مع كل حكم بالإعدام يصدر في بغداد بحق المتطرفين الفرنسيين الـ12 الذين نقلوا من أيدي «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) من شمال شرقي سوريا إلى العراق، يزداد حرج السلطات الفرنسية وتقوى موجة «استهجان» السياسة التي تتبعها في هذا المجال. وآخر ما استجد أمس، البيان الصادر عن 44 محاميا ونشر على الموقع الإلكتروني للقناة الإخبارية «فرنس إنفو» الذي وصف النهج الحكومي بأنه «وصمة عار» على عهد الرئيس إيمانويل ماكرون. واعتبر موقعو البيان أن خيار السلطات «رفض استعادة مواطنيها وتعريضهم لأحكام الإعدام بموجب محاكمات متسرعة تنتهك بشدة حقوق الدفاع» ليس أقل من سوقهم إلى «اغتيال قانوني» أي أن «أحكام الإعدام» تخلت عنها غالبية بلدان العالم. وطالب المحامون الموقعون وبعضهم موكل للدفاع عن «الداعشيين»، بتوفير «محاكمة عادلة تحترم الحقوق الأساسية» للمتهمين الذين ترفض فرنسا رفضا قاطعا استعادتهم ومحاكمتهم على أراضيها. وتقوم الحجة الحكومية على اعتبار أنه تتعين محاكمة المتهمين في الأماكن التي ارتكبوا فيها جرائمهم أي في سوريا والعراق. والحال أن الأكثرية الساحقة من هؤلاء موجودة بأيدي «قسد» والمنطقة التي تديرها مع مسد «مجلس سوريا الديمقراطية، الذراع السياسية لقسد» لا تشكل دولة وبالتالي ليس لديها قضاؤها. ولذا، فإن باريس ضغطت من جهة على الحكومة العراقية لكي تقبل نقل دفعة أولى «13 متهما» إلى سجونها.
ومن بين هؤلاء هناك 12 فرنسيا وتونسي واحد وقد حكم حتى اليوم على تسعة منهم بالإعدام لانتمائهم إلى «داعش». وبعكس ما يساق حول «تسرع» القضاء العراقي وميله المستفيض للنطق بأحكام الإعدام من غير وجود تحقيق عادل ودفاع متمكن، فإن وزير الخارجية الفرنسي أكد أكثر من مرة أن المحاكمات «علنية» وجاءت «عادلة» وأن حقوق الدفاع قد «احترمت»، كما أن المتهمين يستفيدون من «الحماية القنصلية» التي توفرها فرنسا لكل مواطنيها الذين يمثلون أمام المحاكم خارج التراب الوطني. وفي السياق عينه، تؤكد السلطات الفرنسية أنها «ستتدخل على أعلى المستويات» لدى السلطات العراقية لعدم تنفيذ أحكام الإعدام الذي ألغته من قوانينها في الثمانينات من القرن الماضي. وهنا، تأتي المفارقة: باريس تتدخل، مرة أولى، ليحاكم مواطنوها المتهمون أمام المحاكم العراقية وتتدخل مرة ثانية لدى السلطات العراقية لحجب أحكام الإعدام عنهم. وفي أي حال، وهذه المسألة لم تطرح بعد، فمن المرجح جدا أن ترفض باريس، في حال تحويل أحكام الإعدام إلى أحكام بالسجن مدى الحياة، استعادة مواطنيها لتمضية أحكامهم في السجون الفرنسية. حقيقة الأمر أن الرهان الفرنسي يكمن في أن تقبل السلطات العراقية السياسية والقضائية التخلي عن أحكام الإعدام بمناسبة الاستئناف الذي سيلجأ إليه المحكوم عليهم ولديهم شهر واحد للقيام بذلك.
وسبق لباريس أن حصلت من السلطات العراقية على تخفيف حكم بالإعدام صدر على امرأة فرنسية «داعشية» العام الماضي الأمر الذي يجعلها «متفائلة» بإمكانية الحصول على الشيء نفسه بالنسبة للتسعة أو لعدد آخر غير معروف نظرا لوجود عشرات الدواعش الفرنسيين بأيدي «قسد» التي ربما عمدت إلى تسليمهم إلى العراق.
وتعتقد فرنسا أن لديها القدرة على التأثير على السلطات العراقية وقد قام رئيس وزراء العراق عادل عبد المهدي بزيارة رسمية إلى باريس مؤخرا كما سبقه بداية العام الجاري رئيس الجمهورية برهم صالح بزيارة مماثلة إلى العاصمة الفرنسية. وفي الزيارتين، كان موضوع الداعشيين حاضرا بقوة في المحادثات. ووفق مصادر واسعة الاطلاع في باريس، فإن الجانب الفرنسي وعد بتقديم مساعدات متنوعة بينها دعم عسكري لبغداد.
الثابت أن باريس لن تغير موقفها من استعادة متطرفيها رغم المطالب المتكررة لأكراد سوريا ولدعوات الرئيس الأميركي بهذا الشأن. ومقابل الرفض المطلق لاستقبال الراشدين رجالا كانوا أم نساء من الذين التحقوا بـ«داعش» في سوريا والعراق، فإن ما تقبله فرنسا هو استقبال القاصرين ولكن بعد درس كل حالة على حدة. وحتى اليوم، صمت الحكومة ممثلة بوزارات الخارجية والداخلية والعدل أذنيها عن المطالب المتلاحقة من أهالي القاصرين الذين رفعوا شكاويهم أمام مجلس حقوق الإنسان وأمام الأمم المتحدة وبقيت متمسكة بموقفها المتشدد. ويعود السبب الرئيسي لذلك لرفض الرأي العام استعادة من فضل الالتحاق بتنظيمات إرهابية وعمد إلى اقتراف أعمال شائنة. كذلك يتخوف المسؤولون الأمنيون مما قد يشكله العائدون من خطر على السلامة العامة. وحتى اليوم، لم تغب عن أذهان الفرنسيين الأعمال الإرهابية التي ضربت عدة مدن فرنسية وأولها باريس منذ بداية العام 2015 والتي أوقعت 242 قتيلا وعدة مئات من الجرحى آخرها الاعتداء الذي ضرب «سوق الميلادية» في مدينة ستراسبورغ أواخر العام الماضي.
وهكذا، فإن مسألة الجهاديين المسجونين ستبقى مطروحة ما دام أن المحاكمات جارية ومع كل حكم إعدام سيعود التنديد بسياسة الحكومة ومصدره العائلات المعنية وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان. ولن تكفي التأكيدات الصادرات عن الجهات الحكومية وآخرها ما جاء على لسان الناطقة باسم الحكومة سيبيت نديا التي أكدت مجددا معارضة فرنسا لأحكام الإعدام واستعدادها «للتدخل» واستعدادها للعمل على إنقاذهم من حبل المشنقة. وحتى اليوم، لم تنفذ بغداد أحكام الإعدام بأي من الأجانب «الداعشيين» بعكس العراقيين الذين انتموا إلى هذا التنظيم. ولكن إلى متى سوف تستمر على هذا المنوال ومقابل ماذا؟
حرج لفرنسا إزاء تواتر أحكام الإعدام في العراق ضد متطرفيها
باريس تعد بالتدخل على «أعلى المستويات» للحيلولة دون تنفيذها
حرج لفرنسا إزاء تواتر أحكام الإعدام في العراق ضد متطرفيها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة