لا يختلف اثنان على أن لندن هي عاصمة تفريخ المواهب. فمنها تخرج وخرج جون غاليانو، والراحل ألكسندر ماكوين، وفيبي فيلو، وكريستوفر كاين، وهلم جرا من الأسماء التي تنجح دائماً في تذكير عشاق الموضة بما يتضمنه الابتكار من فنون وجنون. لهذا، ليس غريباً أن أسبوعها، وبعد أن كان الحلقة الضعيفة بين أسابيع الموضة العالمية، بنيويورك وميلانو وباريس، يتصدر الواجهة في العقد الأخير. بعد أن لمّع صورته واشتد عوده، سحب السجاد من تحت بعض هذه العواصم بسهولة. فميلانو مثلاً بدأت تشيخ بالنظر إلى أن معظم مصمميها الكبار تعدوا السبعين، إن لم نقل الثمانين، ونيويورك فقدت بريقها بعد أن طغى التجاري فيها على الفني. باريس وحدها ظلت صامدة، فقط لأنها باريس.
لندن في المقابل، وبعد أن ظلت لسنوات طويلة تواجه نظرات الاستهجان ومواقف التجاهل، ردت بالمزيد من الفنون. لكنها لم تصل إلى هذه المكانة من فراغ، فقد جاءت نتيجة أعمال جبارة يقف وراءها جنود خفاء يعملون من دون كلل ليُبقوا عليها شُعلتها متوهجة. معظم هؤلاء الجنود يعملون في مجالات المال والأعمال، أو استشاريون أو إداريون من المستوى الرفيع. القاسم المشترك بينهم حبهم للفن وللموضة، وتعاطفهم مع المصممين الشباب. من هؤلاء نذكر مثلاً تانيا فارس التي كانت وراء تأسيس «فاشن تراست»، وديزيره بولييه الرئيس التنفيذي لمجموعة «ريتايل فاليو» التي تُدير مجمعات التسوق المعروفة بالـ«آوتليت»، مثل «بيستر فيلدج» في بريطانيا، و«لافالي» في باريس، و«روكا» في إسبانيا، وهلم جرا، وتقدم برنامجاً لمدة سنة كاملة يتدربون فيها على الجانب التجاري والإداري في «بيستر فيلدج». هؤلاء يؤمنون بالموضة البريطانية، ولا يبخلون عليها بتبرعاتهم ولا بخبراتهم، وكان لهم الفضل في تدشين مؤسسات غير ربحية تجمع أموالاً طائلة تصرفها على المصممين الشباب.
فالتحدي الكبير الذي كانت تواجهه صناعة الموضة البريطانية لم يكن يوماً نقصاً في المواهب، بل في الموارد، إلى جانب عدم إلمام بعض المصممين حديثي التخرج بالجانب التجاري. ما تقوم به هذه المؤسسات أنها تُجند عقولاً فذة في هذا المجال لكي تُدربهم حتى يتمكنوا من خلق التوازن المطلوب بين الفني والتجاري.
وبعض هذه البرامج تعمل على توفير منح دراسية للمتفوقين، ممن ليست لديهم الإمكانيات لإكمال دراستهم العليا والحصول على شهادة الماجستير. وهكذا، تقيهم الحاجة إلى السؤال أو التفكير في أشياء أخرى غير الإبداع. برامج كثيرة أخرى تصب في الاتجاه نفسه؛ نذكر منها «فاشن إيست» الذي أسسته لولو كنيدي، كذلك «نيو جين»، وغيرهما. كلها تنضوي تحت مظلة منظمة الموضة البريطانية التي باتت تتمتع بشهرة عالمية، ومثالاً يُحتذى به في مجال تنمية ودعم المواهب الناشئة.
ما اكتشفته المنظمة أنه من الصعب على أي شاب يخطو أولى خطواته في مجال تصميم الأزياء أن يؤسس داراً خاصة به، ويستمر من دون دعم مادي ومعنوي. فعدد كبير منهم يتخرجون وهم شبه نجوم، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يتمتعون به من قدرات هائلة على الابتكار والإبداع، لكن الواقع يصدمهم بعد التخرج، ويجعلهم يرزحون تحت وطأة تكاليف الإنتاج الضخمة التي تتطلبها غالبية المتاجر، ويمكن أن تبدأ من 50 ألف جنيه إسترليني، فضلاً عن عدم خبرتهم في مجال التسويق والترويج لأنفسهم أو إدارة الأعمال.
