هل الثقافة الليبرالية في خطر؟

TT

هل الثقافة الليبرالية في خطر؟

هل الثقافة الليبرالية في خطر؟ يتذكر الكثيرون النشوة الجارفة لأقطاب الفكر الليبرالي التي صاحبت انهيار الاتحاد السوفياتي، والمرحلة التي تلته، فلا يمكن أن ننسى التيارات التبشيرية التي تمحورت حول إعلان انتصار الفكر الليبرالي، بشقيه السياسي والاقتصادي، بعد صراع مرير مع الاشتراكية، ومن قبلها الفاشية، على مدار الحرب الباردة وما قبل الحرب العالمية الثانية، مما دفع مفكرين عظماء لتأكيد نظرية «السلام الديمقراطي»، أي أن الديمقراطيات لا يحارب بعضها بعضاً، وأن النظم الديمقراطية بطبيعتها تجنح للسلم لأنها مبنية على مفاهيم الحرية وتداول السلطة ومبادئ المراجعة المؤسسية لتصحيح أي سياسات عنيفة أو قسرية قد تُتبع، ولكن الأهم قد تكون رسالة «فوكوياما» الذي ادعي في كتابه الشهير «نهاية التاريخ» أن انتصار الفكر الليبرالي على المستوى الدولي، ومعه آليات السوق الحر، هو آخر محطات الحركة الفكرية الإنسانية.
وعبثاً حاولت كوكبة من المفكرين الغربيين تفكيك هذه الصيغة المتحجرة الأحادية، والصمود أمام هذا التيار الجارف، فنالت من الاتهامات ما نالت، على رأسها اتهامهم بمحاباة الديكتاتورية وعشق الشمولية، خصوصاً رواد المدرسة الواقعية والواقعية الجديدة في السياسة، ذلك رغم أن فكرهم كان أقرب إلى الاختلاف في المنهجية التي بُنيت عليها نظرية «نهاية التاريخ»، والعظمة المطلقة للنظم الليبرالية التي لا تأخذ في الحسبان التطورات الإنسانية. وإلى هنا، فالأمر لا يخرج عن النطاق الطبيعي لنشوة تسيد فكر وثقافة لمعسكر منتصر، وهي نشوة لم يخل التاريخ من نماذج متكررة لها تكون مرتبطة بتقلبات في القوى الدولية.
ولكن يبدو أن الحاضر يعكس حقائق جديدة لديناميكية الحركة الزمنية، وأثرها على الفكر الدولي، بعد مرور ثلاث حقب على انهيار الاتحاد السوفياتي، فالمتابع لكتابات ومحاضرات «فوكوياما» ذاته مؤخراً يرى أنها تدق ناقوس الخطر لنظرته المتفائلة السابقة، بعد مراجعة متغيرات كثيرة على مدار أكثر من حقبتين، فهو يرى أن عام 2008 شهد بداية انحسار التيار الفكري الليبرالي العالمي على مستويين: الأول سياسي، والثاني اقتصادي.
فعلى المستوى الأول، تلاحظ له ما سماه «الكساد الديمقراطي»، بعد تراجع الليبرالية في كثير من الدول، خصوصاً مع انتشار ما أطلق عليه «التيار الشعوبي» الذي سيطر على نسبة من دول أميركا اللاتينية، وهو التيار نفسه الذي زحف تدريجياً على أوروبا، وبات يهدد من وجهة نظره مفاهيم ودعائم الديمقراطية التقليدية، رغم أنه خرج من رحمها، فهو تيار يعتمد على زعيم سياسي قوي، يلتف حوله جزءٌ غير هين من الأمة، ويتخذ قراراته على أساس مصلحته الانتخابية الضيقة وآيديولوجيته المتشددة التي راقت للناخب، وليس على أساس سياسيات سليمة على المدى المتوسط والطويل. ويؤكد هذا التحليل أن أخطر تبعات هذا التيار كارثة التطرف الفكري والثقافي المصاحب له، الذي يخالف الأسس الليبرالية للمجتمعات والنظم الديمقراطية، فيتولد منه على سبيل المثال إما حركات كراهية الأجانب «الزينوفوبيا»، أو نظريات تفوق عرقي أو تطرف يساري خارج النطاق الاشتراكي الديمقراطي التقليدي في الدول الليبرالية، لا سيما الغربية.
أما على الصعيد الاقتصادي الدولي، فالأمر لم يخل من المشاكل، فقد شهد العالم حالة من الانفتاح الاقتصادي والتجاري والاستثماري حتى عام 2008، نتج عنها مضاعفة الدخل قرابة أربعة أضعاف على المستوى الدولي، ولكن هذه المضاعفة جاءت إما بقيمة دفترية، أو أنها لم تهبط إلى الطبقات الأدنى، فظلت معلقة لصالح الطبقات الغنية. أما على المستوى الاجتماعي، فكثير من الدول الليبرالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة ذاتها، شهدت انخفاض مستوى دخل نصف الطبقة الوسطي تقريباً، مقارنة بالفترات الزمنية السابقة لهذا الانفتاح.
فهل تدفعنا كل هذه المتغيرات الدولية للتشكيك في «الحتمية المستقبلية» لأصحاب التيار الليبرالي المتعصب؟ حقيقة الأمر أننا أمام خلافين رئيسيين: الأول ما بين رافضي ومؤيدي ما يمكن أن نسميهم أصحاب نظريات «الحتميات المطلقة» في السلوك الإنساني بصفة عامة، والثاني بين مؤيدي ورافضي الإقرار المطلق بالليبرالية المتوحشة، بجناحيها السياسي والاقتصادي وذيلها الاجتماعي. فالخلاف الأول في التقدير يمثل خلافاً «منهجياً» ضد مفهوم المطلق، مؤكدين أن التطورات البشرية على مر التاريخ تفرض علينا رفض مفهوم الثبات والحتمية مهما تم تجميله، خصوصاً أن قوالب الفكر اختلفت مع منحنيات التقدم التاريخي، وستظل كذلك مستقبلاً. أما الخلاف الثاني فهو أكثر خصوصية، وينضوي تحته مراجعة لمفردات الليبرالية ذاتها، لتأخذ في الاعتبار تطور المجتمعات وانحرافاتها، وما قد تفرزه من أجسام فكرية مضادة للتيار ذاته، بما نحتاج معه لمراجعات واقعية لمسيرة المجتمعات والقوالب الفكرية المطلقة، بل والمتشددة التي تحكمها.
وواقع الأمر أن المشكلة لا تكمن في حقيقة أن التيار الليبرالي بمشتقاته الديمقراطية وآليات السوق يعد بالفعل أفضل ما أنتجه السلوك والفكر الإنسانيين، ولكننا يجب أن نتذكر أن عبادة «الأوثان المفاهيمية» يمكن أن يكون أكبر خطر يهدد المفهوم ذاته، أفلم تنجب الديمقراطية الألمانية أسوأ الأنظمة الشمولية، ممثلة في النازية؟ فهل سيلد لنا التيار الشعوبي المُحدث فكراً عاقاً ينافي مبادئ المجتمع ذاته؟ ألم يعلمنا التاريخ أننا يجب أن نراجع فكرنا ونصحح انحرافاته لمواجهة الظروف المحيطة حتى لا نُستعبد فكرياً فنسمح للانحرافات أن تجرفنا إلى الظلمات؟



«زقاق» ينظم ورش عمل فنية لإحياء الدور الثقافي في زمن الحرب

تدريبات منوعة على الأداء الفني (مسرح زقاق)
تدريبات منوعة على الأداء الفني (مسرح زقاق)
TT

«زقاق» ينظم ورش عمل فنية لإحياء الدور الثقافي في زمن الحرب

تدريبات منوعة على الأداء الفني (مسرح زقاق)
تدريبات منوعة على الأداء الفني (مسرح زقاق)

كخليّة نحل يعمل فريق مسرح « زقاق» لإبقاء التواصل بين الخشبة وهواتها. ورشة فنية تلو الأخرى ينظمها كلٌّ من مايا زبيب، ولميا وعمر أبي عازار، ومحمد حمدان، وجنيد سري الدين. يتناولون معاً موضوعات مختلفة منها المعالجة الدرامية والتمثيل والإنتاج المسرحي. وتحت عناوين مختلفة ينظم فريق «مسرح زقاق» البيروتي لقاءات وورشاً تطبيقية.

كان من المفروض أن تحتفل خشبة «زقاق» بعيد تأسيسها الـ18 هذه السنة، ولكن مع نشوب الحرب في لبنان قرّرت تأجيلها بعد عام كامل من التحضير لها. وتوضح مايا زبيب لـ«الشرق الأوسط»: «قرّرنا الاستعاضة عن هذا الاحتفال بورشٍ فنية ننظمها، وهدفها الإبقاء على جسر التواصل بين المسرح وهواته. ومن بين نشاطاتنا (عشْ... ابقَ) الذي أطلقناه في 26 الحالي».

ورش العمل في مسرح زقاق تجذب هواة الخشبة (مسرح زقاق)

في هذه الورشة يتشارك الجميع تجاربهم ويصغي بعضهم إلى بعض. وتوضح زبيب: «نهدف في هذه الورشة إلى كسر العزلة بين المسرح ورواده. ومن خلال هذا المنبر المفتوح نستقي طاقة الاستمرار لأن في اللقاء قوة. وفي هذا المُلتقى نستقبل مداخلات الناس كلٌّ حسب رغبته. وتتضمن قراءة النصوص، والموسيقى، والحكاية أو سواها، إضافة إلى الأعمال الفنّيّة المختلفة من مسرح وموسيقى وتجهيزات فنّيّة وأفلام سينمائية وسواها من الأشكال التواصليّة والتعبيريّة والفنيّة. وتتناول في طرحها التفكّر ومشاركة التجارب حول اللحظة الراهنة».

لا تزيد مدة المداخلة على 10 دقائق ويجتمع في الورشة الفنان والممثل وهواة المسرح. «الجميل في الموضوع هو أننا نلاقي إقبالاً ملحوظاً، فيأتينا الطّلاب وهواة الفنون من كل حدب وصوب. وفي ورشة «رسائل من فوق الأرض» نضطر إلى تفسير موضوع شائك أو حدثٍ معين لم يستوعبه كثيرون، فنُسلّط الضوء عليه من نواحٍ عدة. كما أن لدينا اتصالات مع فنانين من خارج لبنان، نتفاعل معهم عبر شبكة تواصل ضخمة نملكها».

عبر هذه الشبكة ندعو فنانين من الخارج. وتُتبادل الخبرات بين مسرحيين لبنانيين وأجانب، يتناوبون على تقديم أعمالٍ بين لبنان والخارج.

ومع مجموعة شباب مدرّبين على العمل المسرحي قدّم «زقاق» عملاً بعنوان «فلنجعل هذه الغابة رائعة من جديد». وتستطرد مايا زبيب في سياق حديثها: إن «الأفكار كثيرة لا سيما أننا نملك خبرة طويلة مع الخشبة يتجاوز عمرها الـ18 عاماً».

تدور هذه الورش مرّة في الأسبوع، ويجد روادها الدّعمين الاجتماعي والنفسي المطلوبين. وعن ورشة المسرح العلاجي «الخيال كفعل» تُوضح زبيب: «عملنا على تطوير أسلوب المسرح العلاجي ونعلّمه بدورنا لطلاب جدد لنتساعد. أحيانا يتحكّم حدث معين بنوع الورشة المقامة، كما حصل في وقت انفجار المرفأ. جُلْنا يومها على المدارس والمخيمات، والتقينا الناس في ورشة خاصة بالمدينة، فأعدنا الاتصال بين لغة العقل والجسد عندهم». وتتابع :«في هذا النوع من الورشات نخوض تجربة جماعية تُحفّز على عمليّةِ التجدّد الذاتيّ، بالاستناد إلى تقنيّات الوساطة المسرحيّة. فنعمل معاً على تعزيزِ قدرتِنا على التعامل مع هذه الظروفِ الصعبة، عبر توظيفِ القوّة الكامنة فينا وقدرتها على إحداث التغيير».

ورشة أخرى ينظمها فريق العمل بعنوان «ورشة عمل تحريكية»، في 5 و12 و19 ديسمبر (كانون الأول)، ترتكز على تعلّم كيفية شبك جميع حواسنا بعضها مع بعض. «نعتمد هذا النوع من الورش لتجاوز صدمات نفسية نصاب بها إثر حادث نتعرض له. فهي غالباً ما تتسبب بفقداننا الشعور بحواسنا إثرها».

الموسيقى تدخل ضمن برنامج ورش المسرح (مسرح زقاق)

وتقدّم هذه الورشة الحركيّة للمشاركين تمارين هادئة تهدف إلى استعادة اتصالٍ طبيعيٍّ وفعّال بين الجسد والعقل، وكذلك إيقاظ قدرة الجسد الفطريّة على التجدد. وتجمع الورشة في عملها مجالات التحرّك الجسدي، والاستكشاف الداخلي الخلّاق، وممارساتِ التنفّس الواعي، وتقنيّاتِ الاستيقاظِ الذاتيِّ، لتوفر بذلك مساحة للاسترخاء العميق، وتحريرِ المشاعر، وإدراك الذات، وتحفيز الحضور الذهني. ويختبر المشاركون التحركَ وفق إيقاعهم الخاص، مستفيدين من المعرفة الكامنة في أجسادهم من أجل تحري التوترات العميقة، ممّا يعزّز لديهم شعوراً متجدّداً بالثبات والهدوء.

ومن الورشات الفنية الأخرى نتوقف عند «ما العمل؟»، وتضيف مايا زبيب لـ«الشرق الأوسط»: «سننظمها في 2 و3 و4 ديسمبر. وتقوم على تعاون بين الفنان جنيد سري الدين والحضور. وهي ورشة لابتكار أعمال فنية شخصية تنبع من الواقع الحالي، فتحاكي اللحظة التي نعيشها ونواجهها. وتطمح إلى بلورة أعمال انطلاقاً من فكرة ما أو رغبة ما، وتسهم في إنجاز مخطّطها في وقت قصير ومحدّد. ونختبر في هذه الورشة تقنيّةً تجريبية في مواكبة هذا الزمن».

ومن الورش الأخرى التي ينظمها «زقاق» واحدة بعنوان «التواصل القصدي» في 2 و3 و9 ديسمبر، مع محمد حمدان، تُستكشف خلالها تقنية التواصل القصدي من خلال الكتابة. وتعمل على تحفيز عملية إدراك الذات والقدرة على اتخاذ القرارات المناسبة.