«الصليبية والجهاد»... حرب الألف سنة بين الشمال والجنوب

ويليام بولك يقدم خلاصة بحث جاد استمر سبعين سنة

«الصليبية والجهاد»... حرب الألف سنة بين الشمال والجنوب
TT

«الصليبية والجهاد»... حرب الألف سنة بين الشمال والجنوب

«الصليبية والجهاد»... حرب الألف سنة بين الشمال والجنوب

صدر حديثاً في بيروت الترجمة العربية لكتاب «الصليبية والجهاد: حرب الألف سنة بين العالم الإسلامي وعالم الشمال» (CRUSADE AND JIHAD)، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، وهو من تأليف ويليام بولك، وترجمة د. عامر شيخوني، ومراجعة وتحرير د. عماد يحيى الفَرَجي.
ويُعدُّ المستشرق الأميركي ويليام بولك، الذي ولِدَ عام 1929 في مدينة فورث وورث بولاية تكساس الأميركية، من أشهر المؤرخين والمستشرقين الذين حضروا إلى منطقة الشرق الأوسط والجزيرة العربية. فقد مكث في عدد من الدول العربية فترة طويلة جداً، باعتباره صحافياً ودبلوماسياً وباحثاً، واستطاع خلال هذه الفترة أن يجمع تاريخ المنطقة العربية، خصوصاً الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وكان ويليام ر. بولك أستاذاً للأدب العربي والتاريخ في جامعة هارفارد وجامعة شيكاغو، ودرّس في أميركا ومكسيكو وتشيلي وبغداد والقاهرة، ونشر 19 كتاباً في العلاقات الدولية، خصوصاً ما يتعلق بفلسطين ولبنان والعراق وإيران وأفغانستان والعالم العربي والشرق الأوسط. ويرد في الكتاب عدد من العناوين الفرعية عن الرسول محمد (ص)، والفتوحات، والخلفاء، والاحتلال الأوروبي للمنطقة العربية، وحركات الإسلام السياسي في المنطقة، المعتدلة منها والمتشددة، كما يتحدث عن تنظيم الإخوان المسلمين، وفلسفة سيد قطب، وعن الهند وباكستان، وطريق الحرير، وانهيار الإمبراطوريات في الشرق... كما يتحدث الكاتب عن بعض الشخصيات من الشرق الأوسط: طالِب باشا النَّقيب، وجمال الدين الأفغاني، وميشال عفلق، وجمال عبد الناصر، ورشيد عالي الكيلاني، ومصطفى كمال أتاتورك، وأسامة بن لادن، وسيد قطب، وصدّام حسين.
ويُقدِّمُ لنا المستشرق ويليام بولك في هذا الكتاب خلاصة لمعارفِهِ المباشرة وَبحثِهِ الجاد على مدى سبعين سنة مِن الدراسة والعمل في كثير من دول العالم، وخلال فترة طويلة تغطِي ألف عام من التفاعل بين ما يسميه «الشمال العالمي» الذي أصبَحَ منذ القرن الخامس عشر متقدماً علمياً وقوياً عسكرياً، و«الجنوب العالمي» الذي كان متقدماً ومُتحَضراً بشكل عام، ثم انحدر في ظلام التخلف والجهل والضعف والخضوع للقوى الإمبريالية الشمالية. ويُحاولُ في استقرائه أحداث الماضي أن يَصِلَ بنا جميعاً في الشمال والجنوب لأن يفهم بعضنا بعضاً، ونعرف أسباب ما نُعاني منه الآن من الخوف وانعِدَام الأمن والسلام.
وتَرجعُ أهمية الكتاب لصُدورِهِ عن باحِثٍ عارِفٍ من أهل «الشمال العالمي» القوي المُنتَصِر، وليس واحداً من أهل «الجنوب العالمي» الضعيف المُشتكي... كما تأتي أهميته من كون مؤلفه لا يُحاوِلُ أنْ يجدَ مُبرراً للإرهاب، ولا أن يَلتَمِسَ له عُذراً، بل يطرح القضية أمامنا في سياقها التاريخي، ومِنْ جوانبها كافة، لكي نستطيع أن نَفهَمَ ما جَرى، وما يَجري، مِنْ أجلِ أنْ نَتوقع ما سيَجري، ونُحاوِلَ إعادة النظر في العلاقة بيننا، على أمل أن نَتَوصَّلَ معاً إلى عالم يَسودُهُ الأمن والسلام.
- الصراع التاريخي
الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب هي الصراع التاريخي الطويل، الذي ما زال مستمراً حتى وقتنا الحاضر بين الشمال العالمي (الغني نسبياً، المتقدّم، وقواته الإمبريالية السابقة) والجنوب العالمي (الفقير نسبياً، والتقليدي، والمستعمَر). ويُقدم فيه مؤلفه ملخصات تاريخية مهمة وسريعة لشعوب الجنوب... غير معروفة تماماً لسكان الشمال. وفيما يخص المسلمين عموماً، يرى بولك أن المسلمين كانت لديهم محاولات للتأقلم مع العالم الجديد الذي وَجَدوا أنفسهم فيه خلال القرن التاسع عشر، من خلال التأكيد على هويتهم وتقاليدهم، وإعادة ترتيب دفاعاتهم على أسس دينية. وقد ساهم الرحالة العرب، وكانوا غالباً من جنوب شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، في نشر الدين الإسلامي في المناطق التي يمارسون فيها رحلاتهم وتجارتهم، خصوصاً الهند والشرق الأقصى. ثم ينتقل إلى الحديث عن الإمبراطورية الفارسية والعثمانية اللتين عانتا من الصراعات والحروب فيما بينهما، وكذلك الصراع الداخلي لكلٍّ منهما. ففي القرن السادس عشر، كانت الإمبراطورية العثمانية التركية، والصفوية الإيرانية، والإمبراطورية التركية - المُغولية في الهند، بين القوى العظمى في العالم. وقد تعاونَتْ معهم بعض الدول الأوروبية، بينما حاربَتْهم أخرى بشَراسة. ومع نهاية القرن السابع عشر تقريباً، دَبَّ الضَّعف في هذه الإمبراطوريات الثلاث، مما فَتَحَ المجال أمام دول الشمال العالمي للتَّحرك نحو الجنوب.
ويُشير الكاتب إلى أَنَّ الهند في أواسط القرن التاسع عشر كانت تُنتِجُ نحو ربعَ ثروة العالم، بينما كانت بريطانيا تنتج 3 في المائة، لا أكثر. وقد كتب وزير الدولة الهندي الأسبق للشؤون الخارجية، شاش ثارور: «تم تمويل نهضة بريطانيا على مدى مائتي سنة عن طريق نهب الهند... وبُنيَت الثورة الصناعية البريطانية على أطلال الصناعات الهندية المُدَمَّرة... وأدى ذلك إلى أول الانهيارات الصناعية الكبرى في العالم المعاصر». وكما في الهند، حدثَ الشيء نفسه في مصر، حيث لم يكن مشروع قناة السويس مفيداً لمصر، بل بُنِي لمصلحة الأجانب على حساب مصر، فقد أطلق إيفلين بارينغ (Evelyn Baring)، الذي يَعرفه التاريخ باسم اللورد كرومر، حملة تشويه مصر، وكان في حقيقته «مصرفي على ظَهرِ حِصان». فما حدث في مصر، كما يؤكد المؤلف، سارَ متوازياً في الإمبراطورية العثمانية التي اقتَرَضَتْ من البنوك الأوروبية في الفترة من 1854 - 1875 ما قيمته تسعمائة مليون دولار، وقد فُرِضَ نمط مماثل على الجزائر من قبل الفرنسيين، وعلى الهند من قبل البريطانيين. وكان ذلك ما فَعَلَهُ الصينيون والروس في آسيا الوسطى أيضاً. المصرفيون على ظهور الجياد لم يكونوا سوى بعض فرسان الإمبريالية. ولم يتوقف تدخل الشمال في الجنوب على الصعيد الاقتصادي، إنما وصل إلى الجانب الإنساني، حيث كان للأميركيين دَورَ في تجارة العبيد التي جَلَبَتْ ملايين الأفارقة إلى الغرب.
ويقول الكاتب بهذا الشأن: «حتى عندما نريد نحن الشماليين أن نتَجاهلَ هذه الوقائع التاريخية، فإن أحفاد الضحايا لن ينسون، حيث يلعب التاريخ البعيد دوراً مهماً في نمو وتزايد مشاعر المسلمين نحو الشمال... ذكرياتُ الإمبريالية بكل ما فيها من إهاناتٍ ومذابح تَظَلُّ حيَّة في أذهان الضحايا». لقد قدم ويليام بولك في هذا الكتاب وجهة نظر متوازنة، وذلك يُعتبر من الأهداف التي يسعى إليها المؤرخ عندما يدوّن الأحداث التاريخية بكلِّ تجرد؛ لم يعمل بولك على تحسين السجلات التاريخية للشمال والجنوب، بل قدمها كما هي.

- صحافي وكاتب سوري


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.