وغالباً ما تكون السنوات الأربع أو الخمس الأولى من حياتهم المهنية هي الأكثر صعوبة، وهي التي يعاني فيها المصمم من التخبط. تانيا فارس التي ساهمت في تأسيس «فاشن تراست» الذي يخصص مبلغاً محترماً للمصممين المتألقين، عبارة عن جائزة سنوية تشمل أيضاً تدريبات وأنشطة تركز على صقل خبراتهم، تقول إنه مهما كان المصمم موهوباً، فإنه يجد صعوبة كبيرة إذا لم تكن لديه الإمكانيات اللازمة لإطلاق ماركته. وفي عام 2011، عندما أطلقت تانيا فارس مبادرة «فاشن تراست»، لم تكتفِ بالتنظير، بل بدأت فعلياً في تجنيد شخصيات تحب الموضة وتؤمن بها لجمع التبرعات. وكان لبرنامجها نتائج لا تقدر بثمن، ليس أقلها أن «روكساندا» و«إيمليا ويكستيد» و«إريدم» و«ماري كاترانزو» وغيرهم كثر تلقوا جائزة «فاشن تراست»، وكلهم يعترفون بمدى تأثيرها على مسيرتهم. فالجائزة لا تقتصر على مبلغ مالي مهم، بل تشمل أيضاً احتضانهم لمدة 3 سنوات، يتم فيها تقديم النصح والبحث عن سُبل التسويق لهم من قبل أعضاء من الوزن الثقيل، إضافة إلى معاهد الموضة في بريطانيا. وقد تم الإعلان عن أسماء المصممين الفائزين لعام 2019 مؤخراً في حفل كبير، وهم: هيليير بارتلي، وويشان زانغ، و«ماذرر أوف بيرل»، و«بايبر لندن» وشارون وشوب.
وقد استطاعت مؤسسة «فاشن تراست» منذ إطلاقها في عام 2011 جمع مبلغ 2.3 مليون جنيه إسترليني، وتقديم مكافآت شملت 42 مصمماً، سواء على هيئة منح أو إرشادات أو تعليم، وأحياناً تنجح في إيجاد منافذ لهم، ينطلقون منها إلى فضاءات واسعة. فالمستثمرون لا يترددون عندما يكون المشروع ناجحاً، حتى وإن كانت العائدات تتطلب بعض الصبر، مقارنة بالاستثمار في مجالات التجارة أو التكنولوجيا، على سبيل المثال.
أما منحة التعليم للحصول على شهادة الماجستير، فقد أطلقتها منظمة الموضة البريطانية في عام 1998، وتلتها جوائز لدعم طلبة البكالوريوس في عام 2015. وفي العام الماضي فقط، ازداد عدد المنح الدراسية من 11 إلى 21، مما يزيد قيمة الالتزامات المالية للمنظمة من 127 ألف جنيه إسترليني إلى أكثر من 200 ألف جنيه إسترليني، أي بزيادة نسبتها 60 في المائة، مقارنة بالعام الماضي.
وتتزايد أهمية البرنامج سنة بعد أخرى، وتنوي المنظمة تقويته أكثر بزيادة الوعي بأهمية التعليم من جهة، وجمع المزيد من التبرعات من جهة ثانية. وفي العام الماضي، التحق المصمم إريديم موراليغلو بالبرنامج كممول، ليعبر عن امتنانه له كونه تمتع بمنحة منه عندما كان في بداية حياته، قائلاً: «لقد كنت محظوظاً عندما فُزت بالمنحة الدراسية، وكنت طالباً في (رويال كوليدج أوف آرت). الآن، أعرف أكثر من أي وقت مضى أهمية هذه المنحة بالنسبة لأي طالب مبتدئ». المشكلة التي يواجهها طلبة اليوم أن تكاليف الدراسة ترتفع بشكل يعيق كثيراً منهم عن تكملة الطريق، وهذا ما تطمح منظمة الموضة وكل من وراء البرنامج لمكافحته، وهذا أيضاً ما يجعل لندن تغلي وتفور بالشباب.
لندن تتألق بروح الشباب بفضل برامج تدعم المصممين اليافعين
من منح دراسية وجوائز إلى تقديم دورات تدريبية
لندن تتألق بروح الشباب بفضل برامج تدعم المصممين اليافعين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة