حتى قبل أن تطأ قدمه بريطانيا ترمب يقحم نفسه في شؤونها الداخلية

زكّى بوريس جونسون المؤيد الشرس لـ«بريكست» والأوفر حظاً لخلافة ماي

زيارة الرئيس ترمب تأتي في ظلّ مناخ سياسي صعب في بريطانيا (رويترز)
زيارة الرئيس ترمب تأتي في ظلّ مناخ سياسي صعب في بريطانيا (رويترز)
TT

حتى قبل أن تطأ قدمه بريطانيا ترمب يقحم نفسه في شؤونها الداخلية

زيارة الرئيس ترمب تأتي في ظلّ مناخ سياسي صعب في بريطانيا (رويترز)
زيارة الرئيس ترمب تأتي في ظلّ مناخ سياسي صعب في بريطانيا (رويترز)

تدور التساؤلات الآن حول النبرة التي سيعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في زيارته الثانية لبريطانيا، التي تدوم ثلاثة أيام، وتبدأ باحتفال في قصر باكنغهام غداً (الاثنين)، يليه غداء مع الملكة إليزابيث الثانية، ثمّ مأدبة رسمية مساءً، أُقيمت من قبل أيضاً على شرف الرئيسين السابقين جورج بوش وباراك أوباما.
زيارته السابقة لبريطانيا دفعت الآلاف إلى النزول إلى الشارع احتجاجاً. وتخللتها مقابلة صادمة مع صحيفة «ذي صن» تنتقد بشدة رئيسة الوزراء. وفي صيف عام 2018 احتسى ترمب الشاي مع ملكة بريطانيا في قصر ويندسور، لكنه لم ينل حينها كل امتيازات زيارة الدولة.
وسيتم بالتأكيد بحث مستقبل العلاقات بين واشنطن ولندن خلال زيارة الدولة التي تنتهي الأربعاء بمراسم في بورتسموث (جنوب إنجلترا) في الذكرى السنويّة الخامسة والسبعين لإنزال الحلفاء في السادس من يونيو (حزيران) 1944، وكما جميع أسلافه، سيؤكد ترمب «العلاقة المميزة» التي تجمع بين بريطانيا والولايات المتحدة.
وتقول هيذر كونلي من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: «برأيي إن ما ينتظره الرئيس بفارغ الصبر هو لقاءاته مع العائلة المالكة». خلال زيارة الدولة هذه، سيُجري ترمب محادثات مع ولي العهد الأمير تشارلز. والأمير تشارلز معروف بمواقفه المؤيدة لمكافحة ارتفاع حرارة الأرض بينما قررت إدارة الرئيس الجمهوري الأميركي الانسحاب من اتفاق باريس حول المناخ الذي ينص على التزامات بخفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون من قِبل الدول الموقِّعة على النص».
حالياً، وحتى قبل أن يطأ ترمب التراب البريطاني، أُطلقت الدعوات بالتظاهر وانطلق الجدل. ورفض كذلك زعيم المعارضة العمالية جيريمي كوربن، حضور العشاء الرسمي. واعتبر من غير المناسب بسط السجاد الأحمر لرئيس «يمزق الاتفاقات الدولية الحيوية ويؤيد نفي وجود تغير مناخي ويتحدث بخطاب عنصري ومسيء للمرأة». وترى الباحثة هيذر كونلي، كما نقلت عنها الصحافة الفرنسية: «إذا توقفنا للتفكير في العلاقة بين واشنطن ولندن نجد أنها مليئة بالخلافات». وذكرت كونلي مثلاً الموقف من إيران ورغبة بريطانيا في حماية الاتفاق النووي المهدّد بسبب ترمب. الصين وملف مجموعة «هواوي» العملاقة للاتصالات الشائك قد يدخلان أيضاً في المناقشات، بالإضافة إلى مشروع الاتفاق التجاري بين واشنطن ولندن الذي لم يحصل فيه أي تقدم ملحوظ حتى الآن.
وتأتي زيارة ترمب، الذي لم يخفِ قط إعجابه بالتشريفات والسجاد الأحمر، في ظلّ مناخ سياسي صعب في بريطانيا التي تبحث عن خلف لرئيسة الوزراء تيريزا ماي وعن سبيل لتنفيذ «بريكست». وصرّح مساء الجمعة بأنّ وزير الخارجيّة البريطاني السابق بوريس جونسون سيكون رئيساً «ممتازاً» للحكومة البريطانيّة خلفاً لتيريزا ماي التي ستستقيل من المنصب بعد أيام بعد إخفاقها في تنفيذ «بريكست». وقد استدعت جونسون محكمة في لندن، الأربعاء، للمثول في جلسة تمهيدية لم يُعرف موعدها، بتهمة الكذب حول كلفة انتماء المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي خلال الحملة للاستفتاء.
وتحدث ترمب من جديد عن تماهيه مع بوريس جونسون المؤيد الشرس لـ«بريسكت» والأوفر حظاً لخلافة تيريزا ماي، وكذلك مع المعارض الذي لا يكلّ للمشروع الأوروبي نايغل فاراج. وقال ترمب: «أحبهما حقاً، إنهما صديقان (...) إنهما رجلان جيدان». ولم يعلن البيت الأبيض عن لقاء مقرر مع الرجلين، لكنّ الأمر غير مستبعد. ورداً على سؤال صحيفة «ذي صن» الشعبية حول المرشّحين الـ12 لمنصب رئيس الوزراء، قال ترمب إنّ «بوريس سيقوم بعمل جيّد. أعتقد أنّه سيكون ممتازاً».
وبوريس جونسون (54 عاماً) أحد المهندسين الرئيسيين لـ«بريكست»، هو من المرشحين المستعدين للخروج من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق في 31 أكتوبر (تشرين الأول). وقال رئيس بلدية لندن السابق بشأن خروج بلا اتفاق، إن «أي شخص عاقل يجب أن يبقي هذا الاحتمال مطروحاً» لإعادة التفاوض مع المفوضية الأوروبية حول شروط الانفصال.
وقال ترمب: «أحببتهُ على الدّوام. لا أعلم ما إذا كان سيتمّ اختياره، لكن أعتقد أنّه رجل مناسب للغاية وشخص موهوب جدّاً». وأكد ترمب أيضاً أن مرشحين كثراً لخلافة ماي طلبوا دعمه، من دون أن يكشف أسماءهم. وكرر انتقاداته للطريقة التي تفاوضت بها تيريزا ماي حول «بريكست» مع الاتحاد الأوروبي، معتبراً أن الأوروبيين «ما كانوا سيخسرون شيئاً» لأن ماي «تركت كل الأوراق بين أيديهم». وأضاف: «قلت لتيريزا ماي إن عليها أن تعدّ العدة أولاً». وأضاف: «أعتقد أن المملكة المتحدة تخلت عن كل الأوراق للاتحاد الأوروبي»، مؤكداً أنه «من الصعب جدّاً اللعب بشكل جيّد حين يكون لدى طرف واحد كلّ الأفضلية».
وبعد مفاوضات شاقة استمرت 17 شهراً، توصلت ماي في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي رفضه البرلمان البريطاني ثلاث مرات، مما اضطرها إلى طلب تأجيل الخروج فعلياً من الاتحاد الذي كان مقرراً في 29 مارس (آذار)، إلى 31 أكتوبر، ثم إلى إعلان استقالتها الأسبوع الماضي.
أما محور ختام الزيارة فستكون الذكرى الخامسة والسبعون لإنزال النورماندي التي سيُحتفى بها في مراسم في بورتسموث جنوب البلاد بحضور الملكة. وبعد ذلك، يقوم ترمب وزوجته ميلانيا بزيارة قصيرة إلى آيرلندا قبل أن يغادرا في 6 يونيو إلى النورماندي لحضور احتفالات تنظمها فرنسا بمناسبة ذكرى الإنزال.

ترمب يطلق حملته الانتخابية في فلوريدا
> أكد الرئيس ترمب رغبته في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة وقال إنه سيُطلق حملته لولاية ثانية في فلوريدا الولاية الرئيسيّة التي فاز فيها خلال انتخابات 2016. وكتب على «تويتر»: «سأعلن ترشّحي لولاية رئاسيّة ثانية مع السيّدة الأولى ميلانيا ونائب الرئيس مايك بنس (...) في 18 يونيو (حزيران) في أورلاندو». وينوي ترمب التركيز على الوضع الجيد للاقتصاد الأميركي لشغل رئاسة أكبر قوة في العالم لأربع سنوات أخرى. ويؤكد ترمب الذي سيبلغ الثالثة والسبعين بعد أسابيع، باستمرار أنه ينتظر بفارغ الصبر خوض الحملة. وقال في بداية الشهر الماضي في مدينة بنما سيتي بيتش في فلوريدا، حيث لقي تأييداً هائلاً: «أريد أن تبدأ هذه الحملة الانتخابية فوراً». وفلوريدا ولاية تشهد تقليدياً منافسة حادة. وقد فاز فيها باراك أوباما في 2012 على ميت رومني بفارق لا يتجاوز 1 في المائة، كما فاز فيها ترمب على هيلاري كلينتون في 2016 بفارق يزيد قليلاً على واحد في المائة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