كمال مرجان... سياسي مخضرم دخل السباق إلى قصر الرئاسة التونسية

دبلوماسي ووزير دفاع يتزّعم رموز النظام السابق

كمال مرجان... سياسي مخضرم دخل السباق إلى قصر الرئاسة التونسية
TT

كمال مرجان... سياسي مخضرم دخل السباق إلى قصر الرئاسة التونسية

كمال مرجان... سياسي مخضرم دخل السباق إلى قصر الرئاسة التونسية

وقع حزب «تحيا تونس» بزعامة رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد مع زعيم حزب «المبادرة الدستورية الديمقراطية» الوزير المخضرم كمال مرجان اتفاق اندماج رسمي بين الحزبين، في موكب شهده مئات من كبار كوادرهما، في واحدة من أبرز خطوات التأثير في المشهد السياسي والانتخابي التي يتردد في الكواليس أن باريس وعواصم غربية تدعمها. ولقد أكد اندماج الحزبين انفتاح الشاهد (42 سنة)، الزعيم الشاب لحزب «تحيا تونس» ورفاقه على السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين المخضرمين، الذين تحملوا مسؤوليات عليا في الدولة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ثم بعد الإطاحة بحكمه في يناير (كانون الثاني) 2011، بينهم الوزير كمال مرجان.

ردود الفعل على خطوة الاندماج بين حزبي «تحيا تونس» و«المبادرة الدستورية الديمقراطية»، مؤخراً، تراوحت بين الترحاب والانتقاد اللاذع. وهي أكدت ما سبق تسريبه عن إبرام أنصار يوسف الشاهد وكمال مرجان وقياديين من «حركة النهضة» ومن أحزاب اليسار اتفاقاً سياسياً انتخابياً شاملاً في الكواليس بين عدة لوبيات سياسية واقتصادية. ويهدف هذا «الاتفاق» إلى تأمين فوز الشاهد برئاسة حكومة ما بعد انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وكمال مرجان برئاسة الجمهورية، وشخصية ثالثة مقربة من «حركة النهضة» برئاسة البرلمان (؟).
ودُعمت حظوظ هذا السيناريو بعد المباحثات التي أجراها مؤخراً رسميون في حكومة الشاهد وقياديون من أحزاب «تحيا تونس» و«المبادرة» و«النهضة» مع مسؤولين كبار في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، ومع السفراء الغربيين المعتمدين في تونس.

- لوبي صناع القرار
يعتبر كمال مرجان، وزير الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري في حكومة الشاهد الحالية، ووزير الدفاع بين 2005 و2010، ثم وزير الخارجية حتى انهيار حكم بن علي في يناير 2011، من أكثر الشخصيات السياسية التونسية إثارة للجدل داخل مطابخ صنع القرار السياسي والاقتصادي. وكان من بين نقاط قوته وضعفه في الوقت نفسه، قبل ثورة يناير 2011 وبعدها، أنه من بين أصهار عائلة زين العابدين بن علي من جهة زوجته درّة، التي هي ابنة عم الرئيس الأسبق وصديقه الطيار رضا بن علي.
ولد مرجان في الحي السكني الذي ولد فيه زين العابدين بن علي في الضاحية الشمالية لمدينة سوسة السياحية بمنطقة الساحل التونسي، التي ينحدر منها أبرز رجالات الدولة والمال والأعمال منذ استقلال تونس عن فرنسا في 1956. وبين هؤلاء الرئيسان الحبيب بورقيبة وبن علي ورؤساء الحكومات محمد الغنوشي وحامد القروي ورشيد صفر ومحمد مزالي والهادي نويرة وأحمد بن صالح وأشهر الوزراء. وكان القنطاوي مرجان، والد كمال مرجان، من أبرز المقربين إلى بورقيبة وبن علي ومحافظا لمنطقة سوسة. وكان أيضاً يوصف بـ«أبو السياحة في الساحل التونسي» بعدما نجح في تأسيس مدينة سياحية عصرية متكاملة فيها تحمل إلى اليوم اسم «القنطاوي»، تكريماً له ونسبة إلى ولي صالح شهير في الجهة يحمل الاسم ذاته.
ولد كمال مرجان يوم 9 مايو (أيار) 1948، وحصل على الإجازة الجامعية في الحقوق ودبلوم الإدارة العامة من جامعة تونس. ثم تابع دراسته العليا وتخرج بشهادة عليا في القانون الدولي في المعهد العالي للدراسات الدولية في جنيف بسويسرا. كما حصل على دبلوم في إدارة الطوارئ من جامعة ويسكونسن بالولايات المتحدة، وشهادة أبحاث من أكاديمية لاهاي للقانون الدولي في هولندا.

- مرشح قديم للرئاسة
يعود الجدل حول شخص مرجان، المرشح الافتراضي للانتخابات الرئاسية المقبلة، إلى السنوات الأخيرة في حكم بن علي عندما كان وزيرا للدفاع، وفي حينه رشحته وسائل إعلام دولية لتولي حقيبة رئاسة الجمهورية في حال «حدوث شغور في المنصب». ولقد تردد أن ليلى الطرابلسي، حرم الرئيس الأسبق بن علي وبعض أصهاره ومستشاريه ضغطوا يومذاك على الرئيس لإبعاد مرجان، مع التحذير من علاقاته المتطورة بواشنطن والعواصم الغربية منذ بدء مسيرته في مكاتب الأمم المتحدة في 1976. ثم على رأس بعثة تونس في جنيف في 1996، إلا أن بن علي لم يعزله. بعدها، نقله الرئيس من حقيبة الدفاع إلى الخارجية وعينه عضوا في القيادة العليا للحزب الحاكم فطوّر شبكة علاقاته عربياً ودولياً.
وفسّر عدم تخوف بن علي من كمال مرجان بعلاقات المصاهرة التي تجمعه بابن عمه رضا بن علي، الزعيم الكشفي والسياسي الوطني وأحد قادة الطائرات التونسية الأوائل، إلى جانب الإشعاع السياسي في جهة الساحل لوالده القنطاوي مرجان رفيق «الزعيم الحبيب بورقيبة ورجل المال والسياسة البارز في مدن الساحل التونسي». ومع أنه تعاقبت ترشيحات مرجان للرئاسة من قبل «لوبيات» مؤثرة في البلاد بعد سقوط بن علي في يناير 2011، ثم بعد الانتخابات الرئاسية عام 2014، فإنه فشل مراراً في تزعّم المعارضين لـ«حركة النهضة» و«حكومة الترويكا»، وانتزع المشعل منه الباجي قائد السبسي زعيم حزب «نداء تونس».

- لم ينسحب من الساحة
في المقابل، وخلافاً لغالبية كبار المسؤولين في الحزب الحاكم والدولة في عهدي بورقيبة وبن علي، لم ينسحب كمال مرجان والمقربون منه من المشهد السياسي بعد ثورة يناير 2011، بل خاض مع ثلة من كوادر الحزب الحاكم السابقين والشخصيات الليبيرالية تجارب حزبية وسياسية وانتخابية عارضت شعارات مَن لقبوهم بـ«الثورجيين» الذين خلطوا بين الفوضى وانتفاضة الشباب واحتجاجاتهم على بعض سياسات بن علي ورجال الحكم السابقين.
وتحالف مرجان مع شخصيات سياسية اعتبارية من كبار الوزراء والمسؤولين الذين عارضوا بعض قرارات بن علي من الداخل خلال السنوات الأخيرة من حكمه، مثل وزير السياحة والداخلية والمستشار في قصر قرطاج محمد جغام ورؤساء الحكومة السابقين مثل حامد القروي والهادي البكوش ومحمد الغنوشي، وجميعهم من أصيلي مدينة سوسة.
كذلك عارض مرجان ورفاقه منذ 2011 الخطابات الثورية التي وصفت حصيلة ما جرى في تونس طوال 55 سنة بـ«الخراب الشامل». ودافع عن استمرارية «الدولة» مستفيداً من ماضيه الليبرالي والدبلوماسي والحقوقي وفهمه لعمق المتغيرات الجيو استراتيجية بعد تفجر ما سمي ثورات «الربيع العربي». وبعكس نحو 40 حزباً أسست في 2011 من قبل شخصيات ومجموعات كانت في الحزب الدستوري الحاكم قبل 2011، أحدث حزب «المبادرة الدستورية» بزعامة مرجان المفاجأة في منطقة الساحل التونسي في انتخابات أكتوبر 2011 ففاز مرشحوه بنحو 100 ألف صوت وظفر بـ5 مقاعد في البرلمان الانتقالي.

- أنصار المصالحة الوطنية
من جهة ثانية، تعرّض مرجان وحزبه طوال السنوات الثماني الماضية إلى انتقادات بالجملة من قبل النقابيين المعارضين السابقين من يساريين وإسلاميين وعروبيين، الذين اتهموه ورموز الدولة السابقة بتحمل مسؤولية «الخراب الذي وصلت إليه البلاد بعد 55 سنة من حكم بورقيبة وبن علي». وكان يرد عليهم ساخراً «ردّوها لنا في مستوى الخراب الذي تسلمتم فيه الحكم».
وحقاً، لعب عامل الزمن لصالح موقف مرجان، بعدما أصبح جلّ المسؤولين والخبراء الاقتصاديين في الحكم والمعارضة من مختلف التيارات يقرّون بأهمية إنجازات الدولة والإدارة التونسية قبل 2011. ويعترفون بأن البلاد حققت مكاسب، وكانت في حاجة إلى مصالحة وطنية شاملة وإلى إصلاحات، وليس إلى القطيعة الكاملة مع الماضي، أو سياسات ارتجالية تسببت في انتشار الفوضى الأمنية وتعميق مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية ومعاناة شعبها.
ولذا انخرط مرجان ورفاقه، بزعامة محمد الغرياني، مبكراً في تيار الأقلية الدستورية الليبيرالية المطالبة بالمصالحة الوطنية بين مختلف رموز الدولة القدامى والجدد والتيارات السياسية والفكرية الثلاثة: الدستوريين والإسلاميين واليساريين. وشجّع مرجان منذ أغسطس (آب) 2013 اتفاق التوافق السياسي المبرم في باريس بين الرئيس الباجي قائد السبسي، زعيم المعارضة و«جبهة إنقاذ تونس» - حينذاك - وراشد الغنوشي رئيس «حركة النهضة» وزعيم الائتلاف الحاكم.

- نقاط ضعف قاتلة
لكن هذا الانخراط في تيار المصالحة الوطنية غدا سلاحاً ذا حدّين بالنسبة لمرجان وأمثاله من دعاة الوسطية والاعتدال في بلد تزايد فيه أنصار الغلو والتشدد بين الأوفياء للحزب الحاكم قبل ثورة 2011 ومعارضيهم. فمن ناحية، استفاد مرجان من دعواته للحوار والتوافق الوطني، وانحاز قياديون بارزون من التيارين، بينهم الوزير والسفير محمد الغرياني - آخر أمين عام للحزب الحاكم في عهد بن علي - وأحمد نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر وراشد الغنوشي زعماء المعارضة قبل 2010، إلى خيار طي صفحة الماضي والمصالحة بين كل الأطراف السياسية دون استثناء. وفي المقابل تكثفت النيران الصديقة الموجهة إلى مرجان وبعض رفاقه القدامى في الحزب والدولة بسبب فتحهم حوارات علنية مع أعدائهم السابقين في المعارضة التي حاربها بن علي بزعامة الغنوشي وبن جعفر والمنصف المرزوقي ورئاسة نقابات العمال ونقابات اليسار الاشتراكي والقومي بقيادة حمة الهمامي وزهير حمدي وزياد الأخضر وزهير المغزاوي ومباركة الإبراهيمي.
وبعدما أوشك مرجان أن يكون مرشح رموز النظام السابق في انتخابات 2014، بدعم من «لوبيات» كبار رجال المال والسياسية في محافظات الساحل التونسي، تخلت تلك «اللوبيات» عنه في آخر لحظة بعدما اتهمته بخذلانها لدفاعه عن خيار المصالحة مع كل الأطراف ومعارضته إقصاء قيادات «حركة النهضة» وما يسمى مجموعات الإسلام السياسي.
وتعتبر المحامية عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري - التي يعارض خطابها بقوة كل أشكال الانفتاح على «حركة النهضة» ويطالب القضاء بحله - حسب كلامها «أن الأخطاء القاتلة لكمال مرجان ومحمد الغرياني ورفاقهما بدأت عندما تصالحوا مع إخوان تونس الذين أقصاهم الرئيسان الحبيب بورقيبة وبن علي طوال خمسين سنة»

- الرهان على الشاهد والعزابي
في أي حال المستقبل السياسي لكمال المرجان والمقربين منه من السياسيين المخضرمين الذين عملوا في مؤسسات الدولة طوال العقود الماضية، سيكون رهين مستجدات كثيرة أهمها، الائتلاف السياسي الذي تشكل حول الشاهد ورفيقه سليم العزابي وجيل من السياسيين ورجال الأعمال معظمهم تحمل مسؤوليات وسطى وصغيرة في عهد بن علي. وللعلم، الشاهد والعزابي بعد التحالف مع مرجان اختاراه رئيسا للمجلس الوطني للحزب الجديد بعد انضمام كوادر حزب «المبادرة». وهما يراهنان على أن يساهم وهو في سن الـ71 في تطعيم الحزب بنخبة من كوادر الدولة والإدارة والسياسيين وتحقيق المصالحة بين الأجيال في العائلة الدستورية.
ومن جانب آخر، اعتبر البعض اختيار مرجان ليكون الشخصية الثانية أو الثالثة في حزب «تحيا تونس» رسالة تطمين داخلية وخارجية للأطراف المتخوفة من دلالات الإشاعات حول تقارب الشاهد والعزابي وبعض رفاقهما «المبالغ فيه» مع قيادة «حركة النهضة» وقيادات التيار الإسلامي. وعلى الرغم من توجيه التهمة ذاتها إلى مرجان فإن رصيده الدبلوماسي الكبير وانخراطه منذ نحو خمسين سنة في حزب بورقيبة وبن علي، وفي مؤسسات الدولة والأمم المتحدة منذ 1976، من شأنهما أن يطمئنا بسهولة رجال المال والأعمال وصناع القرار السياسي حول توجهاته وخيارات زعماء الحزب الجديد الحداثية والعلمانية، وحول مستقبل علاقتهم بالغرب.

- ورقة الغاضبين
لكن كثيرين من أصحاب مؤسسات استطلاع الرأي والإعلاميين، مثل إبراهيم الوسلاتي وحسن الزرقوني والمنذر بالضيافي، يعتبرون أن الحظوظ الانتخابية لكمال مرجان وشركائه في حزب الشاهد - العزابي والائتلاف الحكومي الحالي مرهونة بالسلوكيات السياسية للجمهور العريض الذي فقد الثقة في غالبية السياسيين والأحزاب بسبب تدهور أوضاعه المعيشية. ومن ثم، إذا استمر ارتفاع الأسعار وعجزت الدولة عن ترضية قطاع عريض من الغاضبين - وبينهم مليون متقاعد وأكثر من نصف مليون شاب عاطل عن العمل - فقد تفرز انتخابات الخريف القادم فوز الأحزاب والأطراف السياسية الشعبوية بـ«زعامة» عبير موسى نائبة أمين عام الحزب الحاكم في عهد بن علي.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.