«داعش» يراوغ بأكاذيب التمدد

أعلن «ولاية الهند» ويراهن على «خلايا طاجيكستان»

عناصر من «داعش» في طريقهم للمثول أمام المحكمة في أحمد آباد بالهند  بعد ضبطهم وهم يحضرون لهجمات إرهابية في فبراير 2017 (غيتي)
عناصر من «داعش» في طريقهم للمثول أمام المحكمة في أحمد آباد بالهند بعد ضبطهم وهم يحضرون لهجمات إرهابية في فبراير 2017 (غيتي)
TT

«داعش» يراوغ بأكاذيب التمدد

عناصر من «داعش» في طريقهم للمثول أمام المحكمة في أحمد آباد بالهند  بعد ضبطهم وهم يحضرون لهجمات إرهابية في فبراير 2017 (غيتي)
عناصر من «داعش» في طريقهم للمثول أمام المحكمة في أحمد آباد بالهند بعد ضبطهم وهم يحضرون لهجمات إرهابية في فبراير 2017 (غيتي)

هل تكون الهند وطاجيكستان واجهتا تنظيم «داعش» المقبلتين بعد هزائم سوريا والعراق؟ سؤال يتبادر إلى الأذهان عقب تلميحات أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، إلى تأسيس «ولايات جديدة»، خلال التسجيل المصور الذي ظهر فيه نهاية أبريل (نيسان) الماضي بعد اختفاء 5 سنوات. المساعي «الداعشية» الجديدة تأتي في إطار محاولات التنظيم إثبات قدرته على التمدد في مناطق بعيدة عن التي ظهر فيها وحاول تطبيق مشروع «الدولة المزعومة» بها وفشل، بعد أن تعرض لضربات عسكرية قوية وخسائر مادية وبشرية.
متخصصون في الحركات الإسلامية قالوا إن «داعش» يحاول أن يلفت الأنظار إليه، وإيجاد أماكن جديدة، حتى لو في الفراغ، من أجل الظهور الإعلامي فقط، وإثبات أنه ما زال موجوداً ويتوسع. مؤكدين أن «داعش» تحول إلى «خلايا نائمة» وهذا يُمثل بُعداً آخر تفوح منه رائحة الخطورة، وسط مخاوف من عمليات كبرى في الهند أو طاجيكستان أو المناطق القريبة منهما.
ويرى مراقبون أن «داعش» يُحاول أن يبدأ من جديد حيث بداياته الأولى، فالتنظيم يمتلك خبرة استراتيجية سواء في الانكفاء والانزواء على النفس، أو العودة من جديد بعد الخفوت.

ظهور البغدادي
وأعلنت وكالة «أعماق» التابعة للتنظيم في مايو (أيار) الماضي، تأسيس ولاية جديدة في الهند. وذكرت دراسة لمركز «المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة» في أبوظبي، أن «إعلان التنظيم عن تأسيس ولايته الجديدة في الهند، جاء بعد نحو شهرين من التصريحات التي أدلى بها بعض المسؤولين الغربيين بشأن القضاء عليه بنسبة كبيرة، وبعد الظهور الأخير للبغدادي، والذي تزامن مع حلول الذكرى الخامسة لتأسيس التنظيم ذاته، وهو ما يكشف أن التنظيم كان يسعى عبر ذلك إلى توجيه رسالة مفادها أن المشروع الذي سعى إلى تطبيقه لم يسقط بعد، رغم كل الضغوط التي يتعرض لها».
وقال عمرو عبد المنعم، الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية، إن «(داعش) يحاول لفت الأنظار إليه، وإيجاد أماكن جديدة له، حتى لو في الفراغ، من أجل الظهور الإعلامي فقط، وتأكيد أنه ما زال موجوداً ويهدد ويتوسع، فالتنظيم لم يُنفذ إلا 3 أو 4 عمليات في الهند على مدى السنوات الماضية، وهي عمليات لا تُذكر، ولا يستطيع القول إنه حقق في الهند أي نجاحات سابقة»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»، أن «التنظيم يحاول أن يُعلن عن (ولاية الهند) عقب الفشل الكبير الذي مُني به في العراق وسوريا، والضربات التي تلقاها في ليبيا، وارتفاع الصراع الوجودي بينه وبين (القاعدة)، خصوصاً أن (القاعدة) كان له عمليات في الهند منذ أحداث أفغانستان ثم البوسنة والهرسك».
ولفت عبد المنعم إلى أن «بعض عناصر (القاعدة) لجأوا إلى آسيا الوسطى والقوقاز من قبل، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، استقلت هذه الدول وورثت الصراعات المذهبية والسياسية، ويسعى التنظيم إلى استغلال التوترات التي تتسم بطابع ديني أو عرقي لتعزيز قدرته لتحقيق أهدافه».
ويشار إلى أن فقدان «القاعدة» النفوذ في الهند، اعتبره «داعش» فرصة للتمدد في المناطق التي سبق أن سعى تنظيم «القاعدة» إلى الظهور فيها.

بؤر جديدة
وعن أهداف «داعش» من إعلان عن «ولاية الهند». أرجعتها دراسة مركز «المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة» إلى محاولة التنظيم الهروب إلى الأمام، إذ يبدو أن قادة «داعش» باتوا يدركون أن الحفاظ على هيكل التنظيم في كل من العراق وسوريا بات صعباً بدرجة كبيرة، خصوصاً بعد سقوط الباغوز التي مثّلت نهاية للمشروع الذي تبناه وحاول تطبيقه على الأرض، وهو ما دفعهم إلى البحث عن بؤر جديدة يُمكن من خلالها ليس فقط الحفاظ على هذا المشروع، إنما أيضاً تمكين العناصر الهاربة من البؤر «الداعشية» المحاصرة من الانتقال إليها. ورغم اهتمام «داعش» بمحاولات تعزيز نفوذه في القارة الأفريقية فإنه يواجه عقبات في مقدمتها النفوذ الذي يحظى به «القاعدة»، الذي تمكن من توجيه ضربات قوية إلى بعض المجموعات «الداعشية» في مناطق نفوذها، خصوصاً في منطقة الساحل الأفريقي، وهو ما دفع قادة «داعش» إلى البحث عن مناطق جديدة يُمكن أن يحققوا من خلالها هذا الهدف. بالإضافة إلى أن التنظيم ما زال حريصاً على استقطاب مزيد من العناصر الإرهابية في أنحاء مختلفة من العالم، حيث يستخدم آليات مختلفة في هذا السياق، يتمثل أبرزها في الإعلان عن تأسيس «ولايات خارجية» تابعة له، أو مبايعة مجموعات إرهابية مختلفة قريبة من توجهاته.
لكن الدراسة ذكرت أن الفرع الجديد في الهند ربما لن يتمكن بسهولة من ممارسة الدور نفسه الذي سبق أن مارسه بعض المجموعات الإرهابية التي أعلنت مبايعتها لـ«داعش»، خصوصاً أن تلك الخطوة الأخيرة جاءت في سياق محاولات التنظيم مواجهة انحسار نشاطه ورفع معنويات كوادره وعناصره.

تداعيات الانحسار
في غضون ذلك، يسعى «داعش» أيضاً إلى طاجيكستان في إطار التمدد في آسيا الوسطى، كونها تمثل أهمية كبيرة بالنسبة إليه، إذ يرى أن هذا التمدد يمكن أن يساعده في احتواء تداعيات الانحسار والتراجع الذي يعاني منه في العراق وسوريا.
وأكد المراقبون أن التنظيم سعى عبر الخلايا التي قام بتكوينها داخل طاجيكستان إلى تنفيذ عمليات إرهابية على أراضيها، حيث وجه القضاء الطاجيكي في بداية مايو (أيار) 2016 اتهاماً إلى اثنين من عناصر التنظيم بمحاولة استهداف الرئيس إمام علي رحمانوف عام 2015.
وفي يونيو (حزيران) الماضي، أعلن «داعش» تبنيه قتل أربعة من راكبي الدراجات الغربيين دهستهم سيارة في طاجيكستان... وقتل «داعش» في مايو الماضي، ثلاثة من حراس سجن مدينة فاخدات، و29 نزيلاً في السجن شديد الحراسة.
وعن حرص «داعش» على تعزيز نفوذه داخل طاجيكستان. قالت دراسة مركز «المستقبل» في هذا الصدد إن «روسيا تمثل إحدى القوى الدولية التي تحاول الخلايا التابعة لـ(داعش) استهداف مصالحها، خصوصاً في ظل الدور الذي تقوم به في سوريا، حيث رفعت مستوى انخراطها العسكري في الصراع السوري منذ سبتمبر (أيلول) 2015 على نحو أسهم بشكل كبير في تغيير توازنات القوى لصالح النظام السوري، فضلاً عن أنها مثّلت ظهيراً دولياً حال دون صدور قرارات إدانة ضده من مجلس الأمن».
من جانبه، قال خالد الزعفراني، الباحث المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، لـ«الشرق الأوسط»، إن «التنظيم تحول إلى (خلايا نائمة) الفترة الماضية، وهذا يمثل بعداً آخر تفوح منه رائحة الخطورة، حيث الانتشار في شكل أفراد أو مجموعات صغيرة، والاندماج وسط المجتمعات المحلية في الهند وطاجيكستان، وفي المناطق الصحراوية التي لدى التنظيم خبرة الاختفاء فيها».

صراعات مذهبية
بينما أكد عبد المنعم أن «(داعش) أسهل له أن يعلن عن تأسيس ولاية هنا أو هناك، فهو يعمل في المساحات الفارغة أو الضيقة في المحيط الدولي الواسع، فهو يتحرك بقوة في أفريقيا، وفي طاجيكستان مستغلاً الخلاف السني والشيعي، لأن طاجيكستان وريث صراع 3 قوى (الشيوعية، والقوى السنية المتمثلة في تركيا، والشيعية المتمثلة في إيران)، فالصراع كبير في طاجيكستان، ويحاول التنظيم أن يدخل في هذه المساحات ويلعب عليها، فهو يدّعي تحركه ضد الرافضة، ثم يدّعي تحركه ضد الشيوعية، ومرة ثالثة يدّعي تحركه ضد القوى العلمانية، وهذا كله وفقاً لما يخدم مصالحه». وأشارت تقارير روسية في فبراير (شباط) الماضي، وفقاً للدراسة، إلى أن ثمة مخاوف عديدة تنتاب موسكو من احتمالات عودة مقاتلي «داعش» إلى دولهم الأصلية في آسيا الوسطى من أجل توجيه ضربات ضد مصالحها، خصوصاً في طاجيكستان، إذ تمكن «داعش» من تأسيس خلايا عديدة تابعة له داخل أفغانستان، التي يسعى عبرها إلى مهاجمة مصالح بعض القوى الدولية والمحلية، فضلاً عن استهداف التنظيمات الإرهابية المنافسة. وذكرت التقارير نفسها أن تنظيم «داعش» يحاول الاستعانة بخلاياه الموجودة في طاجيكستان في العمليات التي يقوم بتنفيذها داخل أفغانستان، لدرجة أن عدد الطاجيك داخل ما تسمى «ولاية خراسان» زاد بشكل ملحوظ في الفترة الماضية، بالإضافة إلى استغلال السجون في تجنيد واستقطاب عناصر جديدة، وهو ما دفع اتجاهات عديدة إلى التحذير من المخاطر التي يفرضها الجمع بين عناصر «داعش» والسجناء في قضايا أخرى داخل السجون الطاجيكية.
في هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم: «لا نستطيع أن نغفل أنه عندما يعلن (داعش) عن ولاية جديدة سواء في الهند أو طاجيكستان، أن تتبعها عملية كبرى سواء في هاتين الدولتين أو في منطقة قريبة منهما... وهو بذلك يريد أن يُغطي على عملية كبرى قد تحدث في آسيا الوسطى».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.