على الرغم من عشرات الحرائق التي طالت مساحات واسعة من محصولي الحنطة والشعير في العراق غداة بدء موسم الحصاد، فإن الجهات الرسمية والحكومية ما زالت متأرجحة في تشخيص الجهة الأساسية التي يقع على عاتقها مسؤولية تلك الحرائق، وما إذا كانت الأسباب التي تقف وراءها جماعات «داعش» الإرهابية، أم أن الأمر يتعلق بخصومات شخصية وجرائم جنائية، أو أسباب لها صلة بعملية الإهمال وعدم وجود وسائل حديثة لمكافحة الحرائق.
لكن الأمر المؤكد حتى الآن، واستنادا إلى إحصاءات شبه رسمية، نشرت جزءا منها مديرية الدفاع المدني، أن إجمالي الحرائق زادت على الـ200 حريق، غطت مجمل المحافظات العراقية، عدا إقليم كردستان.
وبدأ هذا التأرجح في أسباب ودوافع حرائق حقول القمح، حتى على تصريحات رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، ففي 28 مايو (أيار) الماضي، ذكر عبد المهدي أن «حرائق محاصيل الحبوب ليست كلها أعمالا عدوانية، بل أغلبها بسبب بعض الخلافات وبسبب ارتفاع درجات الحرارة». وأكد أن «الكميات التي احترقت ليست بالكبيرة جداً، وهذا يحصل غالباً وفي معظم دول العالم في موسم الحرارة الشديدة وهي معدلات متواضعة مقارنة بالدول الأخرى».
ثم عاد عبد المهدي، أول من أمس، وأقر بأسباب أخرى، من بينها الأسباب الإرهابية، وذكر أن «حرائق محاصيل الحبوب تحدث لأسباب جنائية أو إرهابية، ولكن هناك حرائق تحصل لأسباب عرضية كتماس كهربائي أو نزاع أو انتقام، وهناك مزارعون يحرقون التربة لتهيئتها للزراعة». مطالبا بـ«عدم المبالغة في هذا الأمر إذا كنا نريد خدمة وطننا وشعبنا».
ولم تضع تصريحات عبد المهدي أو بيانات وزارة الزراعة التي بدا عليها التضارب هي الأخرى، حدا للتكهنات المختلفة بشأن قضية الحرائق وما زال الجدل حولها متصاعدا بعد نحو ثلاثة أسابيع من اندلاعها.
وكانت وزارة الزراعة رفضت قبل نحو أسبوع في بيان، ما يتردد عن عمليات التخريب المتعمد الذي طال تلك الحقول قبل حصادها، واعتبرت أن عمليات الحرق «مغذيات للتربة، لذا يتم حرق متبقيات الحصاد داخل الحقول لتكون مفيدة لنمو المحصول، وتحسين صفاته النوعية»، ثم عادت الوزارة مطلع الأسبوع الجاري، وبعد ما تردد عن ضلوع «داعش» بقسم من تلك الحرائق وإعلانه الوقوف وراء حرق 13 حقلا، وأصدرت بيانا مطولا تحدثت فيه عن حوادث حرق الحقول.
ورغم أن وزارة الزراعة لم تذكر أرقاماً عن المساحات المحترقة ولا عن أعداد الضحايا من الفلاحين الذين يقال إنهم 15 ضحية، فإنها اعترفت بأهمية «الأوضاع الهشة» التي ما زالت قائمة في محافظات (ديالى، صلاح الدين، نينوى، كركوك) ووقوفها وراء أسباب تلك الحوادث، ومعروف أن أجزاءً واسعة من تلك المحافظات وقعت تحت سيطرة «داعش» بعد يونيو (حزيران) 2014. وكشفت وزارة الزراعة عن قيامها بتشكيل غرفة عمليات مشتركة مع الجهات الأمنية والدفاع المدني بهدف متابعة الحرائق. وأشارت إلى أن «الوضع الأمني والسلم المجتمعي في تلك المحافظات ما زال هشاً وغير ناضج حتى الساعة مما يوفر بيئة مناسبة لحدوث هكذا جرائم منظمة».
ورغم إصرار وزارة الزراعة على التقليل من أهمية المساحات المحترقة، فإن جهات مهنية تقول إنها كبيرة وتتهم المؤسسات الحكومية بـ«عدم الدقة والسعي لعدم عرض الحقائق أمام الحكومة والمواطنين».
وفي 27 مايو (أيار) الماضي، أدلت مديرية الدفاع المدني العراقية، بدلوها حول قضية حرائق المحاصيل الزراعية التي طالت وتطال آلاف الهكتارات من حقول الحنطة والشعير وما زالت تتفاعل بين الأوساط السياسية وأوساط الفلاحين العراقيين والمؤسسات الرسمية المعنية بالشأن الزراعي. وكشفت المديرية حينها عما قالت إنه «إجمالي الحوادث التي وقعت خلال الأسابيع».
وقالت المديرية في بيانها الصادر إن «حصيلة المحاصيل الزراعية التي أحرقت خلال 18 يوماً الأخيرة بلغت 136 حادثا، وإن مجموع المساحة المحترقة بلغت 6103 دونمات، ومجموع المساحة المنقذة 118406 دونمات». (يعادل الدونم الواحد نحو 2350 مترا).
وبينما كان الحديث يدور عن حوادث حرق للمحاصيل في نحو خمس محافظات (صلاح الدين ونينوى وديالى وكركوك والأنبار)، التي خضعت أجزاء واسعة منها سابقا إلى سيطرة «داعش»، جاءت إحصائية الدفاع المدني، لتبين أن الحوادث وقعت أغلبية المحافظات العراقية، باستثناء إقليم كردستان. وعاد مدير الدفاع المدني، كاظم سلمان بوهان، أول من أمس، ليعلن عن حصيلة جديدة للحرائق بلغت «191 حريقاً اندلع في كل العراق، أتى على 550 ألف دونم، وتضرر أقل من 8000 دونم كلياً والباقي تم إنقاذه». وبيّن بوهان في تصريحات صحافية أن «المساحات المحروقة تمثل نسبة أقل من 1 في المائة، من إجمالي المساحة المزروعة في العراق البلغة 13 مليون دونم»، معتبرا أن «الحرائق في موسم الزراعة وموسم الحصاد، أمر طبيعي ومعتاد عليه، ومن أسبابه، تطاير شرارة من الحاصلات من المكائن والعجلات التي تنقل الحصاد، وأعقاب السكائر، وعبث الأطفال، وفرضية التعمد أيضا موجودة والخلافات الشخصية؛ خصوصاً في كركوك نتيجة خلافات ونزاعات ملكية على الأراضي».
ولاحظ الخبير في الشأن الزراعي حسين هادي في تصريحات سابقة لـ«الشرق الأوسط» أن «إحصاءات الدفاع المدني الجديدة لم تبدد الشكوك حول طبيعة ما حدث والأسباب التي وقفت وراء حوادث الحرق للمحاصيل الزراعية». كما أنه «لم يتطرق لأسباب الحرائق وما إذا كانت متعمدة كما يقول كثيرون، أو أنها كانت نتيجة الإهمال وضعف وسائل مكافحة الحرائق».
وما زال رئيس «الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية والتعاونية» حسن نصيف التميمي الذي أعلن في وقت سابق عن مقتل 15 فلاحا نتيجة الحرائق، يتمسك برأيه الذي يذهب إلى أن «الحرائق مدبرة وتقف ورائها جهات معادية». ويقول التميمي في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن «الحرائق مستمرة في صلاح الدين وكركوك ومناطق أخرى، وهي من فعل جماعات إرهابية وإجرامية، سواء كانت تابعة لـ(داعش) أو غيرها، وهناك خسائر متزايدة في الأرواح والمعدات، إضافة لخسارة الفلاحين لمحاصيلهم». ويرى التميمي أن «البيانات الرسمية ومنها بيان الدفاع المدني فيها تسويف كبير، الإصابات والخسائر في الأرواح موجودة وتركزت في معظمها في محافظات كركوك وصلاح الدين، هم يتحدثون عن عمليات تماس كهربائي تصيب الحقول وتحرقها، وأنا أتساءل: أين هي أسلاك الكهرباء في جزيرة صلاح الدين ومناطق الدبس والحويجة في كركوك لتحرق المحاصيل؟». ويضيف: «نحن لسنا ضد جهة معينة ونركز في كلامنا ومطالباتنا على ضرورة إيقاف الجهات المعادية التي تسعى عن عمد للإضرار بالاقتصاد الوطني والكشف عن مخططاتها المشبوهة».
وعن التضارب الذي لازم معظم التصريحات الحكومية الرسمية، يشير التميمي إلى أن بعض «الجهات الرسمية تسعى إلى عدم مواجهة حقيقة ما يحصل وتتجنب ذكر الأرقام الصحيحة للخسائر بالأرواح والممتلكات، لكننا نرى ضرورة وضع الحكومة بصورة ما يجري».
وعن نسبة الحرائق المتعمدة في المحاصيل الزراعية، يؤكد التميمي أن «أكثر من 90 في المائة من تلك الحرائق متعمدة وتمت بتخطيط وترتيب مسبق من جهات إجرامية ومعادية».
إلى ذلك، علق النائب عن تحالف «البناء» محمد صاحب الدراجي، أمس، على استمرار حرائق الحقول والمحال التجارية، ودعا «ساخرا» إلى تشكيل جهاز ومحكمة لمكافحة «التماس الكهربائي».
وقال الدراجي في تغريدة على حسابه في «تويتر»: «حرق المحاصيل، وحرق سوق الصفافير، وحرق شورجة جميله كلها تماس كهربائي!». وأضاف: «في العراق فقط كهربائنا تحرق لكنها لا تنير، فكم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها الكهرباء». وتابع: «نحن بحاجة إلى جهاز ومحكمة لمكافحة التماس الكهربائي».
تضارب عراقي حول نيران المحاصيل بين «داعش» و«التماس الكهربائي»
191 حريقاً أتى على 550 ألف دونم... ومقتل 15 فلاحاً
تضارب عراقي حول نيران المحاصيل بين «داعش» و«التماس الكهربائي»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة