الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد

بين أسوار القصر وطموح الدبلوماسية ومناصرة حقوق المرأة

الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد
TT

الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد

الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد

لقد تحدثوا من دون مترجم!
عبارة ترددت في العديد من وسائل الإعلام اليابانية لوصف ما حدث خلال استقبال الإمبراطور الياباني ناروهيتو والإمبراطورة ماساكو للرئيس الأميركي دونالد ترمب والأميركية الأولى ميلانيا ترمب في بداية الأسبوع الحالي (الاثنين 27 مايو/ أيار).
العفوية والراحة اللتان سادتا كلاً من اللقاء والمأدبة المقامة في القصر الإمبراطوري على شرف ترمب بصفته أول زعيم أجنبي يلتقي الإمبراطور الجديد، شكلتا صورة غير معهودة للأسرة الإمبراطورية. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي توالت التعليقات الإيجابية من المتابعين اليابانيين، وخصوصاً تلك التي تعبر عن الإعجاب بالإمبراطورة ماساكو وسلوكها الراقي وقدرتها على التحدث بالإنجليزية بطلاقة (وهو أمر يعدّ نادراً حتى بين كبار المسؤولين في بلد يعرف بانعزاليته اللغوية رغم تقدّمه الاقتصادي). حتى صحيفة «النيويورك تايمز» وصفت الإمبراطورة ماساكو بأنها كانت «نجمة» خلال زيارة ترمب، وهي الصحيفة ذاتها التي كانت قد عنونت مقالاً سابقاً عنها بعبارة «إمبراطورة في قفص». فما الذي حدث؟ وهل ستستطيع الإمبراطورة تحقيق تغيير حقيقي في المؤسسة الإمبراطورية التي تُعرف بصرامتها الفائقة؟

انتهى عصر «هيسي» الإمبراطوري في اليابان مع نهاية شهر أبريل (نيسان) المنصرم بعدما استمر 31 سنة. وفي اليوم الأول من شهر مايو 2019 دخلت اليابان عصراً إمبراطورياً جديداً باسم «ريوا». وواكب هذا الانتقال مناخ احتفالي غير مسبوق في اليابان، ذلك أن مراسم تولي إمبراطور جديد لمهامه تترافق عادة مع مراسم الحداد على إمبراطور راحل. ولكن هذا الأمر لم يحدث هذه المرة بفضل تنحي الإمبراطور السابق أكيهيتو رسمياً عن العرش ليصبح بمثابة «الإمبراطور الأب»، مفسحاً المجال أمام ابنه ولي العهد ناروهيتو ليتبوأ عرش أعرق سلالة حاكمة في العالم، وإلى جانبه زوجته الإمبراطورة ماساكو.

مناسبة استثنائية

عاشت اليابان، إذاً، حالة من النشوة تشبه ما يحدث عادة في فترة رأس السنة...
عاشت مختلف أنواع التعبيرات الثقافية والسلوكية المتعلقة بهذا الحدث، بدءاً من إبرام عقود زواج بعد منتصف تلك الليلة ووصولاً إلى التنزيلات في المتاجر والبضائع التي تحمل اسم العهد الجديد. غير أن الحدث الأكثر أهمية على الإطلاق تمثل في إقامة شعائر تكريس الإمبراطور الجديد في منصبه وفق ديانة الشينتو التي تنتمي لها الأسرة الإمبراطورية.
إنها طقوس فريدة تابع العالم تفاصيلها المنفذة بأناقة ودقة شديدتين، تتضمن تسليم الكنوز الثلاثة التي تتوارثها السلالة الإمبراطورية، وهي الجوهرة والسيف والمرآة، ولائحة طويلة من المراسم التي لم تتغير منذ قرون.
ولكن القواعد التي تحكم تلك الطقوس تنصّ أيضاً على تحريم حضور الإناث من الأسرة الإمبراطورية، وهو ما عنى غياب الإمبراطورة ماساكو عن مراسم تكريس الإمبراطور. ويكتسب هذا الغياب بعداً رمزياً بالغ الوضوح هذه المرة، نظراً لصورة الإمبراطورة الحالية ماساكو كامرأة عملت على اقتحام عوالم كان محصورة على الذكور في المجتمع الياباني. فماساكو أوادا، التي تخرّجت في جامعة هارفارد، وعملت في وزارة الخارجية، كانت من الدفعة الأولى من السيدات اللواتي استطعن تلقي معاملة مماثلة إلى حد ما مع نظرائهنّ من الرجال في الوزارة إثر تغييرات كان قد طال انتظارها في قوانين الحكومة اليابانية.
وكانت أقاويل كثيرة انتشرت عن تردّدها في قبول الزواج بولي العهد، وتخوّفها من القواعد التي ستتحكم بتصرفاتها ما إن تدخل القصر الإمبراطوري. وهو ما حدث فعلاً وبشكل ربما فاق تصورها، إذ عانت من عوارض نفسية نشأت عن الضغط الذي واجهته لسنوات، وتأخرت في إنجاب طفلتها الوحيدة آيكو... التي تُعرف باسمها الإمبراطوري الأميرة توشي.

أصل الأسرة

ولدت ماساكو أوادا لأسرة يابانية تعود جذورها إلى عشيرة تحمل الاسم ذاته «أوادا» ازدهر نفوذها في مقاطعة نييغاتا بشمال غربي جزيرة هونشو (كبرى جزر الأرخبيل الياباني) منذ أواسط عصر إيدو في القرن السادس عشر وأنجبت عدداً من الشخصيات المعروفة. أما والدها هيساشي أوادا – الذي يحمل درجة الدكتوراه من جامعة كمبريدج البريطانية، فهو من أبرز الدبلوماسيين ورجال القانون في اليابان خلال العقود الأخيرة، حيث كان سفير اليابان لدى الأمم المتحدة من عام 1994 ولمدة أربع سنوات ترأس خلالها مجلس الأمن مرتين، ثم انضم كقاضٍ إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ليصبح بعدها رئيساً للمحكمة من عام 2009 إلى عام 2012. ووالدتها يوميكو إيغاشيرا أيضاً سليلة أسرة معروفة من الصناعيين ورجال الأعمال.
مسيرة الأب الحافلة بالتنقلات والمناصب اقتضت أن ترتحل الأسرة بشكل متكرر من دولة لأخرى. ماساكو، الابنة البكر للعائلة، ولدت في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 1963. وأمضت فترات من طفولتها ومراهقتها في موسكو ونيويورك وبوسطن، ثم انتسبت لكلية رادكليف في جامعة هارفارد الأميركية الشهيرة عام 1981 حيث درست العلوم الاقتصادية. ومنذ تلك الفترة بدأت بإظهار إمكانياتها القيادية إذ ترأسّت الجمعية اليابانية في كليتها وبرزت كناشطة في مجال العلاقات الدولية حيث كان لها دور فعّال في مؤازرة عمل القنصلية اليابانية في بوسطن، وذلك خلال فترة شهدت توتراً في العلاقات اليابانية الأميركية بسبب غزو الشركات اليابانية للمجال الاقتصادي الأميركي بشكل غير مسبوق، وبروز مخاوف على الجانب الأميركي من تزايد النفوذ الاقتصادي لليابان واختلال الميزان التجاري لصالح طوكيو... وهو ما يذكر بالأزمة الحالية بين واشنطن وبكين. كذلك أمضت ماساكو فترة أثناء المرحلة الجامعية في جامعة غرونوبل في فرنسا ما يفسّر إتقانها للغة الفرنسية أيضاً.
بعد تخرّجها في هارفارد عام 1986 عادت ماساكو إلى طوكيو للتحضير لامتحان دخول وزارة الخارجية في وقت كانت حظوظ النساء شحيحة جداً في دخول الوزارة المرموقة. إلا أن إمكانياتها المميزة ساعدتها على أن تكون من ضمن ثلاث نساء نجحن في الامتحان وباشرن عملهنّ إلى جانب خمسة وعشرين رجلاً قُبلوا ضمن تلك الدفعة.
وخلال العامين التاليين أنجزت عدداً من المهمات بأداء متميز وفقاً لزملائها. وبعدها أرسلتها الوزارة في منحة أكاديمية لدراسة العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد في بريطانيا، ولكنها عادت إلى طوكيو عام 1990 من دون إكمال البرنامج الدراسي.

اللقاء الأول مع ناروهيتو

أثناء مرحلة التحضير لامتحان وزارة الخارجية التحقت ماساكو ببرنامج أكاديمي لمدة ستة أشهر في جامعة طوكيو، وخلال تلك الفترة كان اللقاء الأول بينها وبين ولي العهد الأمير ناروهيتو، وذلك في حفل استقبال أقيم على شرف أميرة من العائلة المالكة الإسبانية. أعجب الأمير بماساكو فوراً واستمر في لقائها لعدة مرات مما أثار اهتمام الصحافة في الشهور التي تلت. ورغم مغادرتها اليابان للدراسة في أوكسفورد لم ينقطع اهتمام ولي العهد بها. وبعدما رفضت عرضه للزواج مرتين نظراً لأن ذلك يعني تخليها عن مسيرتها المهنية الواعدة، قبلت في المرة الثالثة، يوم عيد ميلادها التاسع والعشرين في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 1992. وبينما تدور إشاعات رومانسية حول وعد الأمير الشاب بأنه «سيحميها مدى الحياة» من ضغوط الوكالة الإمبراطورية، فإن الرواية القائلة بأنه أقنعها بكون المهام الرسمية التي تقوم بها الإمبراطورة أحد أنواع العمل الدبلوماسي، تبدو أقرب للصحة. ولقد شهدت مزرعة البطّ التابعة للقصر الإمبراطوري في مقاطعة تشيبا (شرقي طوكيو) عرض الزواج الذي تكلل بالنجاح، وتعدّ المزرعة منذ ذلك الوقت موقعاً رومانسياً بالنسبة لعشاق أخبار الأسرة الإمبراطورية.
في مطلع العام التالي 1993 أعلن رسمياً عن الخطوبة التي تمت في أبريل من العام ذاته. وفي التاسع من يونيو (حزيران) 1993 أقيم حفل زفاف تقليدي ياباني لولي العهد الأمير ناروهيتو وماساكو أوادا التي اكتسبت لقب صاحبة السمو الإمبراطوري ولية العهد، كما جرت تسمية زهرة من نوع الأوركيد باسمها، وفقاً للتقاليد. ويعدّ ذلك الزفاف الثالث الذي يجمع عضواً في العائلة الإمبراطورية بسيدة من العامّة، وهو تقليد لم يبدأ إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتخلي الإمبراطور هيروهيتو عن صفة الألوهية.

الضوابط الصارمة

مع حصول ماساكو على منصبها الرسمي داخل الأسرة الإمبراطورية، بدأت الضوابط الصارمة التي تحكم تصرفات العائلة الإمبراطورية تضيّق الخناق على الأميرة الشابة. وبالإضافة إلى القيود السلوكية كان هناك ضغط الحاجة لإنجاب وريث للعرش الإمبراطوري، وهو ما لم يحصل في النهاية. فبعد ثماني سنوات من الزواج وفترات طويلة من العلاج النفسي والجسدي وحمل لم يكتمل عام 1999. أنجبت الأميرة ماساكو فلذة كبدها الوحيدة الأميرة توشي (آيكو) عام 2001. ولم تنتهِ معاناة الأميرة بعد الإنجاب، بل تفاقمت لدرجة دفعت بولي العهد للتصريح علناً للصحافة عام 2004 بأن موظفي الوكالة يتصرّفون بشكل يهدف لإنكار القدرات الشخصية للأميرة، وأن ذلك قد أثر بشكل مباشر على وضعها الصحي. وعقب ذلك الإعلان، وبإصرار من ناروهيتو والأطباء المشرفين على علاج الأميرة خفّض عدد المهام الرسمية التي تشارك بها إلى ما يقارب الصفر لسنوات، وفي الآن ذاته كانت لديها الرغبة في المشاركة في الرحلات الخارجية لزوجها إلا أن وكالة القصر الإمبراطوري منعتها من ذلك أملاً في رفع فرص إنجابها لطفل آخر يؤمل أن يكون ذكراً.
وفي أواسط العقد الحالي بدأت الأميرة ماساكو بالعودة لأداء جزء من الدور المنوط بها كزوجة ولي العهد. ويبدو أن صحتها النفسية في تحسن مستمر، ولكن المقرّبين والاختصاصيين النفسيين يؤكدون أن الأمر لا يعني أنها قد تعافت تماماً، وأن على من حولها أن يتوقّعوا مرورها بموجات من التحسن والانتكاس على طريق الشفاء.

تاريخ يعيد نفسه

كثيرون من اليابانيين يرون أن التاريخ يكرر نفسه من خلال معاناة الإمبراطورة ماساكو، إذ أن الإمبراطورة السابقة ميتشيكو كانت قد مرّت بظروف مشابهة. ذلك أن ميتشيكو شودا، التي ولدت أيضاً في كنف عائلة ميسورة عالية الثقافة، كانت أول امرأة من العامة تدخل القصر الإمبراطوري بعد زواجها بولي العهد (يومذاك) أكيهيتو عام 1959.
السيدة الأنيقة التي مثلت المرأة المعاصرة، في حينه، وجدت نفسها تنهار تحت عبء الحياة الإمبراطورية وقيودها، حتى أنها فقدت القدرة على النطق لعدة أشهر في ستينيات القرن المنصرم، وتعرضت لانهيار الأعصاب عدة مرات. إلا أنها في نهاية المطاف حازت على إعجاب الكثير من اليابانيين من خلال التزامها بأداء مهماتها الرسمية، وخصوصاً، عند زيارة المناطق المنكوبة بعد الكوارث مع زوجها. كذلك عُرفت بحساسيتها الأدبية وإبداعها الشعري في نظم قصائد «واكا» التقليدية وترجمة أدب الأطفال وتأليف الكتب المصورة للناشئة. ثم إنها حققت بعض التغييرات الفعلية في الممارسات المتبعة داخل القصر، ومنها إصرارها على الإشراف الكامل على تربية أولادها بنفسها، رغم أن التقاليد تنص على أن يتولّى مختصون تربويون الإشراف اليومي على تعليم أولاد الإمبراطور.

ملفات المستقبل

قد يكون من الصعب على الإمبراطورة الحالية أن تجري تغييرات جذرية في مؤسسة ترجع تقاليدها لقرون. وربما يكون الملف الأصعب هو ملف التوريث، إذ أن العرش الإمبراطوري سيذهب بعد الإمبراطور الحالي إلى أخيه الأمير أكيشينو إن كان على قيد الحياة، أو إلى ابن أخيه الأمير هيساهيتو، نظراً لأن القواعد الحالية تمنع وصول أنثى للعرش الإمبراطوري. إلا أن ملفات أخرى قد تشهد تطورات كبيرة، وربما يكون العالم قد اطلع على نموذج من ذلك خلال زيارة الرئيس ترمب لطوكيو.
بعض المختصين بشؤون القصر الإمبراطوري يتوقعون أن تتجاوز الإمبراطورة ماساكو ما أنجزته سالفتها الإمبراطورة ميتشيكو، وأن تتبنى عدداً من القضايا بشكل مستقل عن زوجها، على رأسها قضية رفع مساهمة المرأة في المجتمع وسوق العمل الياباني، وهي مسألة تبدو عصيّة على الحل رغم السياسات المعلنة من الحكومات المتعاقبة لدعم مساواة المرأة بالرجل في الشركات والمؤسسات اليابانية.
أيضاً الإمبراطورة قد تلعب دوراً تكاملياً مع زوجها فيما يخص القضايا البيئية، إذ يعرف عن الإمبراطور أنه متخصّص أكاديمياً في شؤون المياه، وخصوصاً في عدد من مناطق العالم الثالث، أما الإمبراطورة ماساكو فقد انخرطت ضمن عملها في وزارة الخارجية في ملفات السياسة البيئية ضمن إطار علاقة اليابان بمنظمة التعاون الدولي والتنمية التي تضم 30 دولة من الأكثر تقدماً في العالم من الناحية الاقتصادية.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.