبداع العربي مع كتاب من أمثال إبراهيم الكوني، والمرحوم أحمد إبراهيم الفقيه.
صدرت له بعدها خمس روايات أخرى، وهذه الأخيرة «الهروب من جزيرة أوستيكا» السادسة، صدرت، مؤخراً، عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، إضافة إلى أربعة كتب أخرى في مجال الدراسات السياسية.
طوال مسيرته الإبداعية، حافظ صالح السنوسي على مواصلة بناء عوالم روائية، متميزة، ومختلفة، يربطها سلك غير مرئي، يشدها موضوعاتها، اقتراباً وابتعاداً، ببعضها البعض، وإلى التاريخ.
الرواية السابقة لهذه «يوميات زمن الحشر» تتعرض لأخطر مرحلة في التاريخ الوطني الطلابي، ونعني بذلك ما اصطلح على تسميته بـ«أحداث 7 أبريل (نيسان) 1976»، التي تمكن فيها النظام من القضاء على الحركة الطلابية الوطنية النضالية في الجامعات والمؤسسات التعليمية.
«الهروب من جزيرة أوستيكا»، رواية صغيرة الحجم، 142 صفحة، من القطع الصغير. وهي تستحضر فترة من فترات التاريخ الليبي النضالي ضد الاستعمار الإيطالي، وقيام إدارته الاستعمارية بترحيل العديد من المجاهدين الليبيين وأنصارهم قسراً إلى المنفى في جزيرة أوستيكا. وقام مركز الدراسات الليبية بنشر دراسات توثق لتلك الفترة، مرفوقة بأسماء كل المرحلين قسراً. وصالح السنوسي أول من سعى لاستشكافها روائياً. هذا من جهة. من جهة أخرى، يلتفت الروائي صالح السنوسي إلى هذه الفترة، ويختارها، قصداً، لتكون مسرحاً تتحرك عليه شخوص روايته، وأحداثها، في زمن ترحل فيه قوارب المهربين محملة بالمئات من المهاجرين لعبور البحر في طريقها إلى أوروبا، عبر تلك الجزيرة وغيرها من الجزر الأخرى. جزيرة «أوستيكا» المنفى الاستعماري القسري للمجاهدين الليبيين في بدايات القرن الماضي تصير في الألفية الثالثة حلماً لمهاجرين تجشموا عناء قطع الصحراء الكبرى، ليصلوا الساحل الليبي، آملين أن يصلوها أو يغرقوا ويموتون وهم يحاولون ذلك. وهي مفارقة. هذه ملاحظة أولى.
والملاحظة الثانية، أن السنوسي يهيئ قارئه تدريجياً لأحداث الرواية، وتطوراتها، من خلال مجموعة من المساجين الليبيين الذين حكمتهم محاكم عسكرية إيطالية، وأرسلت بهم إلى جزيرة أوستيكا، ليقضوا عقوباتهم، أو ليموتوا في سجن تلك الجزيرة، الصخرية، المخصص لعتاة المجرمين. ومقابل تلك الأجواء القابضة في السجن، وسوء أحوال السجناء الغرباء، يحرص السنوسي، بمهارة وحنكة، على خلق أجواء إنسانية عامرة بخفق القلوب والمشاعر. التقابل، هنا، سيكون بين ما يخلقه الجبل، والبحر، والسجن، وغلظة السجانين، واغتراب الهوية واللغة، وبين الحب والألفة الإنسانيين. وكأنه يتعمد خلق توازن روحي، وعاطفي، وإنساني، ومن تم صراع الاثنين، وكأن صالح يعيدنا، بشكل غير مباشر، لمتلازمة ثنائية صراع الخير والشر.
صغر حجم الرواية جعلني أقرأها في جلسة واحدة، لكن صغر، أو كبر الحجم، ليس معياراً للحكم على جودة الرواية أو العكس. ما يجعل القارئ مشدوداً إلى العمل الروائي لا يكمن في الحجم، بل في قدرة الروائي على الإقناع المنطقي في بناء هيكلة الرواية، وشخصياتها، وأحداثها، ومهارته في سردها بأسلوب لغوي محكم، وبأسلوب مقنع وممتع جمالياً.
ويكمن القول إن عنوان الرواية خادع. ذلك أن الحب، وليس السجن، تيمة الرواية الحيَّة والقوية. الحب بين الشاب سالم البراني المدرس القادم من مدينة درنة، بشرق ليبيا، والفتاة الإيطالية «لورينزا» ابنة الجزيرة، العاملة في مخازن السجن الزراعية. وتطور تلك العلاقة، سرياً، في ظروف صعبة، رغماً عن أعين الحراس، ورقابتهم الدائمة، وغلظتهم.
هناك، أيضاً، جانب آخر مهم، أو خط آخر لذلك الحب، غير العذري، بين سالم ولورينزا، ومواز له. ونقصد بذلك العلاقة بين السجناء الليبيين، والسجناء السياسيين الإيطاليين، من اليسار الاشتراكي الإيطالي، الرافضين للاستعمار عموماً، ولاستعمار ليبيا من طرف بلادهم إيطاليا بشكل خاص. صالح السنوسي، بعمق ووعي، يميل متكئاً على ذلك الجانب الخفي من تلك الفترة التاريخية، حيث بالنسبة للفاشيست الاستعماريين، الليبيون رعاع، لا يستحقون إلا القتل والسحق. ومن جهة أخرى، بالنسبة لليبيين، فإن الإيطاليين أنجاس كفار ملاعين. صالح السنوسي يخرج من هذه النمطية ليفتح أمام مداركنا ما كان مخفيّاً، بتعمد. وهو أن الفاشية ليست فقط عدو الليبيين، بل الإيطاليين أنفسهم. هناك، في تلك الجزيرة النائية، الصخرية، يولد التآلف، والاحترام، والزمالة، والتوادد بين السجناء، رغماً عن اختلاف هوياتهم، ولغاتهم، لكنهم متفقون على معاداة الاستعمار، ومناوأة الفاشية، وكارهون لفظاظة الحراس التي لا تفرق بينهم، ولا إنسانية الظروف المحيطة بهم، خارج زنازين السجن، وداخلها، التي تتآمر عليهم، وتأكل أعمارهم، وأبدانهم.
هذا الكون الصغير من البشر المنفيين، السجناء، ومشاعرهم، وأحلامهم، يمتد عبر صفحات الرواية وسطورها، وبإيقاع يبدأه السنوسي ببطء متعمد، لخلق إحساس لدى القارئ مقابل لبطء الإيقاع الحياتي اليومي، في تلك البقعة، سيئة الصيت، من العالم. لكن ذلك البطء يبدأ في التسارع مع تسارع نبضات قلوبنا، وهي تتابع مشدودة نمو علاقة الحب بين سالم ولورينزا، وتطور أحداثها، ثم حين نصل النهاية، تحسّ قلوبنا بالإجهاد، من شدة تسارع دقاتها، وهي تتابع هروب المحبين، وتتمنى نجاحهما، وتحسّ أرواحنا بإحباط النهاية، من مرارة ما ذاقت من هزيمة، على بعد أمتار قليلة من انتصار الحب بتحقيق الحرية.
لكن الهزيمة ليست نهائية، لأن موت سالم مقتولاً برصاص قناص فاشٍ، وهو يحاول الهرب لا يعني نهايته، أو نهاية حلمه - أحلامنا، واستمراريتها. نجاة لورينزا من الموت، ونجاة ما أودعه حبيبها سالم في رحمها من بذور الحياة، سوف ينمو في أحشائها، ويخرج إلى الوجود، مواصلاً رسالة وحلم والده، في الكفاح من أجل حياة أفضل، في عالم، حتماً قادم، تنتفي فيه الفواصل والحواجز بين البشر، أينما كانوا.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!